مدخل إلى الشرق الأوسط

آدمن الجيوستراتيجي
0
نقدم لكم كتاب: " مسارات الأزمة السورية ".تأليف الباحث السياسي إبراهيم مصطفى (كابان)، جهة النشر الإلكتروني " مركز الجيوستراتيجي للدراسات ". 
سوف ننشر مواد الكتاب على شكل كل مادة فيها بشكل مستقل ضمن هذا العامود المخصص لنشر الكتب تحت عنوان " كتاب مفتوح ".
المقدمة
مدخل إلى الشرق الأوسط
لم تعد سياسة التدخل العسكري المباشر لتغيير الأنظمة بالقوة مسألة محببة لدى المؤسسات العسكرية والسياسية الأمريكية، لاسيّما الإدارات التي تلت جورج بوش الابن، حتى ان نفوذ المحافظين ودعاة خوض الحروب داخل الكونغرس والحزبيين " الديمقراطي والجمهوري " أصبحت في تراجع كبير بعد حرب أفغانستان والعراق وما أخلفهما من مستنقع بغيض انعكس بشكل سلبي على الاقتصاد الأمريكي وسمعتها العالمية.
لقد كانت تلك القرارات الحربية باهظة الثمن بالنسبة للسياسات الخارجية، وكلفت الولايات المتحدة أموال طائلة، وكبدتها خسائر فاضحة. 
إلا أن وجود البديل عن التدخل العسكري توفر كنتيجة للهيمنة الاقتصادية الأمريكية على معظم الدول، وآلية مناسبة وناجعة في الحصول على أية تغييرات داخل البلدان دون التكاليف بالأموال والدماء. وهو ما تركز عليه إدارة الرئيس جو بايدن في الحصول على المكاسب دون خسائر، ويمكن رؤية ذلك بشكل واضح في السياسة الخارجية الأمريكية خلال عهدة بايدن، ولعلَّ التوجهات العلنية إتجاه معظم دول في شرق الأوسط تظهر هذه الحقيقة. وإن كانت هناك تدخلات عسكرية خفيفة لتدعيم مصالح محددة كما يحصل في سوريا، إلا أنها تأتي من قبيل الحفاظ على المصالح الاستراتيجية فقط، وليس خوض حرب كبيرة مشابهة للتدخل العسكري في أفغانستان والعراق. كما أن القواعد العسكرية الأمريكية التي كانت جزء من المصالح الاستراتيجية تدفع تكالفيها، باتت اليوم تندرج في إطار " لولا هذه القواعد لكانت هذه الدول تتعرض إلى حروب مدمرة من دول أخرى "، وهنا مثال الخليج العربي والبعبع الإيراني الذي أصبح أكبر مساعد لتوفير التغطية على السياسات الأمريكية الجديدة، أي قواعد لتأمين الأمن والأمان إلا أنها ليست مجاناً، أي على الدول تقديم المال مقابل خدمات أمريكا في حمايتها. 

خلال حملته الرئاسية انتقد دونالد ترامب تورط الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط ، ومنذ توليه منصبه لم يغير من لهجته، وظل يكرر في كل مناسبة اختلاف سياساتها الخارجية عن سلفه "أوباما". بينما تجرأ في إقرار الإنسحاب من سوريا، وشكل ذلك هاجساً ومخاوف كبيرة لدى حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، وشكل ذلك خطراً كبيراً على هيبة امريكا وضعف ثقة حلفائها نتيجة التصرفات المتسرعة لإدارة ترامب. 
بينما أعادت إدارة جو بايدن بناء الثقة مجدداً مع حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأوروبا، لا سيما في ملفات النزاع مع إيران وحماية الخليج العربي ودعم القضايا الاستراتيجية للدول الأوروبية، والإبقاء على القوات العسكرية في سوريا إلى حين تخفيف حدة التهديدات والإشكاليات.,

فعلياً لا مصلحة لإيران في خوض نزاع واسع النطاق ضد المصالح الإسرائيلية- الغربية في الشرق الأوسط، وتدرك أنها لا يمكنها الفوز بأية منافسة حقيقية أمام التشبث الأمريكي- الأوروبي بمصالح إسرائيل وحماية امنها بالدرجة الأولى. إن إستمرار النظام الإيراني في إطلاق التهديدات ضد الدول العربية توفر للولايات المتحدة حاجة هذه الدول الدائمة إليها، كما أن إسرائيل راضية عن العمليات المعايرة في العراق ولبنان وسوريا وغزة لأن أذرعة إيران توفر لها بشكل دائم عملية التدخل العسكري متى تشاء، وتبقى هذه الدول والمناطق تحت رحمة السياسات الخارجية الإسرائيلية، لكنها بنفس الوقت تخشى مواجهة أكبر قد تعرضها لآلاف الصواريخ الإيرانية إذا ما تم الإخلال بسيرورة هذه المنظومة المركبة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. 

المملكة العربية السعودية مصممة على الدفع ضد إيران ولكن دون مواجهتها عسكرياً، بالرغم من عدم توفر أية آليات مفيدة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في خوض أية نزاعات عسكرية مباشرة مع إيران، فإن الظروف الملائمة لحرب شاملة في الشرق الأوسط هي أضيق من أي وقت مضى في الذاكرة الحديثة، والأمريكيين واعيين لمسألة خطورة أية حرب شاملة في المنطقة، حيث سيتعرض أمن إسرائيل إلى خطر كبير في الوقت الذي تتعرض المصالح الأمريكية الإستراتيجية إلى عبث لا مثيل له. ولماذا أساساً تتعرض؟ وما فائدة الحرب الشاملة التي سوف تتسبب بتدمير منشآت النفط والغاز ؟، لطالما إيران بتهديداتها المستمرة لا تخرج عن النطاق العربي، وتحركاتها تنتج حالة صدع مع العرب مقابل دفع المشهد العربي إلى التحالف مع إسرائيل، وبنفس الوقت تدفعهم إلى شراء الاسلحة الثقيلة باستمرار من المصانع الأمريكية والأوروبية التي تديرها شركات متعددة وضمنها إسرائيل، وبذلك توفر إيران الكثير من الخدمات لإسرائيل والغرب. 

إن نتائج حرب اليمن بمثابة مقبرة للأسلحة الخليجية، ودافع مستمر للتحضير الدائم في سد التدخلات الإيرانية، وهو مثال على خدمات إيران للقوى الغربية، حيث تنزف ترسانة الأسلحة الخليجية في الحرب مع الحوثيين الذين يتبعون لإيران على حساب تدمير اليمن ومستقبلها، وتدفع بالخليج إلى دفع الأموال الطائلة لشراء الأسلحة وبنفس الوقت الحاجة إلى الحماية الغربية التي أصبحت مقابل الأموال وليست بالمجان كما كانت في السابق.
أتخذت إدارة ترامب في عهدتها سياسات صارمة في التعامل مع حلفاء امريكا في الشرق الأوسط، وكانت الوجهة تحقيق أهداف آنية محددة، افتعال الأزمات، ضرب الأنظمة والقوى الصغيرة ببعضها بغية دفعها إلى الحاجة الدائمة للولايات المتحدة، وتقديم الحماية لها مقابل الحصول على المال، ومحرك هذه الأزمات بالنسبة للدول العربية هو النظام الإيراني، والنتائج العملية، تحالف إسرائيلي – عربي.
الأمريكيين ليس لديهم خيار ثالث حول الوضع السوري، ويدركون تماماً إن تركوا روسيا وحلفاءها الإقليميين والمحليين يسيطرون على منافذ مهمة في الشرق الأوسط، سوف يشكل ذلك تهديداً حقيقياً لمصالحهم، كما إن العمق السوري يشكل بوابة واسعة لجميع مداخيل الشرق الأوسط، والسيطرة الروسية على هذه المفاصل سوف تؤدي إلى فقدان السيطرة على المسار السوري، وربما تأثيراتها تصل العراق والخليج العربي. لذلك نجد الحضور الأمريكي المستمر يوحي بإدراك خطورة ترك المنطقة للعامل الروسي. 

لذا نجد التحرك الروسي وفق إستراتيجية الاستفادة من الاخطاء الأمريكية في المنطقة، وبنفس السياق يعول الروس على إستعادة النظام السوري لزمام السيطرة مجدداً على كافة المناطق السورية، لأن التوسع الروسي ضمن هذه الظروف يعتمد على أنظمة إستبدادية في المنطقة، وهنا تلتقي المصالح الإسرائيلية مع التصور الروسي، وعودة النظام السوري إلى سابق عهدها يخدم بالدرجة الأولى كافة الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط، فالديمقراطية يشكل بعبعاً حقيقياً أمام إستمرارية هذه الانظمة في التحكم بمقدرات الدول والشعوب.

من هنا ندرك تماماً حجم التشبث الأمريكي في البقاء داخل سوريا، أو على الأقل الإبقاء على أجندة السيطرة في مجريات الأحداث، وإن اختلفت طبيعة تواجدهم أو نوعية علاقاتهم، فإنه ليس لديهم مكان سوى بوابة شمال سوريا، والكُرد، وبالتالي سيركز الأمريكيين في المراحل القادمة على إيجاد حل سياسي وفق التفصيلة الخاصة بمصالحهم، وليس وفق الإستراتيجية الروسية التوسعية. وهنا ندرك تماماً أن التحالف الغربي في شمال سوريا، سيكرس نفوذه بما يضمن الحضور في الأزمة السورية بإستمرار، مقابل عدم الإنجرار إلى صدام مباشر مع الاتراك، مقابل إتخاذ الأساليب الدبلوماسية في تهدئة مخاوفها بعيداً عن الجهود التركية الحربية. 

العلاقة مع الأتراك لا تنتهي بما تشتهيها السياسات روسيا، لأن التحالف الغربي يدرك تماماً مخاطر إبعاد تركيا عن حلف الناتو ، أو تركها لقمة صائغة في فم الأطماع الروسية. كما إن الأتراك يوفرون للقوى الغربية سبل السيطرة على المجموعات المتطرفة. ولا يمكن إبعاد المؤثر الرئيسي على تلك المجاميع من دائرة الأستخدامات العملياتية، وتركها عرضة للموسع الروسي، فهذه الجماعات تشكل تهديداً عملياً للدول الغربية، لذا نجد الدول الأوروبية تعمق من التعاملاتها الإستخباراتية مع تركيا رغم حالة التمعض والاحتقان السلبي بين الطرفين في قضايا متعلقة بأمن اليونان والقبرص والاهداف التركية المتعلقة بالتنقيب عن الغاز والنفط في شرقي المتوسط. 
الخشية من الإنفعال التركي سبباً رئيسياً لإتخاذ سياسة المرونة من قبل القوى الغربية إتجاه الأتراك، فالجغرافية التركية تشكل عقبة برية وبحرية للإتحاد الأوروبي، وإبعادها تعني وضع تلك النفوذ في الحاضنة الروسية، وإدخال المنطقة برمتها في دائرات النزاعات جديدة قد تؤدي في المحصلة إلى إعادة ظهور الحرب الباردة مع الروس والصينين، وفتح المجال أمامهما في الهيمنة الكاملة على أوكرانيا وعموم أوروبا الشرقية، بالاضافة إلى تشكيل حزام تهديد حول الاتحاد الأوروبي.

تعارضات مفيدة

عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، كل السياسات تصبح ساحة للتحولات الدراماتيكية وفق النفوذ الدولية، ويمكن أن تنشب أي تقطع أو تعارض بين المصالح " الحلفاء - المنافسين" في أحد المناطق ولعدة أسباب قد تكون إقتصادية أو عسكرية.
بالكاد لاحظ العالم نقطة محورية للإيرانيين في التنافس مع السعوديين وفهم وفق الترويج للحدث إن الحرب على الأبواب، وقد تكون حافزًا محتملًا للتدخل العسكري الأمريكي الأعمق في المنطقة، إلا أن المعالجة السياسية الأمريكية للمسألة لم تكن بمستوى طموحات الخليج العربي، وكان ذلك دافعاً للأمريكيين في الضغط على هذه الدول من أجل دفع المقابل المالي لضمان أستمرار الوجود الأمريكي في منع الإيرانيين وأذرعتهم من العبث بأمن المنطقة. ويمكن التأمل هجمات الحركة الحوثية بإستمرار على المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية، وطبيعة تفاعلها وترويجها من قبل جميع الأطراف المتنافسة، سنجد إنه من الممكن نظريًا أن يرتكبها الحوثيون، وهي جماعة يمنية متمردة، جعلت من ولاية الفقيه الإيراني إنتماءً وبعداً طائفياً لها، وكجزء من حربهم مع المملكة من جانب إيران ، وهو بطبيعة الحال رد فعل على العقوبات الأمريكية المنهكة، أي بمعنى ممارسة نوع من الضغط الإيراني على العقوبات الأمريكية من خلال الادوات الإيرانية الكثيرة في المنطقة، والمسألة سيان على الميليشيا الشيعية في العراق. وبذلك فإن قررت واشنطن القيام بعمل عسكري ضد طهران، فقد يؤدي هذا بدوره إلى الانتقام الإيراني من حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، أو هجوم حزب الله على إسرائيل، أو تنفيذ عمليات عنفية ضد المصالح الأمريكية في العراق وسوريا من قبل الميليشيات الحشد التي تتبع لولاية الفقيه الإيراني. وبالمثل فإن العمليات الإسرائيلية ضد أذرعة إيران في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى سلسلة من ردود الأفعال إذا لم تأخذ تلك العمليات طابعاً دولياً، أو على الأقل التنسيق المباشر بين الإسرائيليين والروس والأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين في سوريا، نظرًا لأن أي تطور في أي مكان في المنطقة يمكن أن يكون له آثار سلبية على الأطراف في نقاط الاشتباك والتواجد، لذا نجد جميع القوى الإقليمية والدولية تتخذ سياسة التفاهمات في توزيع الكعكة الإقتصادية في الشرق الأوسط، واللاعب الصغير دائماً يتبع للاعبين الكبار.

إن الاحتواء الضيق للأزمة يتحول بسرعة إلى ممارسة غير مجدية، وهذا ما يظهر لنا إن فكرة الحرب الشاملة في الشرق الأوسط مسألة غير ممكنة وبعيدة عن منطق الأحداث.

إن قمع النظام السوري للانتفاضة الشعبية بأساليب وأدوات عنفية مركزة يعيد إلى الأذهان السبل الوحشية التي يتخذها الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط في مواجهة الثورات والتحولات الديمقراطية، وتتكرر بإستمرار في إنتاج نفس النمط من الهيكل السلطوي ومفرزاتها الأمنية المقيتة، بالكاد تجاوز النظام السوري كافة الأنظمة التي تعاملت مع الربيع العربي بالقوة، لأن المعطى السوري أتسع لوجود مسارات كثيرة وثغرات مفرطة أمام الدول الإقليمية التي خشيت من تعميم النموذج السوري ومفرزاته إلى الجوار، وتتسبب في فك أحد أكبر المعضلات الجيوسياسية في المنطقة.

الكيانات التي صنعتها إتفاقية سايكس بيكو لا تتحمل الصدمات المباشرة، لأن ذلك سيؤدي في المحصلة إلى فك هذه الدول وإنتاج أخرى.

لذا كانت الحرص الشديد من قبل تركيا على إفشال التطورات السورية، أو على الأقل توجييها نحو تعميق الازمة السورية من البوابة السورية، وجعلها نموذجاً مخيفاً يخشى الشعوب في الشرق الأسط تكراره وتعميمه. 

لقد دفعت حجم العنف الذي شهدته الحرب الأهلية السورية معظم دول الجوار والقوى الكبرى إلى التدخل في مجريات وتفاعلات الأزمة، وتسطير مسار خاص بها تضمن مصالحها بالدرجة الأولى، وتحمي حلفائها في الشرق الأوسط. وبالتالي تحولت هذه المواجهات إلى صراع دولي تجر إلى مستنقعها عدد كبير من الدول والجماعات والأطراف الإقليمية والمحلية. 

كادت الأزمة السورية في وقت ما تدفع بالأمريكيين والروس والأتراك والإيرانيين والإسرائيليين إلى حافة الحرب الخاصة على الأرض السورية، إلا أن الوكلاء المحليين أتخذوا الدور الكامل في تحقيق هذه المواجهات، بينما كانت هذه القوى تتحاور وتتقاسم الكعكة السورية. وبالنظر إلى العلاقات التركية – الروسية – الإيرانية حول سوريا، سنجد إنهم متحاربين فيما بينهم بأدوات سورية، ومتفقين على مسار مشترك لإعادة النظام السوري إلى السيطرة مجدداً على مناطق التي أستولت عليها المعارضة المسلحة.

عقدت روسيا والأتراك عدة إتفاقيات عسكرية وإقتصادية تحت يافطة " الدول الضامنة للمصالحة السورية "،كيد أن تحقيق ذلك لم يتم إلا بعد التضحية التركية بالمجاميع المسلحة في المناطق الداخلية السورية، وخلال أعوام 2013-2016 سيطرت المعارضة السورية على عدد كبير من المناطق، فيما انسحبت عنها مع بداية 2018 بإتفاقات تركية - روسية لصالح عودة النظام السوري والميليشيات الإيرانية، وبالتالي أستخدم الأتراك ورقة المعارضة السورية في تحقيق المكاسب الإقتصادية والأمنية.

التفسير الواقعي لمثل هذه التحولات هو أن الشرق الأوسط أكثر مناطق العالم استقطابا، لأمتلاكها الخصوصية الإستراتيجية والثروة الأحفورية، وكذلك احتوائها على فتيل النزاعات والتفجير الدائم، ومن المفارقات أنه أكثرها تكاملا، بمعنى اللعب في مساحاتها سياسياً وعسكرياً لا يتطلب العناء، ولكن بنفس الوقت يشكل تهديداً مباشراً في تغيير الموازين. هذا المزيج - جنبًا إلى جنب مع هياكل الدول الضعيفة رغم هيمنتها الأمنية، ومثال تركيا التي تملك الإمكانيات العسكرية الهائلة تكاد إقتصادها هشاً، تدمر بمجرد تهديد بسيط يطلقه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على الوسائل الإجتماعية. 

الجهات الفاعلة الغير الحكومية تنشأ من رأس الهرم القوى الحاكمة، والتحولات المتعددة التي تحدث في وقت واحد تقريبًا - تجعل الشرق الأوسط أكثر مناطق العالم تقلباً، وقابلاً للانفجار كقنبلة موقوتة. هذا يعني أيضًا أنه طالما بقي موقعها الإقليمي على حاله، فإن طبيعة التعامل الأمريكي مع الأحداث سيكون حساساً للغاية، وهذا واضح من خلال التناقضات والتقاربات الأمريكية – التركية، التي ظاهرها اشكاليات وتباعدات كثيرة يفهم منها وجود صراع مرير لا يمكن إلتحامه، وباطنها قوى تدافعية تجعلهما تسيران في نسق واحد، لا يخرج الأتراك بموجبها عن الدائرة المصلحة الأمريكية وأبعاد سياساتها الاستراتيجية في التعامل مع الأحداث داخل الشرق الأوسط. 
إن توجيه أية ضربة أمريكية دون حسابات دقيقة ستكون لها عوامل سلبية كبيرة لاسّيما عندما تكون بعيدة عن التشابك الإقليمي المكلف، وفي نهاية المطاف، فأن السؤال ليس بشكل رئيسي ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تنفصل عن المنطقة. كيف ينبغي لها أن تختار الانخراط: دبلوماسيًا أو عسكريًا، عن طريق تفاقم الفجوات أو تخفيفها؟.

الشرق الأوسط المعاصر يترعرع على سلسلة من الانقسامات العميقة، ويتقاطع بين أربعة مسارات الأكثر أهمية: 
- إيران والسعودية، وانقسام القوى على المحورين.
- إسرائيل وخصومها، وبوادر تحالف عربي إسرائيلي.
- الكتل السنية المتنافسة بين الحداثة والتطرف.
- الصراع السني – الشيعي العنيف. 

تمثيل خصوم إسرائيل الحاليين بشكل رئيسي من خلال ما يسمى بمحور المقاومة: إيران، النظام السوري، حزب الله، حركة حماس، الحركة الحوثية، ويتصاعد الصراع في الساحات التقليدية في الضفة الغربية وغزة، بين المجموعات الموالية للدول العربية السنية، بينما تتبع غزة للمصالح الإيرانية، ومؤخراً التركية أيضاً، حيث تشن إسرائيل بشكل روتيني القوات الإيرانية والجماعات المرتبطة بها في سوريا ولبنان وغزة، وتستخدم حزب الله والكتائب الإيرانية في سوريا كحجة مستمرة لشرعنة التدخل العسكري وتوجيه الضربات الجوية. وشهدت سوريا ضربات إسرائيلية على مناطق حساسة قيل إنها لحزب الله والكتائب الإيرانية، حيث تواجه إسرائيل حزب الله المدجج بالسلاح المدعوم من إيران، بينما غياب معظم الدول العربية عن خط المواجهة يجعلها أقل تأثيراً في الحدث السوري، وهو ما فتح المجال أمام القوى الشيعية في التمدد بين طهران وبيروت.

الهدف الإسرائيلي ليس القضاء على التمدد الإيراني وذرائعها في الشرق الأوسط، لأنها فعلياً تخدم المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية، وإنما تهمها كثيراً عملية تحجيم هذا الدور والإبقاء عليها ضمن سياق يمكنها في السيطرة عليها بإستمرار.

ساهم الصراع الدول العربية الخليجية مع قطر في توجيهها للحاضنة التركية، وكانت ساحة المعركة الحقيقية على الأراضي السورية، حيث ساهم النظام التركي في القضاء على المجموعات السورية الموالية للمملكة العربية السعودية والإمارات، بينما ترعرعت المجموعات الممولة قطرياً وبإشراف تركي، حيث التمويل القطري والفائدة التركية، وتقليص الدور السعودي الإماراتي.

المنافسة القطرية مع الدول العربية الأخرى لم تتوقف على الأراضي السورية، بل امتدت إلى ليبيا ومصر والسودان واليمن ولبنان، بينما النتائج كانت تقليص الدور الجميع لصالح الهيمنة التركية، حيث أدارت إستخباراتها المجاميع المسلحة والمتطرفة في سوريا وليبيا ومصر، وأدخلتها كافة في مناقصات مع الأطراف، ولعل التخلي التركي عن ملف دعم حركة أخوان المسلمين المصرية أو إدخال المجموعات المسلحة السورية على طاولة المفاوضات مع الروس والإيراني مقابل التوقف الروسي عن دعم الكرد في سوريا، نماذج عملية لفهم السياسات التركية.

التمدد الإيراني والتوسع التركي شكلتا تهديد مباشر على الأمن القومي العربي، لأن جغرافية تحرك القوتين كانت على حساب الدول العربية فقط، وقضية المعادات الإيرانية التركية لإسرائيل تبين إنها مجرد أدوات إعلامية لغرض إلتماس مشارع الشارع العربي والإسلامي. لذا فإن ما تشكله إيران وتركيا من تهديدات على الدول العربية تجاوزت كل التحركات الإسرائيلية خلال 70 سنة.

تعطي المملكة العربية السعودية أولوية لتنافسها مع إيران، ويستغل كلا البلدين الصدع السني - الشيعي لتعبئة الشارع العربي - الإسلامي، بينما تستخدم إيران الأدوات الطائفية في إدارتها للأزمات، والتي بدورها تنفذ هجمات مستمرة على المصالح الخليجية، وتهدد الأمن الإستراتيجي لبعض الدول العربية، وإن كانت العراق ولبنان واليمن وسوريا في مرمى السيطرة الإيرانية، إلا أن تقاطع المصالح العربية – الإسرائيلية تفرض تقارباً وتعاوناً لا مفر منه، فذلك يوفر تحسناً في القضية الفلسطينية من طرف، وتدفع بوجود حلف ناتو شرق أوسطي قد يكون حامياً لهذه الدول من التسرعات التركية والمخططات الإيرانية.

بينما تشهد الخلافات السنة - السنة تطورات فعلية، ومواجهات عنيفة، وإن كانت تجري بالوكالة في عدة مواقع، حيث تتنافس مصر والمملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة مع قطر وتركيا صراعاً مريراً على تمثيل السنة، ويكمن الصراع الحقيقي في الجوهر حول الدعم التركي القطري للجماعات المتطرفة وحركة إخوان المسلمين التي تعبث بأمن المنطقة وتعمل على زعزعة أستقرار الدول السنية " الخليج العربي – مصر - ليبيا – التونس -"، واحتلال أجزاء من سوريا والعراق، وتبنى الدولتين لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، لاسيّما دعوة النظام التركي إلى إحياء السلطنة العثمانية بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة وتحولت إلى الحاضنة الارتكازية لجميع المجموعات المتطرفة، في مقدمتهم حركة الإخوان المسلمين.
إلى جانب الاستقطابات الناجمة عن الصراع في المنطقة، ولدت التجاذبات بين القوى التي كانت مختلفة، وهنا ساهمت الاختلافات الكبيرة في ولادة التقاربات الضرورية، ويمكن إدراج شبه التقارب الإسرائيلي مع الدول السنية في مواجهة إيران مقابل تقارب تركي مع الإسرائيليين في مواجهة الدول العربية السنية، وتقارب قطر مع تركيا ضد مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وتقارب إيراني مع الأتراك، جميع هذه التجاذبات والتناقضات أصبحت بحكم الظروف أمراً واقعاً، تتفاعل الدول جميعاً على الاستفادة منها وإقامة تحالفاتها الاستراتيجية في مواجهة التهديدات التي تواجهها، إلا إن ما يجعل الأمور أكثر خطورة هو عدم وجود قناة ذات مغزى بين إيران وإسرائيل، ولا توجد قناة رسمية بين إيران والسعودية، والدبلوماسية حقيقة ضئيلة تتجاوز الخطابة بين الكتل السنية المتنافسة.

مع تقاطع خطوط الصدع هذه بطرق معقدة، تنسجم التجمعات المختلفة أحيانًا مع بعضها البعض ضمن سياقات محددة، وتعود لتتنافس من جديد في أوقات أخرى.

ومن المفارقات التي شهدتها الأزمة السورية، عندما كان يتعلق الأمر بالسعي إلى الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، كانت السعودية والإمارات تدعمان الجهود التركية القطرية، وعندما وقع الاختلاف بين الأطراف نفذت تركيا وقطر عمليات التصفية بحق المجموعات التي كانت تدعمها السعودية والإمارات، مما يعكس وجهات نظرهم المتباينة حول الدور الصحيح للإسلام السياسي، ولكن تلك الدول اتخذت مواقف معاكسة بشأن مصر، حيث استثمرت الدوحة وأنقرة بكثافة لدعم الحكومة التي كانت تقودها جماعة الإخوان المسلمين، في الوقت الذي عملت فيها السعودية والإمارات على إسقاطها، وكان ذلك إسقاطاً للمشروع التركي القطري في أسلمة الأنظمة العربية لصالح مشروع تمدد السلطنة العثمانية الجديدة. وقد نجحت السعودية والإمارات في إسقاط المشروع الإخواني بمصر، بينما تخشى تركيا وقطر التهديدات السعودية أكثر من الإسرائيلية، وتدعمان حركة حماس التي تعطي الذريعة الدائمة للإسرائيلين في شن العمليات ضد الفلسطينين، وتمثل حركة حماس وأخواتها في مقاطعة غزة خطاً للمصالح التركية القطرية الإيرانية، ومساهماً في زعزعة الأمن الفلسطيني، وتلعب دوراً سلبياً لصالح الأجندات غير فلسطينية، في الوقت الذي تلعب فيها حركة حماس على حبلين في آنٍ واحد مع الأتراك والإيرانيين.
تتفق حركة حماس مع النظام السوري في خيار ما تسمى بالمقاومة، بينما تدعم الجهود التركية في دعم الجماعات المتطرفة " الداعش والقاعدة " وحركة إخوان المسلمين.

المادة القادمة من كتاب " مسارات الازمة السورية "
" البوابة السورية "

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!