الجيوستراتيجي/ قسم التحليل
قبل أيام قليلة أعلنت وزارة التجارة التركية تجميد كافة علاقاتها التجارية مع دولة إسرائيل، نظرًا لـ”تفاقم المأساة الإنسانية” في الأراضي الفلسطينية، مؤكدة عزمها على عدم التراجع عن هذا القرار إلا بعد ضمان تدفق غير منقطع وكافٍ للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
ولفهم هذا التطور لا بد لنا البحث العميق في العلاقات التركية الإسرائيلية ومدى تأثيرها بهذا القرار، وهل سوف يشمل هذه القطيعة (المؤقتة) الجوانب الأخرى كالإتفاقيات العسكرية والأمنية؟ إلى جانب معرفة التبادل التجاري والتعاون العسكري والعمل المشترك في الجوانب الأمنية.
تكوين العلاقات والدوافع الجيوسياسية
العلاقات التركية - الإسرائيلية ليست بمعقدة كما قد يُفهم، وذلك لعلنيتها على المستوى السياسي والإقتصادي، وإن أتسمت بنوع من السرية في بعض مفاصلها الإستخباراتية والعسكرية إلا أن طبيعة إرتباطها بالتوافقات وتبادل المصالح المشتركة أنتجت الروابط والإتصالات المنفعية، لا سيما وإن النزوح التركي نحو العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وعموم القوى الغربية أدخلها في تقاربات عميقة مع إسرائيل، كجزء من التطمين الذي قدمه الأتراك لحلفاء إسرائيل " القوى الغربية "، إلى جانب وظيفة تركيا في حماية حدود حلف الشمال الأطلسي منذ إنضمامها عام 1952.
إستراتيجية العلاقات المنفعية والخطابات التصعيدية
لم تطرأ على الموقف التركي أية تغييرات تذكر خلال العقود السبعة الماضية حيال السياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، بل كانت التوافقات سيد الموقف مع القضايا المفصلية، لا سيما وإن التواجد التركي داخل حلف الشمال الأطلسي قيد تماماً من إتخاده أية سياسات معادية لإسرائيل.
ومع وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في تركيا تغير الخطاب التركي حيال القضية الفلسطينية، بل تحولت قضية نصرة القدس ودعم المجموعات الإسلامية الفلسطينية على قائمة الإعلام التركي، حيث شهدت التصريحات بين الطرفين " التركي- الإسرائيلي " نبرة تصعيد وصدام إعلامي، إلا أن ذلك لم يتجاوز الإعلام، لآن توطيد العلاقات وزيادة في العلاقات التجارية والعسكرية زادت وطأتها أكثر من السابق، بل تحولت تركيا إلى وجهة إقتصادية وسياحية إسرائيلية.
بالإضافة إلى سياسة النأي عن التدخل في الأزمة العربية الإسرائيلية عقدت تركيا وإسرائيل إتفاقية التجارة الحرة عام 1997. وفي نطاقها، تم إعفاء تجارة المنتجات الصناعية بين الطرفين من الرسوم الجمركية منذ 1 يناير عام 2000. حيث نصت الإتفاقية أيضاً على تقديم الطرفين لبعضهما البعض تخفيضات وإعفاءات ضريبية للمنتجات الزراعية، في إطار الحصص التعريفية أو بدون قيود كمية.
وتوضح بيانات عائدة لجمعية المصدرين الأتراك أن تركيا صدرت إلى إسرائيل بين عامي 2011 و2020 الحديد الصلب ومنتجات صناعة السيارات والمواد الكيميائية والملابس الجاهزة والكهرباء والإلكترونيات إلى جانب منتجات عديدة كالأسمنت والزجاج والسيراميك ومنتجات التربة والأثاث والورق، بالاضافة إلى الحبوب والبقول والبذور والزيتية وجميع منتجاتها، والمواد الخامة والمعادن الحديدية والمنسوجات. ولم يتقصر ذلك فقط وإنما أستوردت عدد كبير من السيارات وبكافة أنواعها والنفط الخام بكافة منتوجاتها. ومن ناحية أخرى، احتلت أيضا المجوهرات التركية مكانة مهمة بين المنتجات التي صدرتها إلى إسرائيل.
الشركات التركية سوف تبحث عن أسواق جديدة بعد وقف تصدير منتجاتها إلى إسرائيل
الأرقام الكبيرة التي تستحوذ على حجم التجارة بين تركيا وإسرائيل ووفق تقارير رسمية إن حجم التبادل بلغ 9.5 سنوياً. وفي الحين كانت الدولة التركية تقود حملات إعلامية ضد إسرائيل يؤكد حقيقة التنافضات في السياسات التركية في التعاطي مع إسرائيل، ويكشف لنا حقيقة واحدة لا غير، وهو إن تركيا في عهدة رئيسها الحالي " رجب طيب أردوغان " أستخدم لغة إعلامية متصاعدة وعملية توسع في العلاقات، وهي إستراتيجية جديرة ومجدية في إقناع الشارع التركي والشارئح المتأثير بالخطاب الإسلام السياسي داخل المجتمع العربي، مقابل تسيير السياسات المنفعية مع إسرائيل.
التعاون العسكري بين الطرفين بعد إتفاقية التعاون الدفاعي 1996
يعود تاريخ التبادل الإستخباراتي الإسرائيلي - التركي إلى ستينيات القرن العشرين، ثم تطورت إلى مستويات أعلى في عام 1994 بعد توقيع البلدين اتفاقية التعاون الأمني، ليتطور بعد ذلك رسميًا بعد توقيع اتفاقيتين للتعاون الدفاعي في فبراير وأغسطس 1996. وعلى الرغم من أن محتويات هاتين الاتفاقيتين لا تزال سرية، فمن المعتقد أنهما تشملان بروتوكولات تتعلق بتبادل الضباط، وزيارات الوفود العسكرية، والمكالمات البحرية في الموانئ، الوصول إلى مناطق التدريب، والتدريب الجوي والبحري المشترك، والتعاون في مجالات مكافحة الإرهاب وأمن الحدود، والتعاون الصناعي الدفاعي. بالإضافة إلى ذلك، يُعتقد أن إسرائيل وتركيا عززتا العلاقات الاستخباراتية طويلة الأمد.
التعاون الصناعي الدفاعي: وقع الطرفين عدة عقود، مكنت إسرائيل من توريد الأسلحة والتكنولوجيا إلى تركيا، وشملت هذه العقود صفقات كبيرة بلغت مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية، حيث شملت تحديث الطائرات الحربية التركية إلى جانب تزويدها لطائرات F-4E Phantom وعدد آخر من طراز Popeye 1، وصواريخ أرض، واتفاقية إنتاج مشترك لمئات من صواريخ جو-أرض من طراز بوباي 2. وبحسب ما ورد أبدت تركيا أيضًا اهتمامًا بالحصول على مساعدة إسرائيلية في تحديث أسطولها القديم من الطائرات المقاتلة من طراز F-5 ودبابات M60، وفي الإنتاج المشترك لطائرات استطلاع إسرائيلية بدون طيار، وطائرات فالكون للتحذير المحمولة جواً، ونظام آرو المضاد للصواريخ، ودبابات ميركافا. وأيضاً شملت صفقات الطائرت الهليكوبتر الهجومية والنقل والآليات البحرية. ويمكن القول إن إسرائيل ساهمت في تطوير الدفاعيات والهجوميات التركية من خلال صفقات كبيرة بين الطرفين.
ووفق المصادر الإعلامية الإسرائيلية إن تركيا في عهد رئيسها الحالي " أردوغان " عقد صفقات بمليارات الدولارات في مجال التسليح بين الطرفين.
التدريب والتمارين: ونصت الإتفاقية آنذاك تبادل تدريب القوات الجوية على تدريب الطائرات الإسرائيلية في تركيا أربع مرات في السنة. حيث دربت إسرائيل طياريها على التحليق بطائرات طراز F-16 في مهمات بعيدة المدى فوق المناطق الجبلية، ويعتقد إنها شاركت في الحرب التركية الجوية على معاقل حزب العمال الكردستاني خلال فترة التدريبات التركية الإسرائيلية المشتركة.كما أجرت إسرائيل وتركيا وبالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية عدة مناورات بحث وإنقاذ بحرية مشتركة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
الاستخبارات والأمن: لقد تبادلت إسرائيل وتركيا المعلومات الاستخبارية حول مسائل مختلفة منذ عدة سنوات، ويقال إن هذا التعاون قد تم توسيعه. وقد التقى مسؤولون إسرائيليون وأتراك مؤخراً لتبادل التقييمات المتعلقة بالإرهاب والقدرات العسكرية لسوريا والعراق وإيران. علاوة على ذلك. وتشير التقارير الإعلامية إلى قيام إسرائيل في نهاية التسعينيات بمساعدة تركيا على تأمين حدودها ضد حزب العمال الكردستاني الذين يعملون من قواعد في سوريا والعراق وإيران، بالاعتماد على تجربتها الخاصة في تأمين حدودها ضد الإرهابيين في جنوب لبنان.
الأسلحة التركية إلى إسرائيل: في خطوة أظهرت حجم مبيعات الاسلحة التركية إلى إسرائيل خلال الشهور الثلاثة الماضية من العام الجاري 2024، رفعت هيئة الإحصاء التركية الستار عن البيانات الرسمية التي تكشف إستمرار الدولة التركية في بيع الأسلحة والذخائر والبارود ومتطلبات الحرب إلى إسرائيل، وبلغت هذه المبيعات ملايين الدولارات ، حيث شملت أنواع من الأسلحة والذخائر والبارود والمواد المتفجرة إلى جانب صادرات الكيميائية التي تضمن الديزل الحيوي ومواد إطفال الحريق والمطهرات ومبيدات الحشرات.
وبذات الوقت كانت التصريحات الرسمية التركية تندد بالحرب الدائرة في غزة، وتتهم إسرائيل بإستخدام العنف والقتل للسيطرة على قطاع غزة، ليظهر بذلك النظام التركي طبيعة تعاطيه مع الحرب في غزة، حيث تندد إعلامياً وتستمر في بيع الأسلحة لإسرائيل.
في تقرير نشرته معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) بتاريخ 13 أذار/مارس 2019، الاثنين، أن صادرات الأسلحة التركية إلى إسرائيل تجاوزت بنسبة 35.4% من مجموع الإنتاج التركي في الفترة بين 2009-2018.
النفاق التركي الإسرائيلي
خلال السنوات القليلة الماضية ظهر المسؤولين الإسرائيلين والأتراك لتبادل الإتهامات على الإعلام، كلاً وفق معيار خاص لإحراج الآخر، حيث تذرع النظام التركي بأسطوانة إتهام الإسرائيليين بإرتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين، بينما الردود الإسرائيلية كانت تتمحور حول التنديد بالتدخل العسكري التركي في شمال سوريا ومحاربة الكرد. إلا أن حجم التبادل العسكري والإتفاقيات الأمنية المبرمة كشفت زيف الحرب الإعلامية بين الطرفين.
وفي الوقت الذي نددت إسرائيل بالإجتياح التركي للمناطق الكردية في شمال سوريا، كانت تساعد في تطوير الأسلحة التركية التي نفذت فيها الحرب على كرد سوريا. ووفق صحيفة يدعوت أحرنوت إن دبابات M60-A1 التي طورتها إسرائيل استخدمها الجيش التركي في عمليته العسكرية ضد الكرد في شمال شرقي سوريا ( عملية إحتلال رأس العين وتل ابيض ). وأضافت إن هذه الدبابات وهي أميركية الصنع ومطورة إسرائيليا.
كما أتهمت الأوساط الكردية المخابرات الإسرائيلية في التعاون مع تركيا في عملية أسر الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في كينيا، وأظهرت تقارير كثيرة تشير إلى ضلوع الطرفين في التنسيق الإستخبارية لمحاربة حزب العمال الكردستاني والحركة السياسية الفلسطينية.
التعاون التركي الإسرائيلي الأذربيجاني
لتمكين قوة أذربيجان توجهت تركيا إلى إسرائيل لتنسيق الهجوم الذي وقع لإستعادة منطقة كهرباغ، حيث شكلت أنقرة تحالفًا ثلاثيًا مع إسرائيل وأذربيجان، وهو التحالف الذي أثبت نفسه بالفعل خلال الحرب التي استمرت 44 يومًا في خريف 2020، والتي قُتل فيها أكثر من 6000 شخص. وقبل أسابيع، طلبت الحكومة في باكو من إسرائيل زيادة إمدادات الطائرات بدون طيار وقذائف المدفعية وقاذفات الصواريخ والمعدات الاستخباراتية مثل أجهزة التنصت والتكنولوجيا السيبرانية.
وفق تقارير، إن التعاون الدفاعي بين الطرفين في ارتفاع. على سبيل المثال، إستمرار تدرب الطيارون المقاتلون الإسرائيليون في المجال الجوي التركي مقابل قيام الفنيون الإسرائيليون بتحديث الطائرات المقاتلة التركية.وفي يوليو/تموز 2020، زار وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أذربيجان حيث أطلعه نظيره ذاكر حسنوف وقيادة الجيش على خطط الهجوم. وبعد الاجتماع، طارت طائرات الشحن الأذربيجانية أكثر من عشر مرات إلى مطار عوفدا الإسرائيلي بالقرب من إيلات، والذي تديره القوات الجوية الإسرائيلية ولكنه مناسب أيضًا للطيران المدني، وقامت بتحميل المعدات المطلوبة. وفي المقابل، تتلقى إسرائيل النفط من أذربيجان - ويُسمح لها باستخدام البلاد كقاعدة للاستخبارات والعمليات عبر الحدود ضد إيران.
إستغلال أردوغان للتحولات الجديدة
التقاربات الجديدة مع روسيا أفقد الأتراك الكثير من الإمتيازات التي كانت تحصل عليها من القوى الغربية، وإن كان النظام التركي لا يزال يحظى بالإهتمام والدعم بسبب ما تشكله روسيا من تهديدات حقيقية على أمن أوروبا والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، إلا أن الأطماع الشخصية لأردوغان في توسيع أمبراطوريته على حساب علاقاته مع الغرب يشكل هاجساً حقيقياً لدى حلقائه في ناتو، لاسيما التقلبات المستمرة للرئيس التركي. لذا فإن دخول تركيا على خط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يهدف إلى محاولات النظام التركي لعب دور بارز في إيجاد صيغة توافق بين إسرائيل وحركة حماس، وهو ما يساعدها أيضاً على إقناع القوى الغربية لإستعادة الثقة به، لا سيما وإن نظامه يعاني أزمة كبيرة داخل تركيا بعد السقوط المدوي في الانتخابات البلدية، وما تنذره الأحداث من تهديد حقيقي على مستقبل أردوغان وحزبه في سدة الحكم.
لجوء أردوغان إلى إستعادة شعبيته داخل تركيا هو الدافع الأساسي لإتخاذ مواقف متشددة ضد إسرائيل
لذا يحاول الرئيس التركي توجيه دفة الحلول بين الأسرائيلين وحماس والأستيلاء على ملف إدارة الأزمة كمشغل جديد يقود حركة حماس بعد قطر التي شُكك بدورها في عملية السلام، وقد يكون التصريحات الجديدة والإعلان عن تجميد العلاقات الإقتصادية مع إسرائيل جزء من ممارسة الضغوطات عليها للقبول بالدور التركي.
المحصلة
حجم العلاقات التركية - الإسرائيلية أعمق من تعرضها لهزات كبيرة خلال الفترة الحالية، لاسيما وإن التراجع في الجوانب الإقتصادية والتجارية لا تعني بالضرورة التأثير على العلاقات الإستخباراتية والعسكرية. فالإبتعاد التركي عن المسار الغربي يشكل معضلة أكبر لنظام أردوغان الذي يعاني ردائة حقيقية في العلاقات الدولية والإقليمية وفشل ذريع في السياسات الداخلية على المستويين الإقتصادي والأمني. لذا محاولات نظام أردوغان في إعادة ثقة المجتمع التركي تكمن في رفع مستوى الخطاب ضد إسرائيل، وهي إستراتيجية ناجحة أستطاعت معظم الأنظمة في الشرق الأوسط توظيفها لإستباب الداخلي.