جنيالوجيا حقوق الإنسان- المقدمة- الجزء اﻷول  

آدمن الموقع
0

الكاتب: ستيفان ريبﻻس
المصدر: مجلة الحريات - Droits، 1985
الترجمة: عبد الله المتوكل

تمخضت حقوق الإنسان والتي تبدو اليوم، في غالب الأحيان، وكأنها مسألة بديهية وتلقائية، عن تحول عميق طال مفهوم طبيعة الحق. والذي امتد عبر مدة طويلة، منذ أفول العصور الوسطى إلى الثورة الفرنسية. هذا التحول هو الذي ولد، في جميع الميادين، ما يعرف بالحداثة.
في المجال الحقوقي، ما هي الخطوط العريضة، لما كان عليه مفهوم الحق قبل الحداثة ؟ إن ميشال فيلي، وهو نموذج للمفكر أو الفقيه الروماني التائه في نهاية هذا القرن ( الروماني الذي، ربما، أعيد تكوينه جزئيا، لكن ذلك لا يغير في شيء من طابع تفكيره الروماني ) يقول إن الحق، حسب التصور التقليدي الذي نضج في روما بصفة خاصة، هو معرفة بالوقائع وقياس لها، وعلاقة 1 **. وهذا الحق يوجهه قاض محايد، نزيه ومتمثل لفكرة العدالة. فالحق ليس مطلبا ذاتيا بكل وأي شيء كان. كما أنه ليس أبدا – كما يعتقد اليوم – أمرا صادرا عن السيد ونتاجا للإرادةإنه اكتشاف بارع ومتأن ودقيق للنسبة القائمة بين كمية الأشياء الموزعة والكيفيات المختلفة للأفراد، ولتلك القائمة بين الأشياء المتبادلة. إن الحق هو تحقيق لعدالة تعرف كلاسيكيا بكونها تقوم على إعطاء كل ذي حق حقهius suum cuique tribuere  . وهو أمر تقوده الحكمة العمليةPrudence؛ وهي تدبير عملي يتعلق بقاعدة الاختيار، والذي لا ينصب على الاختيار بين خير وشر مطلقين، بل نسبيين وملموسين. ولتحقيق ذلك، لا مجال هنا للصيغ الفضفاضة. بل يتطلب الأمر حضور معنى الوسط العادل ورأي القاضي المستنير بالمناظرة والتشاور، حيث يتطور الجدل لينتهي عبر الآراء المتضاربة إلى اكتشاف حل محتمل. وهو حل لا يدعي بلوغ كمال وهمي أو مفارق، بل يعبر فقط عن إرادة متواضعة للتطابق مع الواقع.
لا شك أن الإنسان كان حاضرا في تفكير القدامى، ككائن متميز باللوغوس، أي بالنطق والعقل والقدرة على الاختيار. ومتمتع بكرامة ذات قيمة سامية، رغم أن العبودية كانت أمرا مسلما به. لكن ما كان غريبا عن الفكر القديم، هو فكرة الحقوق الذاتية، أي تصور حق أساسي مرتبط بالفرد ومستنبط من طبيعته2…
علمنة اللاهوت
إن النزعة الاسمية هي التي حملت في طياتها، القفز بالمجال القانوني إلى الحقبة الحديثة. ومن غير الممكن هنا الدخول في تفاصيل فكر أوكام Ockham المعقد. لذلك سنكتفي بعرض بعض معالمه. فهو يعارض مفهوم النظام الطبيعي ويرى فيه تعارضا مع الحرية الإلهية. هذه الأخيرة تستلزم أن النظام الذي نعتقد أننا نكتشفه في لحظة ما، هو نظام يطبعه الجواز، مثله في ذلك مثل كل ما يوجد خارج الذات الإلهية. وأنه لا وجود لنظام طبيعي يمكن أن يشكل معيارا للفعل الإلهي. لن نناقش وجهة النظر هذه. لنلاحظ فقط أنها قادت أوكهام إلى تأسيس فلسفة ميتافيزيقة حول الفرد: فالكون ليس عبارة عن كوسموس( نظام أو نسق منتظم )، بل هو عبارة عن ركام أو مركب من الفرديات المعزولة. وأن ما يوجد في الواقع، هو فقط ما يمكن معرفته بطريقة حدسية ومباشرة، مثل هذا الإنسان وهذه الشجرة وهذه الحجرة. أما المفاهيم العامة ( الكلياتuniversaux)- كالإنسان أو الشجرة أو الذهب – فلا وجود لها، ما هي إلا علامات وأسماء.(ومن هنا لقبت الأوكامية بالاسمية).
يمكن أن نحصر بسهولة النتائج القانونية والسياسية المترتبة عن هذا النهج: فالمجتمع لا يتكون إلا من فتات من الأفراد الأحرار، ماداموا قد خلقوا على صورة الله، دون توسط لأي نظام طبيعي أو علاقات موضوعية ضرورية. وبعبارة واحدة، دون توسط للقانون الطبيعي بمعناه الكلاسيكي. أما الكليات – مثل المدينة و الأسرة – فلا وجود لها إلا على مستوى التصورفالواقع الوحيد هو واقع الفرد المتمتع بحقوق بالمعنى الحديث، والمجتمع لم ينشأ إلا نتيجة لنشاط الأفراد غير القابلين للاختزال. وعليه فإن النظام القانوني لا يمكن أن ينبثق إلا عن إرادات الأفراد. من هنا نفهم لماذا لا يمكن للنزعة الاسمية إلا أن تقود إلى النزعة القانونية الوضعية. لكن مع فارق أساسي وهو أن الحق الوضعي الإلهي أو القانون الإلهي يبقى القانون الأسمى عند أوكام. لكن هذا الحاجز يبقى رهيفا، ذلك أن الأوكامية بإقحامها من منظور أوغسطيني، لقطيعة جذرية بين الإيمان و العقل- و هو ما يشكل تناقضا في المنهج الفرنسسكاني – قد شقت الطريق نحو علمنة الفكر.
إن هوبز في أواخر القرن السابع عشر، هو الذي سيقود إلى أقصى حد، الحركة المزدوجة التي تتضمنها القطيعة التي أحدثتها النزعة الاسمية والتي سيدعمها وينتصر لها جاليليو في ميدان الفيزياء. لقد رام هوبز جعل السياسة علما وذلك بتطبيق منهج جاليليو التحليلي التركيبي في معالجة قضايا السياسة. فمن جهة، لا وجود بالنسبة لهوبز، ذي النزعة الفردانية الاسمية، لــ كليات اجتماعية وسياسية، بل هناك فقط أفراد منغلقون على ذواتهم، بشهواتهم و دوافعهم الفطرية. ومن جهة أخرى، فإن هوبز صاحب النزعة العقلانية الميكانيكية، سيدعي إعادة بناء المجتمع كآلة، بطريقة عقلانية. ولكن لنعد قليلا إلى الوراء: إن نهضة الطوماوية[نسبة إلى توما الإكويني]، التي يعود الفضل فيها لمدرسة سلامانك اللامعة في القرن السادس عشر ومنتصف القرن السابع عشر لم تؤد إلى إحياء الحق الطبيعي الكلاسيكي. فأساتذة هذه المدرسة، في إطار معركتهم ضد اللاهوت السياسي لحركة الإصلاح الديني، ودون أن يكونوا ذوي نزعة اسمية بمعناها الحقيقي، قد منحوا الإنسان امتيازات ذات طبيعة إلهية من خلال اشتغالهم على مفهوم الملك le domaine3. لقد كان بعض اللاهوتيين في أواخر القرون الوسطى، قد ذهبوا إلى اعتبار سيطرة الله dominium divin على العالم كحق. ومنذئذ فإن هذا الحق لايمكن أن يظهر إلا كنموذج لكل حق. والحال أن الله كما يقول سفر التكوين قد منح العالم للإنسان. وعليه فالملك الإنساني يجب أن يفهم على غرار الملك الإلهي، كسلطة- حق pouvoir-droit غير محدود وكوني. وذلك على غرار الدومنيوم الإلهي، من حيث أنه يشارك فيه ويعتبر كامتداد له. وهذا الحق سرعان ما سيظهر كحق مرتبط بطبيعة الإنسان. ولاشك أن الملك الإنساني لا يأخذ قوته إلا من الملك الإلهي، ولا يجد، مبدئيا،  حدوده إلا فيه. ولكن السكولائية الثانية وهي تواجه بعض المشاكل المطروحة في عصرها[ وضعية الهنود]، قد حلتها بطريقة جد حديثة. هكذا نجد فيتورياVitoria، حوالي سنة 1540، وعلى عكس أطروحات الأوغسطينية القانونية، خاصة منها تلك ذات التوجه البروتستانتي، والتي تنكر على الوثنيين كل الحقوق- قد ذهب إلى أن الهنود هم بشر يتمتعون بحقوق ملازمة لطبيعتهم وخاصة حق الملكية. إنه حل جدير بالثناء. لكن هذا المنهج يعلن ويبشر بظهور مدرسة الحق الطبيعي الحديث. فحق الملكية المتصور كحق طبيعي للإنسان سيكون أول حق من حقوق الإنسان الحديثة.
إن أثر غروتيوس لم يعمل في الحقيقة إلا على التعبير المكثف عما انتهى إليه من تطور فكري في هذا المجال. لكن الصدى الذي خلفه يبقى مهما وقد ثم تفخيمه من طرف أسلافه ( من مثل بيفوندورف Pufendorf). فإذا قمنا بعرض تبسيطي للموضوعات الكبرى لمدرسة الحق الطبيعي الحديث، يمكن أن نردها إلى بعض الأفكار المفتاحية. فهذه المدرسة وانطلاقا من أرضية صلبة تقوم على علمنة الحق وعلى النزعة الفردية، ستستبعد وتقصي فكرة الحق الكلاسيكية، كحق يجب اكتشافه في طبيعة الأشياء. وستؤكد على وجود طبيعة إنسانية مجردة يتعين انطلاقا منها استنباط كل حق. فما أصبح بالإمكان تسميته بحقوق الإنسان، ليس أبدا انعكاسا للحق الإلهي. وهكذا فقد تم فصل هذه الحقوق عن هذا المصدر الإلهي الذي تدين له في الأصل بكل شيء وخاصة بطابعها المقدس. وأصبح ينظر إليها باعتبارها ملازمة للطبيعة الإنسانية وحدها، وسابقة على ظهور المجتمع السياسي. ومن ثمة أضحت موضوع تمجيد وتعظيم. وقد فرضت بشكل نهائي، الفكرة التي تذهب إلى أن المجتمع ليس شيئا معطى أو طبيعيا، بل يجب أن يتأسس بطريقة عقلانية انطلاقا من طبيعة الإنسان وإرادته. وهكذا فإن فرضية العقد الاجتماعي القديمة، ستحتل من الآن فصاعدا مكانة مركزية.

في الجزء الثاني :  جنيالوجيا حقوق الإنسان -العقد الاجتماعي و الحقوق الطبيعية في مدرسة الحق الطبيعي الحديث

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!