تحتل «البوذية» المرتبة الرابعة في قائمة أكثر الديانات أتباعًا حول العالم، فيقدر عدد من يدينون بها بأكثر من نصف مليار شخص. وتشكل البوذية مع «الهندوسية» وعدد من ديانات شرق آسيا نمطًا يختلف كلية عن الديانات السماوية. حتى أن لهم مفهومًا خاصًا للآلهة، يصبحون معه أقرب إلى آلهة اليونان منهم إلى الإله التوحيدي.
لذا، ننبه أولًا إلى أن «سيدهارتا جوتاما»، المعروف باسم «بوذا»، والمولود في القرن السادس قبل الميلاد، ليس بإله عند البوذيين، وإن ظل الشخصية المركزية في الديانة البوذية، ولعله كان إلهًا في وقت ما! علاوة على هذا، فهو ليس البوذا الوحيد. فهذا لقب يعني «المتيقظ» أو «المتنور». لإيضاح ما سبق من عبارات قد يجدها البعض ملغزة، سنتطرق أولًا إلى الهندوسية في عجالة، فقد كانت – وما تزال – أكثر الديانات انتشارًا في الهند في ذلك الوقت، وعنها سترث البوذية الهيكل العقدي العام.
البوذية هي إحدى ديانات العالم الكبرى من ناحية عدد أتباعها وتوزيعهم الجغرافي وتأثيرهم الثقافي والإجتماعي. بينما البوذية هي ديانة "شرقية" إلى حد كبير إلا أن تأثيرها وإنتشارها آخذ في الإزدياد في العالم الغربي. إنها ديانة عالمية مميزة، إلا أنها تشترك مع الهندوسية في الإيمان بالكارما (أخلاقيات السبب والنتيجة)، والمايا (طبيعة العالم غير الواقعية)، والسامسارا (دورة الحياة وإعادة الحياة). يؤمن البوذيون أن الهدف الأسمى في الحياة هو الوصول الى "التنوير" كما يرونه.
ولد مؤسس البوذية، سيدهارتا جواتاما في العائلة المالكة في الهند حوالى عام 600 قبل الميلاد. وكما تحكي القصة، عاش فى رخاء وتنعم، ولم يتعرض كثيراً للعالم الخارجي. فقد كان هدف والديه أن يبعدوه عن تأثير التدين ويحموه من الألم والمعاناة. ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن يخترق مخبأه، ورأي رؤى عن رجل كبير السن، ورجل مريض، وجثة. وكانت الرؤيا الرابعة لراهب مسالم زاهد (شخص يرفض الرفاهية والراحة). وعندما رأى السلام الذي يغمر الراهب قرر أن يصبح هو أيضاً زاهداً. ترك حياة الغنى والجاه ليسعى وراء التنوير من خلال التقشف. وقد برع في هذا الشكل من إذلال الذات والتأمل العميق. كان قائداً في وسط زملائه. وفي النهاية وصلت جهوده إلى فعل نهائي. فقد "أمتع" نفسه بطبق من الأرز ثم جلس تحت شجرة تين (تسمى أيضاً شجرة بوذا) لكي يتأمل حتى يصل إلى "الإستنارة" أو يموت محاولاً الوصول إليها. بالرغم من التجارب والإغراءات، إلا أنه وصل إلى الإستنارة مع صباح اليوم التالي. وبهذا صار يعرف بأنه "الشخص المستنير" أو "بوذا". أخذ بوذا ما وصل اليه من إدراك جديد وأخذ يعلم زملائه من الرهبان الذين كان قد أصبح له تأثير كبير في وسطهم. وأصبح خمسة من زملائه أول تلاميذ له.
ما الذي إكتشفه جواتاما؟ إكتشف أن الإستنارة تكون في "الطريق الوسط"، ليس في الإنغماس في الرفاهية وكذلك ليس في تعذيب الذات. وفوق هذا إكتشف ما عرف فيما بعد بـ "الحقائق الأربعة النبيلة": 1) الحياة معاناة (دوكا)؛ 2) المعاناة تأتي من الرغبات (تانها، أو "التعلق")؛ 3) يمكن أن ينهي الإنسان كل معاناة بالتخلي عن كل ما يتعلق به؛ 4) هذا يتحقق باتباع الطريق الثماني النبيل. يتكون "الطريق الثماني" من أن يكون لدى الشخص: 1)نظرة صحيحة؛ 2)نية صحيحة؛ 3)كلام صحيح؛ 4)أعمال صحيحة؛ 5)معيشة صحيحة (الرهبنة)؛ 6)المجهود الصحيح (توجيه الطاقة بطريقة صحيحة)؛ 7)التفكير بطريقة صحيحة (التأمل)؛ 8) التركيز الصحيح. وقد تم تجميع تعاليم بوذا الى ما يسمى التريبيتاكا أو "السلال الثلاثة".
ومن وراء هذه التعاليم المميزة توجد التعاليم المعروفة لدى الهندوسية وبالتحديد إعادة التجسد، الكارما، المايا، والإتجاه لفهم الحقيقة على أنها وحدوية في اتجاهها. تقدم البوذية مثل الهندوسية أيضاً مجالاً متسعاً من الآلهة والكائنات الممجدة. ولكنها مثل الهندوسية يصعب تحديد مفهومها عن الله. فيمكن أن توصف بعض فروع البوذية بأنها إلحادية بينما يمكن تسمية البعض الآخر بأنها موحدة، وفروع أخرى أيضاً بأنها تؤمن بوجود إله مثل بوذية الأرض الطاهرة. ولكن البوذية الكلاسيكية تميل لأن تكون صامتة تجاه حقيقة وجود كائن اسمى ومن هنا تعتبر إلحادية.
إن العقيدة البوذية اليوم متنوعة بقدر كبير. يمكن إجمالاً تقسيمها إلى قسمين أساسيين بصورة عامة وهي الثيرافادا (الإناء الصغير) والماهايانا (الإناء الكبير). الثيرافادا هي الشكل الرهباني الذي يجعل الإستنارة والنيرفانا قاصرة على الرهبان، بينما البوذية الماهايانا توصل هذا الهدف من الإستنارة إلى العلمانيين أيضاً، أي من ليسو رهباناً. وفي داخل هذين القسمين نجد فروعاً متعددة بما فيها تنداي، فاجرايانا، نيشيرين، شينجون، بيور لاند، زين، ورويبو وغيرها. لهذا فمن المهم بالنسبة للذين يحاولون أن يفهموا البوذية ألا يفترضوا أنهم يعرفون كل التفاصيل المتعلقة بمدرسة معينة من البوذية بينما يكون كل ما درسوه هو البوذية الكلاسيكية التاريخية.
لم يعتبر بوذا نفسه إلهاً أو مخلوقا سامياً. بل اعتبر نفسه "مرشدا للطريق" بالنسبة للآخرين. فقط بعد موته تم تمجيده كإله من جانب بعض أتباعه، رغم أنه لم ينظر إليه كل أتباعه على أنه إله. بينما في المسيحية يقول الكتاب المقدس بكل وضوح أن يسوع هو إبن الله (متى 3: 17: "وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ")، وأنه هو والله واحد (يوحنا 10: 30). ولا يمكن أن يعتبر الإنسان نفسه مسيحياً بحق دون إعلان الإيمان بأن يسوع هو الله.
قال يسوع أنه هو الطريق وليس مجرد مرشد للطريق ويؤكد إنجيل يوحنا 14: 6 هذا: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي". عند موت جواتاما كانت البوذية قد أصبح لها تأثير كبير في الهند؛ وبعد ثلاثمائة عام كانت البوذية قد غمرت أغلب قارة آسيا. وقد تمت كتابة النصوص والأقوال المأخوذة عن بوذا بعد موته بحوالي أربعمائة عام.
في البوذية تعتبر الخطية بصورة عامة على أنها جهل. وبينما تعرف الخطية بأنها "خطأ أخلاقي"، فإن سياق مفهوم "الخير" و"الشر" يعتبر غير أخلاقي. تعتبر الكارما التوازن الطبيعي ولا تتطلب أن يسعى إليها الفرد. الطبيعة ليست غير أخلاقية؛ لذلك فالكارما ليست قانون أخلاقي والخطية بالتالي ليست غير أخلاقية. لذلك يمكن القول أنه في المفهوم البوذي إن أخطاءنا ليست قضية أخلاقية بما أنها في النهاية خطأ غير شخصي، وليست تعدياً شخصياً. إن نتيجة هذا المفهوم هي نتيجة مدمرة. لأنه في نظر الشخص البوذي فإن الخطية مرادفة للتعثر أكثر منها إثم ضد طبيعة الله المقدسة. هذا الفهم للخطية لا يتوافق مع الإدراك الأخلاقي الفطري أن البشر مذنبون أمام الله القدوس بسبب خطاياهم (رومية 1-2).
بما أن البوذية تقول بأن الخطية مجرد خطأ غير شخصي وقابل للإصلاح، فإنها لا تتفق مع عقيدة الفساد، التي هي من أساسيات الإيمان المسيحي. يخبرنا الكتاب المقدس أن خطية الإنسان هي مشكلة لها عواقب أبدية غير محدودة. في البوذية ليست هناك حاجة لمخلص ينقذ الناس من لعنة خطاياهم. أما بالنسبة للمسيحي فإن الرب يسوع هو الطريق الوحيد للخلاص من العقاب الأبدي. بالنسبة للبوذي يوجد فقط الحياة الأخلاقية والمناجاة التأملية للكائنات الممجدة على أمل ربما الوصول إلى الإستنارة وفي النهاية النيرفانا. ومن المحتمل أن يستلزم الأمر إعادة تجسد الشخص مرات عديدة لكي يستوفي ديونه الكارمية المتراكمة. بالنسبة لأتباع البوذية الحقيقيين، فإن الديانة هي فلسفة أخلاقيات متضمنة في حياة إنكار الذات أو"الأنا". في البوذية فإن الحقيقة هي أمر غير شخصي وغير متصل بالعلاقات؛ لذلك لا تتضمن المحبة. فلا ينظر لله فقط على أنه سراب، ولكن بجعل الخطية مجرد خطأ غير أخلاقي ورفض كل الواقع المادي على أنه "مايا" (وهم) فإننا نحن أنفسنا نفقد "أنفسنا". وتصبح الشخصية ذاتها وهماً.
عندما سئل بوذا عن كيفية بداية العالم، من أو ماذا خلق الكون، يقال أنه ظل صامتاً لأنه في البوذية لا توجد بداية ولا نهاية. بل توجد حلقة لا نهائية من الولادة والموت. هنا يتساءل المرء ما نوع هذا الكائن الذي خلقنا لنعيش ونتحمل هذا المقدار من الألم والمعاناة ثم نموت مرة ومرات؟ قد يجعلنا هذا نفكر قائلين، ما الهدف من الحياة؟ لماذا نهتم بها؟ يعرف المسيحيون أن الله أرسل إبنه ليموت عوضاً عنا، مرة واحدة، لكي لا نتعذب نحن إلى الأبد. أرسل إبنه ليعرفنا أننا لسنا بمفردنا وأننا محبوبين. يعرف المسيحيون أن الحياة أكثر من مجرد المعاناة والموت "... وَإِنَّمَا أُظْهِرَتِ الآنَ بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ" (تيموثاوس الثانية 1: 10).
تقول البوذية أن النيرفانا هي أسمى حالات الوجود، حالة من الوجود الطاهر، ويصل إليها كل شخص بطريقته. لا تتوافق النيرفانا مع التفسير العقلاني والنظام المنطقي ولهذا لا يمكن تعلمها بل فقط يتم ادراكها والوصول اليها. وفي المقابل، نجد أن تعليم الرب يسوع عن السماء محدد جداً. قال لنا أن أجسادنا المادية ستموت ولكن أرواحنا تصعد لتكون معه في السماء (مرقس 12: 25). علَّم بوذا الناس أن البشر ليس لهم أرواح منفردة لأن الذات الفردية مجرد وهم. بالنسبة للبوذيين ليس هناك أب رحيم في السماء أرسل إبنه ليموت فداء نفوسنا، من أجل خلاصنا، ليوفر لنا طريقاً نصل به إلى مجده. وهذا، في النهاية ، هو السبب الذي من أجله يجب أن ترفض البوذية.
قصة البوذا
إذن، الشخصية المركزية في الديانة البوذية، التي نسرد هنا قصتها[4]، هي بوذا من بين كثيرين غيرها تمكنت من كسر هذه السلسلة. وقد عاش هذا البوذا آلاف الحيوات من قبل، وربما ملايين، ذكرت نصوص الـ«جاتكا» (قصص الميلاد) قصة بعضها، لكن قصة آخر هذه الحيوات، حيث سيبلغ هدفه أخيرًا، أي قصة الفتى سيدهارتا جوتاما، هي الأهم في هذا المقام.
نشأة جوتاما
في عام 566 قبل الميلاد أنجبت الأميرة «مايا»، لزوجها الأمير «سودهودانا»، طفلًا أسماه سيدهارتا جوتاما. لكن فترة الحمل والولادة صاحبتها علامات دلت الحكماء على أن هذا الطفل سيصبح «تشاكرابارتين» أي محركًا للعجلة. وهذا لقب يطلق على اثنين، حاكم عظيم يحرك عجلة الفتوحات، أو رجل دين حكيم يحرك عجلة التعاليم الدينية ومسار الكون (دارما). عندها، خشي الأب من أن يصير ابنه جوتاما – الذي توفيت والدته بعد ميلاده بفترة قصيرة – ناسكًا يزهد في وراثة الملك، كما طمع في أن يصير ملكًا عظيمًا، مما دفعه إلى إحاطته بالملذات والمتع طوال حياته، وحجبه عن كل ما يثير الحزن أو الألم، كما حرص على تزويجه مبكرًا.
لكن بمرور السنوات، مل الأمير الشاب – الذي لم يتم عامه الثلاثين بعد – كل ما حوله، فقرر الخروج مع خادمه في جولة خارج القصر. خلال هذه الجولة صادف الأمير أربعة مشاهد ستغير عالمه؛ في البداية، رأى رجلًا عجوزًا. ثم رأى رجلًا مريضًا. وبعده رأى جثة محمولة على الأعناق. صدمت تلك المشاهد الثلاثة الشاب الذي كان يجهل كل شيء عن المرض والموت. وأخيرًا رأى الأمير ناسكًا هندوسيًا نذر حياته لإيقاف عجلة التناسخ. وهو ما سيدفعه إلى مغادرة القصر خفية بهدف التحول إلى ناسك متجول سعيًا وراء اكتشاف السبيل لتخليص البشر من عذاباتهم.
سيقرر جوتاما هذا عقب ميلاد ابنه الوحيد، الذي رأى فيه الحقيقة التي أصبح يراها في كل شيء، وهي حتمية المعاناة والشيخوخة والمرض، تلك الحقيقة التي تعني أن كل متعة أو سعادة هي حالة مؤقتة، لن تلبث إلا أن تفضي إلى المعاناة ثانية. يومها، خلع الشاب ثياب الملك ومضى يبحث عن سبيل إلى إيقاف هذه المعاناة الحتمية.
الطريق إلى اليقظة
غادر الأمير قصره خلسة في إحدى الليالي، وإلى جوار أحد الأنهار خلع ملابسه ومجوهراته واستبدل بها أسمالًا بالية. وقص شعره الطويل. وطلب من خادمه حمل هذه الأشياء إلى القصر بعد أن ودعه. ليقف بعدها وحيدًا في البرية للمرة الأولى في حياته.
رأى جوتاما خلال رحلته من صنوف المعاناة ما لم يره من قبل. كما تتلمذ على يد معلمين روحانيين عدة، ممن تمردوا على تراث الهندوسية الذي يحجر التنسك إلا على أبناء رجال الدين، المؤهلين لتلك المكانة بميلادهم. كان جوتاما يرى أن المنبوذ لا يصير منبوذًا بميلاده، بل بأفعاله، وكذا الناسك لا يصير ناسكًا بميلاده، بل بأفعاله. مارس جوتاما الرياضة الروحية (Meditation) المنتشرة آنذاك، وكانت تعتمد بالأساس على التحكم بالتنفس، وأحيانًا الصوم، وأنواع أخرى من مجاهدة النفس بغرض بلوغ درجة عليا من الوعي. لكنه لم يجد في ذلك مبتغاه، رغم بلوغه درجة من مجاهدة النفس جمعت حوله عددًا من التابعين، ودفعت المعلمين إلى عرض مناصبهم عليه ليحل محلهم في التدريس.
لكن جوتاما لم يتوقف هنا، بل شرع في ممارسة درجات هائلة من مجاهدة النفس، عبر الصوم المضني وإهمال حاجات الجسد وإنهاكه والتوقف عن الاغتسال وكتم الأنفاس لفترة طويلة. وعندما كان ذلك يوشك أن يقضي عليه، أدرك أن هذا ليس بالسبيل إلى الخلاص أيضًا.
عندما قطع جوتاما صيامه، انفض الأتباع من حوله، لكنه لم يلق لهذا بالًا. وفي أثناء سيره مر بموسيقي يضبط آلة السيتار الخاصة به، فلاحظ أن الوتر لا يصدر صوتًا إن كان مرخيًا، ولا إن كان مشدودًا بقوة، بل تصدر النغمة المطربة في درجة ما تقع بينهما. ساعتها بزغت فكرة «الطريق الوسط» في ذهن جوتاما. وترى هذه الفكرة أن النفس ليست بالأهمية التي تدفعنا إلى إنعامها وخدمتها، ولا هي بأمر ثانوي يمكن التخلص منه.
جلس جوتاما أسفل شجرة كبيرة، وتعهد بعدم مغادرة المكان قبل بلوغ اليقظة/الاستنارة. وفي جلسته هذه، واجه جوتاما الشيطان «مارا» الذي جاء من ظلمات نفسه هو، ليطلق جيشًا من الشيطان لمهاجمة المتأمل، كما أطلق عليه سهام نارية حولها جوتاما إلى زهرات لوتس أخذت تتساقط حوله، فلجأ مارا إلى إغواء جوتاما مستعينًا ببناته الثلاث، لكنها محاولة باءت بالفشل أيضًا.
التأسيس وملامح المجتمع الأول
أخيرًا، بلغ جوتاما اليقظة/الاستنارة في سن الخامسة والثلاثين، وجلس سبعة أيام أسفل الشجرة في حالة صفاء تام، توصل خلالها إلى طريقة كسر هذه السلسلة المستمرة من الميلاد والموت. ساعتها ولدت البوذية، وأصبح جوتاما هو «الشاكياموني»، أي حكيم قبيلة «شاكيا»، أو بوذا، أي الذي استيقظ من غفلته وأدرك حقيقة الوجود. لقد بلغ النيرفانا (تعني انطفاء النار)، وما عاد يعاني من الجهل والرغبة اللذين يمدان عجلة التناسخ بالطاقة.
ترك بوذا الشجرة، وراح يبشر بديانته/فلسفته للخلاص. ومع تنقله من قرية إلى أخرى، التف حوله مجتمع ضخم ومتنوع من الأتباع، انقسم إلى ثلاث طوائف: الرهبان والراهبات والعلمانيين (أي غير المنخرطين في السلم الكهنوتي، بالمعنى الديني المسيحي). وتختلف الراهبات عن أمثالهن من الرجال بعهود ثمانية إضافية، تسمى بالقواعد الثقيلة[5]، تفضي إلى شغلهن مكانة أكثر تواضعًا من الرهبان الذكور. مثل حظر تولي الراهبة مهمة تعليم الرهبان الذكور، مهما كان تفوقها الروحاني عليه. لكن باستطاعة الراهبات بلوغ النيرفانا – كما صرح بوذا – بالضبط مثل الرهبان. في الواقع، كان لمجتمع الراهبات دور كبير في انتشار البوذية في فتراتها الأولى.
أما العلماني البوذي، فمن مهامه الرئيسية تكوين طبقة تحيط بجماعة الرهبان، تسترشد بهديهم وتقوم نيابة عنهم بالتعاملات المادية والاتجار، ومن ثم الإنفاق على هؤلاء الرهبان والراهبات بما يمكنهم من عيش حياة الرهبنة. لذلك كان الجود من أفضل الخصال التي يمكن للعلمانيين البوذيين التحلي بها. كذلك يلتزم العلماني بخمسة التزامات أخلاقية: ألا يقتل، وألا يسرق، وألا يكذب، وألا يغتصب، وألا يشرب المسكرات. يضاف إلى هذه الالتزامات عدد آخر في حالة الرهبان والراهبات، مثل: عدم تناول الطعام بعد الثانية عشرة ظهرًا، وعدم النوم على أسرة ناعمة، وعدم التعامل بالذهب أو الفضة.
وفي عامه الثمانين، توفي بوذا في صمت بين شجرتين، هو ما يعرف بالـ«بارينيرفانا» أي تمام الانطفاء. لقد تحققت النبوءة ودارت عجلة التعاليم الدينية، وترك بوذا تعاليمه خالدة من بعده.
حقائق البوذية الأربعة
بشكل عام، تتفق جميع الفرق البوذية على عدد من التعاليم الرئيسية. أهمها «الحقائق الأربعة السامية»[6] التي تشكل الـ«دارما»، وهي التعاليم الدينية التي تركها بوذا. وفيما يلي هذه الحقائق الأربعة وشرحها:
1- حقيقة المعاناة.
2- حقيقة أصل المعاناة.
3- حقيقة إيقاف المعاناة.
4- حقيقة الطريق الذي يقود إلى الخلاص من المعاناة.
فيما يتعلق بالحقيقة الأولى، أي المعاناة، فلها أشكال ثلاثة. إما معاناة واضحة، ناتجة عن أي ألم جسدي أو نفسي. أو معاناة ناتجة عن التغير، فحتى أكثر الأشياء إمتاعًا يتسبب زوالها في المعاناة. أو معاناة ناتجة عن اعتماد المتعة على وهم أو جهل بحقيقة الأشياء.
ثم الحقيقة الثانية، أي أصل المعاناة، وهو عند البوذية الجهل. لأن الجهل يفضي إلى الرغبة/التعلق، مما يتسبب في استمرار التناسخ. ويرى بوذا أن أشد صور الجهل تأصلًا في النفس هو الاعتقاد بأن الـ«أنا» – أي النفس ذاتها – كيان ثابت، نحتاج إلى إنعامه بالتجارب الممتعة واقتناء الأشياء القيمة.
أما الحقيقة الثالثة، أي إمكانية إيقاف المعاناة، فتستوجب إدراك الحقيقة السابقة، أي إدراك دور الرغبة/التعلق في استمرار التناسخ. وليس ذلك أمرًا يسيرًا، بل قد يستغرق أعمار عدة. لكنه يظل أمرًا ممكنًا لأي شخص، بالضبط مثلما فعلها بوذا.
أخيرًا، الحقيقة الرابعة، أي الطريق إلى إيقاف المعاناة، فله أقسام ثمانية[7]: الفهم الصحيح، والفكر الصحيح، والقول الصحيح، والفعل الصحيح، والارتزاق الصحيح، والجهد الصحيح، والوعي الصحيح، والتركيز الصحيح.
جانب من الخلاف البوذي
أحدثت وفاة بوذا فراغًا هائلًا في المجتمع البوذي، فاجتمع كبار الرهبان، وكونوا مجلسًا لحفظ تعاليمه في صورة مجموعة من المرويات الرسمية، أسفرت في النهاية عن ثلاث مجموعات تدعى «تريبيكاتا» أي «السَّلات الثلاث». لكنها لن تدون إلا بعد قرون من وفاة بوذا. وبعد مرور قرن، عقد المجلس الثاني، بسبب خلاف داخل مجتمع الرهبان لا يعرف كنهه على وجه التحديد. ويعتبر هذا المجلس بداية الانقسام الكبير في البوذية. إذ نتج عنه تشكل فرقتين بوذيتين، تفرع عنهما المذهبان الرئيسيان الآن:
1- مذهب «ثيرافادا» (طريق الأقدمين)[8]، الذي يهيمن على البلاد البوذية في الجنوب الشرقي من آسيا (عدا فيتنام).
2- مذهب «ماهايانا» (المجتمع العظيم)[9]، الذي يهيمن على البلاد البوذية في شمال وشرق آسيا.
تختلف الفرقتان حول عدد من المعتقدات، مثل اللغة المتعبد بها، والمتيقظين المعترف بهم إلى جانب جوتاما، وطبيعة دور «البوديساتفا». والأخير مصطلح يعني المتيقظ المستقبلي، وهو شخص يؤمن مذهب ماهايانا بأنه قد بلغ اليقظة/الاستنارة، إلا أنه فضل عدم تحقيق البارينيرفانا، مما يعني مواصلة رحلة التناسخ، وذلك من أجل مساعدة الآخرين على بلوغها.تينزن جياتسو، الدالاي لاما الحالي.
أشهر البوديساتفا اليوم هو الدالاي لاما، حكيم بوذية التبت، المتفرعة عن الماهايانا. فالدالاي لاما الذي نعرفه اليوم باسم «تينزن جياتسو»، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1989، هو التجسد الرابع عشر لبوديساتفا بلغ التنور في القرن الرابع عشر. وعندما يتوفى الدالاي لاما يعود البوديساتفا في صورة إنسان جديد، طفل يجتاز عددا من الاختبارات، ويرث كرسي الدالاي لاما السابق، ليتلقى بعدها الرعاية والتنشئة اللازمة لتولي مهام القيادة والإرشاد وإعانة الأرواح الهائمة على كسر دورة التناسخ.
-------------------------------------------------------
المصادر
أقتباسات شاملة
- GotQuestions
- محمد أسامة/ إضاءات
- موسوعة ويكيبيديا العالمية