حول الماركسية اللينينية المغربية

آدمن الموقع
0

بقلم: عبدالعالي العبدلي/ كاتب وباحث مغربي
خاص/ الجيوستراتيجي للدراسات 

سأحاول في هذه المقالة الذي تم تقسيمها إلى جزئين، الالمام ببنية النظرية الماركسية كنظرية وظروف نشأة الحركة الماركسية اللنينية المغربية في الجزء الاول. كما نقف على أهم المحطات و التجارب الثورين بعد المأسسة ، و الطعنات المباشرة و غير المباشرة التي تعرضت إليها في الجزء الثاني.
الجزء الاول
• ماذا نقصد بالنظرية الماركسية؟

اولا، هي أكثر النظريات التي تعرضت للنقد و التشويه من طرح النظام الاجتماعي السائد و العقول الضيقة و أصحاب المصالح الذاتية مند اكتشفها ماركس. باعتبارها نظرية كونية و مشروع إنساني للخلاص البشرية من الفقر و الظلم و الاغتراب الممنهج من طرف الطبقات الاجتماعية المالكة لوسائل الإنتاج. تستمد أصولها من جدلية هيغل المقلوبة و الاقتصاد السياسي الانجليزي الذي أسس أدم سميت و ركاردو و أخير الإشتراكية الطوباوية.
في ذات السياق نود الإشارة إلى أن الماركسية تتكون من قسمين أساسيين و مترابطين و متكاملين أيضا، فالاول نظري يطلق عليه المادية الجدلية و الثاني عملى أو تطبيقي يطلق عليه المادية التاريخية أو علم الاجتماعي.
فالمادية الجدلية مكون فلسفي نظري بالنسبة للماركسية و رؤية تبتق عنها كل القضايا النظرية. تنطلق من افتراض أن العالم أو الكون مكون من مادة دائمة الحركة تؤدي إلى حدوث مجموعة من التغيرات المتتالية. حيث أنها مادية بالاعتقاد أن الكون مادة متطورة ، وأن العالم مادي هوموجود شعرنا بيه أم لا.
ما الوعي و الحس و الشعور إلا تمظهرات الواقع الاجتماعي المادي، أي وجود المادة سابق الوعي، في هذا الصدد يقول كارل ماركس بالحرف "ليس وعي الناس هو من يحدد وجودهم الاجتماعي بل عكس ذلك ، إن وجودهم الاجتماعي هو من يحدد وعيهم". أما كونها جدلية هذا يعني أنها تنظر للعالم أو الكون باعتبار وحدة مترابطة في حركة دائمة و ماطور. قد تنبع الحركة كما يبنبع التطور حسب هذه النظرية من التناقض الموجود في جميع الاشياء المادية و كل أجزاء العالم، باعتباره جوهرها.
أما المادية التاريخية فهي علم التغير المجتمع، باعتبارها الجزء الاهم في النظرية الماركسية و دراع المادية الجدلية الممتدة للمجتمع كشكل خاص من أشكل حركة المادة. فقد ينطلق هذا النوع من المادية الماركسية من فكرة أن المجتمع وحدة أو نسق اجتماعي-اقتصادي مترابط في حركة مستمرة و تغير دائم يحل فيه النشاط الإنساني و علاقته بالغير المقام الاول. في هذا المستوي طرح كارل ماركس مؤسس النظرية الماركسية مفهوم يعبر عن هذه الرؤية التي أعطتها للمجتمع و هو "التكوين الاجتماعي الاقتصادي" او ما يعرف بالتشكلة الاجتماعية الاقتصادية التي تتشكل من قسمين كما تتشكل النظرية الماركسية عامة و هما البنية التحتية و البنية الفوقية.
قد يقصد بالاولى أي البنية التحتية للمجتمع العنصر المادي الاقتصادي المرتبط بعملية الإنتاج. و يكون بدور من قوة الانتاج الذي يقصد بها الانسان أو العامل و كل وسائل الانتاج كالارض و مناجم و الغابات و المواد الخام (مثل الفسفاط ، الحديد ، الالماس) و الآلات و الادوات اللازمة للانتاج. أما علاقات الإنتاج المكون الثاني للبنية التحتية الذي يقصد بها تلك العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين أفراد مجتمع المصنع أو الحقل أثناء عملية الإنتاج. حيث أن الإنسان لا يستطيع الإنتاج بمفرده، فتعتمد هذه العلاقات على عنصرين أساسيين هما ملكلة وسائل الإنتاج و تقسيم العمل الاجتماعي الكبير و تنظيمه وفق مصالح المالك للوسائل المنتجة.
بالتالي فالذين يملكون وسائل الإنتاج يتحكمون في توزيع الارباح الباهضة بالرغم من أنهم لا يساهمون بشكل مباشر في العملية. عكس الذين لا يملكون إلا قوة عملهم و لا يحصلون إلا علئ قدر قليل يضمن استمرارية العامل داخل المعمل مثل الآلة. فهذا ما ينتج التناقض و الصراع بين المالك و غير المالك لوسائل الانتاج على كل مراحل تطور المجتمع الطبقي.
إلى جانب البنية التحتية نجد ما يسمى بالبنية الفوقية المرآة الحقيقة للبنية لاقتصادية للمجتمع، التي تشمل مجمل العناصر غير المادية من (سياسة ، ثقافة، دين ، فن ، علوم، لغة...) و ما يترتب على ذلك من مؤسسات و علاقات إجتماعية و قرابية و زواجية.
هكذا قد نكون شرحنا بنية النظرية الماركسية و لو بشكل بسيط لكنه دقيق. ما يتبقى علينا إلا رفع الستار و توضيح ما حاولت الماركسية نفسها توضيحه دفاعا عن الإنسان كإنسان و الحقيقة كحق للجميع. 
فالماركسية هي مرشد عمل و أداة تغيير المجتمع للطبقة العاملة، الطبقة الاجتماعية المؤهلة لفعل التغيير و تحقيق مجتمع واحد، مجتمع العدالة و المساواة، مجتمع لا يكون فيه فارق بين ابن عامل و ابن رب المعمل في التربية و التعليم و التكوين، بجملة واحدة مجتمع يكون فيه كل منتج و كل مستفيد.
وليس كما قيل و يقال عليها من طرف الأنظمة السياسية السائدة و المتعصبين لدين ما أو عرق ما التي روجت مجموعة من الأفكار المغلوطة فى حق كارل ماركس و نظريته خلال العقود الاخير من القرن العشرين. الفترة الزمنية التي عرف فيها المد الشيوعي أنتشار واسع في الغرب الاوروبي و خارجه، كذلك صعود البلاشفة للسلطة في روسيا بعد ثورة أكتوبر 1917 كنموذج لصحة النظرية الماركسية و مبادئها الانسانية. فقد تصير فيما بعد ما يسمى في أوساط الثوريين بالماركسية اللنينينة.
ينصبّ النقد على الماركسية من عدة اتجاهات أيديولوجية سياسية وتخصصات أكاديمية، بما في ذلك الانتقادات العامة الموجهة للماركسية بخصوص غياب الاتساق الداخلي، والنقد المتعلق بالمادية التاريخية، بوصفها حتمية تاريخية، ووجوب قمع الحريات الفردية، والمسائل المتعلقة بتطبيق الشيوعية، والقضايا الاقتصادية مثل تشويه وغياب مؤشرات الأسعار والمحفزات القليلة. إضافة إلى ما تقدم، عادةً ما تُطرح مشاكل الأدلة التجريبية والإبستمولوجية في صميم الماركسية.

• الماركسية اللينينية المغربية

و كل ما قلنا حول هذه النظرية فهو قليل ، حيث أنها نظرية أتبثت صحتها على مرة التاريخ، و باعتبار المغرب مجتمع من المجتمعات التي كانت في حاجة إليها، و ظروفه أرضية خصبة 
إن الحركة الماركسية اللينينية المغربية (أو ما يصطلح عليه اليوم باليسار الجديد) كحركة سياسية اجتماعية نتاج للتطورات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي مند استقلال 1956، فهي جزء لا يتجزأ من الحركة التقدمية المغربية و الحركة الوطنية العربية، و قد كانت و لا تزال في خندق المعارضة الجذرية لنظام القائم بالمغرب، النظام الذي خلفه الاستعمار الفرنسي على أرضنا بتحصين مصالحه الاقتصادية أساسا بعد مغادرته تراب الوطني.
إن سياق نشأة الماركسية اللنينينة المغربية، و بتجربتها الغنية و تطلعاتها المشروعة، لا يمكن إلا أن يغني الحوارات و النقاشات الجارية حاليا في مختلف الأوساط المناضلة، و من هنا تأتي أهمية المبادرة التي أقدم عليها" النهج الديمقراطي " المتمثلة بفتح نقاش حول هذه التجربة، بما لها و ما عليها، و حول هذا الفاعل التاريخي الذي لعب و لا يزال يلعب دورا مهما في الصراع السياسي و الاقتصادي.
أما مساهمتي هذه المتواضعة ستركز بالأساس على الظروف الموضوعية التي كانت وراء نشأة الحركة الماركسية- اللينينية المغربية"، أما الجوانب المتعلقة بتقييم التجربة و الجواب على" ما العمل؟" فإنني أعتقد أن مساهمة المناضلين الذين عايشوا التجربة و لو في بعض مراحلها، و لعبوا دورا مهما في النقاشات الداخلية لهذا اليسار خاصة مناضلين منظمة 23 مارس ، و منظمة إلى الأمام و مناضلين النهج الديمقراطي القاعدي خلال العقدين الاخرين من القرن الماضي، ستكون جد مهمة. فعلى هذا الأساس نود الوقوع عن الاسباب الكامنة وراء نشأة هذه الحركة و انتشار الفكر الشيوعي في أوساط المفكرين المغاربة و المثقفين و الطلاب. يمكن تقسيمها إلى مستويات كالتالي:

- على المستوى الاقتصادي

لقد تميز الوضع الاقتصادي بالمغرب خلال الستينات بارتفاع نسبي في معدل النمو، و هذا ناتج عن سياسة السدود و تمركز الأراضي الخصبة في أيدي فئة قليلة من المحضوضين، و إنشاء المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي للرفع من مساحة الأراضي المسقية و تشجيع الإنتاج الزراعي من أجل التصدير ( الحوامض، التين و زيت الزيتون...)و ظهور ثم ازدهار الصناعة الفلاحية الغذائية هذا من جهة، و من جهة أخرى تخلي الحكم على برنامج الاقتصاد الوطني الذي حددته حكومة عبد الله إبراهيم خلال سنتي 59- 60، فانه شجع الاستثمارات في قطاع الصناعة التحويلية الموجهة أساسا إلى السوق الخارجية، و كذا قطاع السياحة و الصيد البحري...و حتى لا ننسى الدعم و " المساعدات" التي أحظى بها نظام الحسن الثاني من الدول الامبريالية ( فرنسا، الولايات المتحدة...) جزاءا لدوره الفعال في مناهضة حركات التحرر الإفريقية و العربية عامة، و الحركة الشيوعية خاصة.
لقد شكلت فترة الستينات بداية تشييد الاقتصاد الرأسمالي الكولونيالي التبعي المخزني المبني أساسا على تلبية حاجيات السوق العالمي الضامن لتراكم سريع للرأسمالي الكمرادوري.

- على المستوى الاجتماعي

أما على مستوى الاجتماعي نستحضر عملية عصرنة فئة الملاكين العقاريين الشبه الإقطاعيين. خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي الاسباني المباشر، قد كانت أجود الأراضي بأيدي المعمرين الأجانب، أما الملاكين المغاربة الكبار ( القاعدة الاجتماعية للمخزن قبل الاستعمار و للمعمر خلال مرحلة الاستعمار) فقد احتكروا الأراضي الأخرى الصالحة للفلاحة و للرعي. و خلال الستينات أعطيت لهم كل المساعدات و التسهيلات لأخذ مكان المعمرين الأجانب ( لهذا أطلق عليهم اسم المعمرين الجدد)، و لعصرنة نشاطهم.
كذلك ظهور و تطور سريع لما يمكن تسميته بالطبقة البرجوازية البيروقراطية. لقد منح الحكم التسهيلات لأطر الدولة العليا، مدنيين و عسكريين، لمراكمة ثرواتهم بشكل خيالي في ظرف وجيز.كما تم النهب على حساب مصالح الجماهير الشعبية عامة و على حساب الفلاحين الفقراء و المتوسطين بشكل خاص، و بوسائل جلها غير ششرعية.
إلى جانب هذا تم توسيع مجال النشاط الاقتصادي للبرجوازية التقليدية ليشمل الصناعة و الفلاحة و السياحة، و الصيد البحري، و القطاع البنكي، و التأمين...بعدما كان هذا النشاط ينحصر في ميدان التجارة، و الصناعة التقليدية و النقل الداخلي.
و يمكن ملاحظة تكامل و ترابط و تداخل مصالح هذه الفئات الثلاثة، التي شكلت موضوعيا قطبا لا وطنيا، حيث يمر ضمان استمرار هيمنتها، و نمو مصالحها، عبر الارتباط الوثيق بالدول الامبريالية ( فرنسا و الولايات المتحدة) و عبر سياسة القمع الداخلي
بالإضافة إلى ذلك تدهور خطير لوضعية الفلاحين الصغار و المتوسطين: لقد هلل الفلاحون لاستقلال 1956، و عمت الفرحة كل قرى البادية، و ظن الجميع أن المسئولين الجدد سيسترجعون الأراضي الجماعية التي استحوذ عليها المعمرون تعسفا، لتسليمها إلى أصحابها الشرعيين، و قد خابت أمال الفلاحين لأن الأراضي المسترجعة ذهبت إلى غيرهم، و أخطر من ذلك، فان التسابق للاستيلاء على الأراضي الفلاحية من طرف أفراد التكتل الرجعي الحاكم كانت في الواقع عملية نزع الملكية من آلاف الفلاحين، أضف إلى ذلك الاضطهاد السياسي و الاجتماعي الذي كانت تعاني منه البادية. إن هذه الظروف الجديدة قد أعطت انطلاقة عملية الهجرة نحو المدينة، لتزدهر مدن الصفيح، و تتوسع أحزمتها. و قد تحولت أغلبية باقي صغار الفلاحين إلى عمال زراعيين يكدحون في ضيعات المعمرين الجدد و في شروط ينعدم فيها الحد الأدنى للأجور، و الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، و الحد الأقصى لعدد ساعات العمل...و في غياب التنظيمات الفلاحية المكافحة، و محدودية التأثير السياسي للقوى الوطنية، فقد كانت مقاومة الفلاحين دون المستوى الضروري، رغم بعض الانتفاضات العفوية( مثل انتفاضة أولاد خليفة بإقليم القنيطرة حيث استشهد العديد من الفلاحين الأبرياء برصاص قوات الدولة...).
أمام تنامي سخط الفلاحين و استجابة لنصائح الولايات المتحدة، و على غرار تجربة ايران الشاه و المكسيك ( عملية الثورة الخضراء)، حاول الحكم نهج سياسة جديدة في الميدان القروي، مع الحفاظ على جوهر مصالح التكتل الطبقي السائد و في مقدمتها مصالح ملاكي الأراضي الكبار، أقدمت الدولة على محاولة نهج سياسة "تلطيف و طمس" التناقضات الطبقية في العالم القروي.
تدهور وضعية الطبقة العاملة رغم نموها الكمي، و ذلك لعدم احترام القوانين الجاري بها العمل من طرف الرأسماليين المغاربة و من ضمنهم المقاولات العمومية و الشبه العمومية. إن ضرب حقوق العمال يتم تحت حماية مختلف أجهزة الدولة, و قد خاضت الطبقة العاملة المنظمة آنذاك في إطار الاتحاد المغربي للشغل نضالات مريرة (مثل إضراب عمال الفوسفاط سنة 1968 الذي دام أكثر من شهرين، و إضرابهم سنة 1971 الذي دام حوالي 3 أشهر).
پروز حركة الشبيبية التعليمية. لعبت الحركة الوطنية دورا مهما غداة 1956 في فتح باب المدرسة أمام أبناء الجماهير الشعبية, و بعد وصول الأفواج الأولى إلى التعليم الثانوي و الجامعي، اتضح لها أن خيرات الوطن الكثيرة و المتنوعة قد أصبحت محتكرة من طرف فئة قليلة و أن أغلبية الشعب بقيت محرومة، و أن آفاق مستقبل أبناء الشعب تبقى مظلمة. اكتشفت هذه الأجيال الطبيعة الحقيقية للحكم، و من هنا ستلعب هذه الفئة لاجتماعية دورا مهما في تأجيج الصراع الطبقي.

المستوى الثقافي

ظهور ثقافة الخضوع و الخضوع الذي زرع الاستعمار الفرنسي بدرته عبر تشجيع كل مظاهر الثقافة المحافظة التي تساعد على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية السائدة، و ضمان استمراريته في النهب .و من الوسائل التي حاول النظام استعمالها لفرض هيمنة الثقافة الرجعية السائدة نذكر منها الدين عبر المسجد و الإذاعة و التلفزة (لقد تحولت خطبة يوم الجمعة إلى عملية للدعاية السياسية المخزنية)، و عبر المدرسة (قرار إجبارية الصلاة في التعليم الابتدائي و الثانوي غداة انتفاضة مارس 1965)... و لولا صمود بعض المثقفين لما رأت مجلة "أنفاس" النور.؛ هذه المجلة التي لعبت دورا رائدا في الدفاع عن مكونات الثقافة الشعبية، و دورا لا يقل أهمية في نشر الوعي داخل أوساط الشباب.

المستوى السياسي.

يمكن تقسيم المستوى السياسي إلى ثلات في ماهو دولي عالمي و ما هو محلي وطني و أخير ما هو إقليمي. كما يمكن تقسيم الفاعلين السياسيين الرئيسيين إلى الأقطاب الثلاثة الآتية: حزب الاستقلال، كحركة سياسية – تنظيمية، الاتحاد المغربي للشغل(ا.م.ش) كقطب نقابي، مجموعات المقاومة و جيش التحرير.
قد كان حزب الاستقلال في تلك المرحلة، عبارة عن جبهة واسعة لتيارات سياسية و فكرية تعبر في العمق عن مطامح مختلف الفئات الاجتماعية التي كانت تشكل قاعدته التنظيمية، فشعار الاستقلال غير كافي لتوحيد الرؤى، خصوصا و أن هذا الحزب كان يفتقد إلى برنامج سياسي و اقتصادي لما بعد الاستقلال.
و قيادة أ.م.ش كانت منذ 1955 حريصة على فرض سيطرتها على الطبقة العاملة، و بكل الأساليب، و ذلك بإبعادها عن الهموم السياسية و الفكرية، و كانت تناهض كل عمل من شانه توعية العمال بدورهم الطبقي في عملية تحرير المجتمع، فرغم مساهمة قيادة أ.م.ش في تشكيل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية(أ.م.ق.ش)، فإنها لم تتخل في يوم من الأيام عن سياسة عزل العمال عن النضال السياسي.
أما مجموعات المقاومة و جيش التحرير و التي يمكن تصنيفها بالجناح العسكري للحركة الوطنية، فرغم وعي جل قادتها بالمشاكل الأساسية لما بعد الاستقلال السياسي، و إيمان هؤلاء القادة بضرورة الاستمرار في عملية التحرير لبناء مغرب وطني تقدمي، فان التكتل الطبقي الرجعي المتنامي تمكن من تفكيكها و أجهض مشروعها في المهد، مستغلا في ذلك الصراعات الداخلية للحركة الوطنية، و انعدام الوعي الثوري لدى قواعد المقاومة و جيش التحرير، و الامتداد المخزني عبر بعض أطر جيش التحرير المرتبطين بملاكي الأراضي الكبار الشبه الإقطاعيين و الذين كان لهم تأثير مهم في بعض المناطق ( الأطلس المتوسط و شرق البلاد).

على هذا الأساس يمكن تلخيص مميزات الصراع السياسي خلال فترة 56- 60 فيما يلي:
انفجار التناقضات الداخلية للحركة الوطنية و التي تمخض عنها ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (يناير 1960) بكل تناقضاته الداخلية. كذلك يمكن أن نقول أن فرنسا و الولايات المتحدة قد لعبتا دورا مهما، عبر عدة قنوات في تأطير و توجيه الصراع السياسي لتلك المرحلة، و الهدف من ذلك هو التحكم في عملية بناء دولة ما بعد 56 بشكل يمكنها من لعب أدوار"ايجابية" في إطار إستراتجية الامبريالية المعادية لحركات التحرر عبر العالم بشكل عام و لحركات التحرير العربية و الثالوث الامبريالي الصهيوني الرجعي.
إن "انتفاضة" العامل عدي و بيهي بتافيلالت لا يمكن تفسيره إلا بمحاولة فرنسا خلق حزام أمني شرق المغرب لعزل المقاومة الجزائرية عن المقاومة المغربية و قطع طرق التموين عن المقاتلين الجزائريين. و ما حاولت فرنسا القيام به شرق المغرب خلال 56- 57، هو ما قامت به إسرائيل في جنوب لبنان عقود بعد.
بالإضافة إلى ذلك منع الحزب الشيوعي المغربي في أخر الخمسينات لا يمكن إلا أن يخدم سياسة الامبريالية الأمريكية التي كان من أهدافها القضاء على الثورات التقدمية عبر العالم، و ذلك في مواجهة المد التحرري عبر العالم، و معسكر الاتحاد السوفياتي.
بالتالي يمكن القول أن فترة ا بين 1961- 1965 قد عرفت حسم موازين القوة لصالح التكتل الطبقي الرجعي، القاعدة الاجتماعية للحكم المخزني، و ذلك بفرض دستور يشرعن الحكم الاستبداد الفرديسنة 1962، و بناء مؤسسات دستورية ( البرلمان- الجماعات المحلية) بأساليب بعيدة كل البعد عن الأساليب الديمقراطية، و قد عجزت الحركة الوطنية وقف ذلك المسلسل الرهيب رغم المقاومة التي بذلتها مختلف مكوناتها، و رغم تضحيات العشرات من المناضلين. و من الاسباب الذي ساعدت الحكم على حسم موازين القوة لصالحه هي:
الصراعات الداخلية لمكونات الحركة الوطنية: فرغم تواجدها في الحكومات الأولى و رئاستها للمجلس الاستشاري المشكل غداة استقلال 56، فان أقطاب الحركة الوطنية لم تتمكن من توحيد صفوفها و التحكم في مجرى الأحداث على الصعيد الوطني. تم نعدام أي مشروع مجتمعي متكامل من شأنه تجنيد الطبقات الشعبية حول قيادة تقدمية منسجمة، و ذلك رغم اجتهادات و محاولات بعض رموز الحركة الوطنية( المهدي بن بركة، الفقيه البصري، عبد الرحمن اليوسفي...). بالإضافة إلى سكوت جل أطراف الحركة الوطنية على القمع الدموي الذي تعرض له سكان الريف الذي ذهب ضحيته آلاف من الأبرياء، و قد أفقدها هذا السكوت شعبيتها في تلك المناطق.
ظهور تنظيمات سياسية رجعية برعاية القصر مثل الحركة الشعبية التي تميزت بنغمة "الدفاع" عن مصالح البادية بشكل عام و عن "مصالح" الأمازيغيين بشكل خاص، و جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية المتميزة بنغمة "الدفاع" عن القيم الديمقراطية و تحديث المجتمع. و تشكيل أجهزة القمع الرهيب التي لم تتردد في الاعتقال التعسفي، و طبخ الملفات المزورة، و الاختطاف، و التصفية الجسدية...و إجراء المحاكمات الصورية.
بناء على كل ما سبق من أحداث و وقائع بدأ يتضح للعديد من مناضلي الإتحاد المغربي للشغل أن التعايش مع النظام أو بناء مجتمع ديمقراطي في ظله قد أصبح من المستحيلات...تعددت الأجوبة على السؤال اللينيني الشهير "ما العمل؟". لم يستطيع الحزب الذي كان شبه مشلولا، تأطير النقاشات الداخلية و مركزة الآراء... فبدأت كل مجموعة تمارس قناعاتها خارج الضوابط الحزبية: كان هناك من بدأ في تشكيل نقابات قطاعية خارج نقابة ا.م.ش (النقابة الوطنية للبريد، النقابة الوطنية للتعليم...)، و كان هناك من بادر في تنظيم المقاومة المسلحة (مجموعة الشهيد شيخ العرب الذي استشهد صيف 1964 بالدار البيضاء)
و في هذا الإطار المتسمة بالتبعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية و السياسية، كذلك بالإرهاب السياسي، و السطو على خيرات البلاد، و تشريد الفلاحين الصغار...بدأ يتغير خطاب حزب الاستقلال منتقدا مختلف جوانب سياسة الحكم، و بدأت تتبلور الأسس النظرية الماركسية اللنينية في شعارات و مواقف أواخر الستينات و بداية السبعينات " و خاصة موقف من النظام القائم، و مواقف من القضية الفلسطينية.
كما برز في هذه الظروف المتسمة بحدة الصراعات السياسية خلافات داخل التكتل الرجعي الحاكم، ستبقى مخلفاتها تسمم العلاقات بين المحجوب احرضان و ريضا كديرة إلى حدود وفاة هذا الأخير، و مما نتج عن ذالك الشلل التام للفديك (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، ذلك المخلوق الإداري، و قد سهلت فيما بعد هذه التناقضات مبادرة المعارضة البرلمانية الوطنية التي تمكنت من تمرير ملتمس الرقابة أطاحت به الحكومة. 
و أمام عزم الحكم على تشديد الخناق عن كل ما هو حي، و نهج سياسة الإرهاب غير الاعتقالات، الاختطافات و الاستشهادات، و أمام عجز أطراف الحركة الوطنية على تنظيم و قيادة المقاومة الشعبية، لم يبق أمام الجماهير بشكل عام، و أمام الشبيبة التعليمية بشكل خاص إلا ردود الفعل النضالية العفوية، و قد توجت هذه النضالات بانتفاضة مارس 1965 العفوية التي انطلقت من مدينة الدار البيضاء، لتشمل مدنا أخرى لكن بأقل حدة.
لم تنشف بعد دماء شهداء الدار البيضاء، حتى سارع قادة القوى السياسية إلى تلبية دعوة الحسن الثاني للالتحاق به بمدينة ايفران. كان هدف النظام هو إجهاض حركة المقاومة الشعبية التي بدأت تعم مختلف الأقاليم، و إيهام الجماهير بإمكانية الدخول في عهد جديد يتسم بالديمقراطية الحقة و التناوب السياسي... و لهذا كان الحكم في حاجة ماسة إلى كسب مساندة أو حياد أقطاب الحركة الوطنية، إنها سياسة ربح الوقت لإعادة ترتيب البيت و تحديد خطة المرحلة.
إن إعلان حالة الاستثناء و اختطاف المهدي بن بركة (أكتوبر 1965)، و تصعيد القمع بخرت كل الأوهام.لقد شكلت انتفاضة مارس 1965 النقطة التي أفاضت الكأس، فالتطورات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي عرفها المغرب منذ 1965، و التي اتسمت بالاستحواذ على خيرات البلاد من طرف التكتل الطبقي الرجعي، و مراكمة الانتصارات السياسية لصالحه، و عجز أقطاب الحركة الوطنية البرجوازية على التصدي لهذا الاكتساح الرجعي...إن هذه التطورات قد دفعت ببعض المثقفين و بالشبيبة التعليمية المنحدرة من الأوساط الشعبية إلى البحث عن أسباب الانتكاسات، إلى محاولة تقديم بدائل، و هكذا عمت النقاشات قواعد أ.و.ق.ش و الحزب الشيوعي، كما تعدت هذه النقاشات الأوساط الحزبية لتشمل معظم الشباب المغربي في المدن و في القرى، و عبر كافة التراب الوطني، و قد تحولت الثانويان و الكليات و المعاهد... إلى "أوراش" سياسية، فكرية أعطت مناضلين من نوع جديد لم يترددوا للالتحاق بقافلة النضال الجذري و بأفق جديد.

أخير، و بخلاصة القول، إن كل هذه الظروف و الاحداث و الوقائع الاجتماعية التي عرفها المغرب مند الاستعمار و بعد خروجه من الباب و دخوله من النافدة. إلى جانب المد النضالي الشيوعي العالمي تشكلت أول تنظيمات الماركسية اللنينية مغربية التي فحصت وفق النظرية المتطورة و الثابت فيها هو الجدل المحاور التالية:
• التركيبة الطبقية للتكتل الحاكم و طبيعته الرجعية
• الطبيعة الطبقية لمكونات الحركة الوطنية و محدودية نضاليتها
• الطبقات الشعبية و الدور الطليعي للطبقة العاملة
• الحركة الثورية و النظرية الثورية
• الحزب الطليعي و الثورة الشعبية
• الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية على طريق الثورة الاشتراكية
• الثورة الاشتراكية على طريق المجتمع الشيوعي
• الإستراتيجية و التكتيك في عملية التغيير
• القضية الفلسطينية كقضية وطنية
• الربط الجدلي بين الوطني و العربي و ألأممي

ومن خلال الفحص النظري لهذه المحاور، و عبر الممارسة اليومية وسط الجماهير، و معايشة الواقع الحزبي بالنسبة للبعض، و معايشة الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي بالنسبة للجميع، فقد بادر العشرات من المناضلين الطليعيين في تشكيل الأنوية الأولى للحركة الماركسية اللينينية. اتضخت رؤية النظرية كمرشد عمل و استراتيجية و تكتيك لتحرر الشعوب العربية من الشعب المغربي و الشعب الفلسطيني و كل الشعوب الثواقة الانعتاق و التحرر.
إلى هذا الحد نضع نهاية الجزء الاول من مقالتي هذه ، لتتبع في جزء ثاني حول تحول الوعي المجتمعي المغربي بعد تأسيس الحركة الماركسية اللنينية المغربية، و الطعنات التي تعرضت إليها من طرف الدولة و من طرف التنظيمات المتطرفة الرجعية العاملة لنظام القائم منها المتغلببة بالنظرية كقنطرة لعبور وسط قلب الحركة و تفكيكها. هذا ما نتراقبه من الجزء الثاني من هذا المقال الذي أهديه

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!