مانفيستو الحضارة الديمقراطية: العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (4)

آدمن الموقع
0


ثالثاً: إذن، فالبحثُ في الإنسان كنوعٍ حقَّقَ وجودَه في مجتمعٍ خاصٍّ به يُعدُّ أسلوباً مهماً وثميناً بالنسبة إلى البحث عن الحقيقة ونَسَقها.
انفصالُ الإنسان عن "فصيلةِ الثدييات البدائية" السابقةِ له، وأطوارُ التطور النوعي ليس أمراً هاماً بالنسبة لموضوعنا. فنحن لا نبحث في الأنثروبولوجيا.
لا ريب أننا كثيراً ما نصادف أمثلةَ العيش المشترك على شكلِ جماعاتٍ أو تجمعات، ليس في عالمِ الحيوان فحسب، بل وفي عالمِ النبات أيضاً. وبطبيعةِ الحال، فكلُّ نوعٍ مضطرٌ للعيش على شكلِ تجمعاتٍ متقاربة ومشتركة. فلا أشجارَ بلا غابة، ولا أسماكَ بلا سرب. ولكنّ تجمعَ الإنسان متمايزٌ بالماهية والنوعية. ولربما كان المجتمعُ إنساناً أعلى، أو أنه الجهازُ المنظِّمُ الذي خَلقَ وسيخلق الإنسانَ الأعلى. فلو أخذنا بإنسانٍ ما من المجتمع ورميناه في وسطِ غابة (بعد ولادته مباشرة، وبعد تأمينِ الحَصانة والحماية له)، فلن ينجو من التحول إلى كائنٍ ثديي بدائي. وإذا ما وضعنا بجانبه عدةَ أناسٍ أُخَر يشبهونه في الحالة، فستكون المرحلةُ المبتدئة أَشبَهُ كثيراً بالمرحلة الانتقالية الحاصلة لدى الثدييات البدائية. ولكنّ الأمرَ لا يسري على عالَمِ الحيوانات. هذا الوضعُ لوحده يدل بشكلٍ صارخ على القيمة المتمايزة للمجتمع الإنساني، وينير بشكلٍ فريدٍ دورَ الإنسان في بناءِ المجتمع، ودورَ المجتمع في إنشاءِ الإنسان.
لا ريب في أنه لا مجتمعٌ دون إنسان. ولكنّ الضلالَ الأكبر يكمن في اعتبار المجتمع مجردَ تجمعٍ من الأناس. فالإنسانُ بلا مجتمع ليس سوى كائنٌ ثديي بدائي. في حين أنّ الإنسانَ المجتمعي قادرٌ على التحول إلى قوةٍ مذهلة، وبلوغِ قدرةٍ فكرية عظمى. ولربما كان قرارٌ من الإنسان سبباً في تحويلِ العالم كله إلى صحراءَ قاحلة (كالإقرار بتفجيرِ القنابل النووية). هذا الإنسانُ قادرٌ على القيام برحلةٍ إلى الفضاء، وباكتشافاتٍ واختراعاتٍ لا محدودة. إننا نسرد هذه الأمثلة لإيضاحِ قوةِ المجتمعية وقدراتها. ومع أن التكوين الاجتماعيَّ من شؤونِ علمِ الاجتماع، إلا أنّ الموضوعَ الذي نقوم بتحليله مختلفٌ كلَّ الاختلاف. فبلوغُ المعرفة وبناءُ نَسَق الحقيقة يمران فقط وفقط من المجتمع. وكلُّ ما يتحقق في الفرد الإنسان لا بد وأن يكون مجتمعياً. لا نقصد هنا الإنسانَ الوارث وسليل الحيوانات والنباتات، ولا حتى المتبقي من الكون الفيزيائي أو الكيميائي. بل نتحدث عن الإنسان الناشئ ضمن المجتمع.
لقد قامت كلُّ نظمِ المدنيات، بما فيها الحداثةُ الرأسمالية، بالبحث والتدقيق في الإنسان منفصلاً عن التاريخ والمجتمع. أو بالأحرى، نظرَت إلى كلِّ الأفكار والبنى العائدة للإنسان بعينٍ منفصلة عن التاريخ والمجتمع، بل وطرحتها كإنجازٍ للأفراد المتعالين على المجتمع. ومنها ابتُدِعَت فكرةُ الملوك المتسترين والعراة، والآلهة المقَنَّعة وغير المقَنَّعة. أنوه إلى أننا عندما نتغلغل في مفهومنا واصطلاحنا بصدد المجتمع، سنتمكن من تحليل كل أولئك الملوك والآلهة، مثلما سنستطيع توضيح المنبع الأصلي لتلك الأفكار، وماهياتها، وبناها الاجتماعية الناشئة فيها، وبالأخص النظم الاجتماعية المولِّدة للقمع والاستغلال والاضطهاد.
إنّ طرحَ العلاقة بين الإنسان والمجتمع بأفضلِ الأشكال وأصلحها تُعَدُّ المسألةَ الأولية في الأسلوب. فكلٌّ من بيكون وديكارت المدَّعيان أنهما علميان للغاية، قد تناولا مسائلَ الأسلوب ومشاكله وكأنهما لا علمَ ولا روابطَ لهما بالمجتمع الذي يربيان ويتحركان ضمنه. في حين أننا نعلم اليوم عِلمَ اليقين أنّ المجتمع الذي تأثرا به ليس سوى ذاك المجتمعُ الذي أنشأ الرأسماليةَ كنظامٍ عالمي، أي، مجتمعَ البَلَدَين اللذين نسميهما اليوم إنكلترا وهولندا. بالتالي، فالأساليب التي اتبعوها وكوَّنوها ليست سوى أفكارٌ ذاتُ علاقةٍ وثيقة بالمجتمع الذي يُشهِر البابَ على مصراعيه أمام الرأسمالية.
إذن، ما الذي يمكننا مشاهدته لو شرعنا بالبحث في المجتمع الإنساني كصنفٍ أولي؟
أ‌- المجتمعُ تكوينٌ يميز الإنسان عن الحيوان نوعياً. وقد أوضحنا هذه الخاصية كفاية.
ب- مثلما يتكون المجتمع من الأناس الأشخاص، فهو أيضاً ينشئ ويكوِّن الأناسَ الأفراد. النقطة الهامة الواجب استيعابها هنا هي أنّ تَكَوُّن المجتمع أو التجمعات البشرية يتم على يدِ الإنسان بمهاراته وقدراته. أي أنّ المجتمعات ليست بتكويناتٍ أعلى من الإنسان. بل واضحٌ جلياً أنها تُمثل تصوراتِ الإنسان لأنها تؤثر بعمق في ذاكرته ومخيلته، حتى لو انعكس ذلك على نحوِ هوياتٍ مختلفة، بدءاً من الطوطم إلى الإله. ولولا الإنسان، لما كان ثمة مجتمعٌ تُحقِّق فيه الطواطم أو الآلهة ديمومتها.
ج- تتواجد المجتمعاتُ ضمن حدودٍ تاريخية ومكانية معينة. بمعنى آخر، ثمة أزمنةٌ وشروطٌ جغرافية معينة تنشأ ضمنها المجتمعات. فما من مجتمعٍ منفصلٍ عن التاريخ أو المكان الجغرافي. أما القول بيوتوبيا المجتمع الأبدي الموجود في كلِّ الظروف، فليس سوى وَهْمٌ لا أصل له.
موضوعُ التاريخ عموماً تعبيرٌ عن تبعيةِ الكائنات الحية على نحوٍ عام، والإنسانِ على نحوٍ خاص لأزمنةٍ معينة. فوجودُ الفصول الأربعة أساساً، والتتابعاتُ الزمنية العديدة بفتراتٍ معينة شرطٌ اضطراري لِتَكَوُّنِ هذا النوع من الموجودات. علاوة على ذلك، ما من موجودٍ لا فترةَ زمنية معينة له. وكلنا نعلم أن اصطلاح "الأبد – الأزل" معنيٌ فقط وفقط بحقيقة "التغير". أي أنّ الشيءَ الوحيد الذي لا يتغير، ولا زمانَ له، هو التغير ذاته. في حين أنّ الروابطَ بين التاريخ والمجتمع أكثرُ وثاقة وأكثرُ قِصَراً زمنياً. فبينما نتحدث عن ملياراتِ السنين فيما يتعلق بعمرِ الكون، نجد أنه لا يمكن إطلاقُ اصطلاحِ "المجتمعِ الطويلِ الأمد" إلا إذا تجاوز عمره آلاف السنين فحسب. أما الفتراتُ الزمنية الشائعة فهي من قبيل اليوم، الشهر، السنة، والقرن. ومكانُ المجتمعات على علاقةٍ وثيقة بالوجود النباتي والحيواني أساساً. في حين يُعتبر وجودُ المجتمعات في القطبين المتجمدين أو في المناطق الاستوائية أمراً استثنائياً. أما المكانُ الأوفر والأغنى بنباتاته وحيواناته، فيشكل الأرضيةَ الخصبة لنشوء المجتمعات المعطاءة والمثمرة.
تعمل الكثير من المدارس الفكرية والبنى الدينية المتكونة ضمن أحشاءِ الهرمية والتقاليد الدولتية على نقشِ وتوطيد فكرةِ النظام المبتور من المكان والتاريخ الاجتماعي في ذهن الإنسان، وكأنه قدرٌ محتوم. فمثلما يُزعَم أنّ بعض الشخصيات البطولية قد صَنعت التاريخ، هكذا يقوم بعضُ المفكرين والواعظين الدينيين بالحديث الدائم عن تأسيسهم للأنظمة الفكرية والدينية المنقطعة عن المجتمع التاريخي. ورغم إيلاء الرأسمالية مكاناً فسيحاً للعلم، لكنها – فيما يتعلق بالمجتمع على وجه التخصيص – تُبدي عنايةً كبرى للفكر المبني على الفرد، في حين أنّ تساؤلاتٍ من قبيل "أيُّ تكوينٍ مجتمعي أدى إلى أيِّ نظامٍ ديني أو فلسفي أو فكري؟" تبقى في الظلام على الدوام. لقد بُرهِن كفايةً على أنّ زمانَ ومكانَ المجتمع يُكَوِّنان الفرد، مثلما الأفراد أيضاً ينشئون ويَخُطُّون مسار مستقبلهم، وخاصةً بالصيغ والأشكال التي تَلَقَّوها من المجتمع. إذن، فالأبعادُ التاريخية والمكانية تأتي في صدارةِ الظروف اللازمة في معالجةِ قضايا الأسلوب وإدراكِ الحقيقة.
د- ثمة أمر هام آخر، وهو أن الوقائع الاجتماعية مصنوعة. والضلال الذي طالما يهوي فيه الأناس بكثرة هو النظر إلى المؤسسات والبنى الاجتماعية كواقعٍ طبيعي. وبالتالي، تُقدِّم النظمُ المشروعة الحاكمةُ على المنظومات الاجتماعية نفسَها على أنها المقدسة والثابتة دوماً، وتَعِظُ بمنهجيةٍ مدروسة أنها صاحبةُ المؤسسات والكيانات الإلهية، وأنه تم تكليفها وتعيينها لهذه الغاية. وفي الحداثة الرأسمالية تعمل هذه النظم على حقن العقول في المجتمع بأنّ الكلمةَ الفصل قد قيلت، وأنه لا بديل للمؤسسات الليبرالية، وأنه قد حلَّت "نهاية التاريخ". كما تتطرق بتواصلٍ مستمر إلى الدساتير والنظم السياسية الثابتة المحالة التغيير. مع أنه، وبنظرةٍ خاطفة لمسيرةِ التاريخ سنجد أنّ عُمرَ هذه البنى الوطيدةِ المحالة التغيير لم يُكمِل المائةَ عامٍ في أيِّ زمن. المهم هنا هو المقولات الأيديولوجية والسياسية المذكورة يومياً بغايةِ تقييد فكر الإنسان وربط إرادته بها. فبؤر السلطة والاستغلال بحاجةٍ ماسة وحياتية لهذه البلاغات الأيديولوجية والسياسية. حيث، وبدون اللجوء إلى البلاغات الأيديولوجية والسياسية الرصينة، سيكون من العسير عليها إدارة المجتمعات الراهنة. ولهذا الغرض طَوَّرَت من الوسائل والأجهزة الإعلامية على نطاقٍ واسع متنوع، إضافةً إلى إلحاق المؤسسات العلمية والفكرية ببؤر السلطة والاستغلال بشكل ساحق.
بقدر ما نعي وندرك أنّ الحقائقَ الاجتماعية حقائقٌ منشأةٌ تكراراً ومراراً، سنحكم حينها على نحوٍ أفضل وبمعيارٍ أصلح بضرورة هدمها وإعادة بنائها. إذ، ما من وقائع اجتماعية محالةُ الهدمِ أو التغيير. ونخص بالذكر هدم وتخطي المؤسسات القمعية والاستغلالية والتغلب عليها كضرورةٍ حتمية لأجل الحياة الحرة. وما نقصده بالحقيقة الاجتماعية هي جميع المؤسسات الأيديولوجية والمادية في المجتمع. ففي كافة الميادين الاجتماعية تتأسس الحقائق الاجتماعية على الدوام في الظروف الزمكانية المناسبة، وتُهدَم، أو ترَمَّم ومن ثم يعاد إنشاؤها؛ بدءاً من اللغة إلى الدين، ومن الميثولوجيا إلى العلم، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الحقوق إلى الفن، ومن الأخلاق إلى الفلسفة.
هـ- من الأهمية بمكان عدم النظر المجرَّد إلى العلاقة بين المجتمع والفرد. فالأفراد هم الناشئون عبر التاريخ بتقاليد وأعرافٍ معينة، ولهم لغاتهم، ويشاركون في البنى والمؤسسات الموجودة في كافة الميادين الاجتماعية التي ذكرناها. إنهم ينضمون للمؤسسات الاجتماعية المُعَدَّة سلفاً وقديماً في المجتمع بعنايةٍ قصوى، ويشاركون فيها بما تُمليه عليهم أعرافها وتقاليدها، وليس كما يرغبون. كما أنَّ مجتمعية الفرد تستلزم جهوداً تربوية وتعليمية عظمى. وبمعنى ما، فالفرد لا يصبح عضواً منتمياً للمجتمع إلا بعد أن يهضم ويتبنى الثقافة التي تشكل ماضيَ المجتمع برمته. المجتمعيةُ تتحقق بجهودٍ حثيثةٍ متواصلة. وكلُّ عملية اجتماعية هي في نفس الوقت عملية مجتمعية. لذلك، فالأفراد لا ينشأون كما يشاءون، بل لا يمكنهم الخلاص من النشوء والترعرع وفق مشيئة مجتمعاتهم. لكن، لا شك في نزوعِ الفرد للمقاومة والتطلع للحرية على الدوام في المجتمعات الطبقية والهرمية خصيصاً كونها مجتمعات منفتحة على القمع والاضطهاد والاستغلال. فالفرد لن يقبل طوعاً بالمجتمعية المنشِئة للعبودية والخنوع. كما أنه سيبدي مقاومةً وصموداً أعظم حيال المجتمعات الغريبة والمختلفة عنه والمستغلة له، كي لا يلتحم معها ولا ينصهر في بوتقتها. مع ذلك، فستستمر المساعي والمحاولات لتغييره داخل عجلاتِ المؤسسات القمعية والتعليمية لتلك المجتمعات، بل وحتى للقضاء عليه وإفنائه. فالعجلاتُ الاجتماعية تدور دوماً كالطاحونة، لتشكل طحيناً ومِن ثَم خميرةً قابلةً للتكوين بموجبها هي. كلُّ طَرفٍ يسعى على الدوام لاحتلال مكانٍ له داخل المجتمع اعتماداً على توازنات التوافق، سواءً المؤسسات المتناقضة والمتنازعة فيما بينها، أو الإنسان المقاوِم تجاهها. فلا المجتمعُ لديه القدرةُ المطلقة على الصهر، ولا الفردُ لديه الفرصة للانقطاع الكلي عن المجتمع.
باختصار، فالعملُ على مثال الإنسان الذي يأخذ المجتمعَ أساساً بأسلوبٍ ومقاربة أقربَ إلى الصواب، وبموجب أنساق الحقيقة؛ قد يؤدي بنا إلى نتائجَ قيِّمةٍ.
رابعاً: إنّ المرونة التي يتميز بها ذهنُ الإنسان هي الأرقى في مستواها، مما يؤثر بالأغلب في زيادةِ حظنا لتكون بحوثنا ثمينةً وقيِّمة. فبدون إدراكِ ومعرفةِ طبيعةِ ذهنِ الإنسان، ستبقى طموحاتنا بصدد الأسلوب ونَسَق الحقيقة معلقةً في الهواء.
تطرَّقْنا بكثرة للبنيةِ الثنائية أثناء محاولتنا تعريفَ عقلِ الإنسان. فبنيته الفكرية تتميز بمرونةٍ بالغة لأنها تتكون من القسم القديم في الدماغ (الفص الأيمن منه) الذي يُعنى بالفكر العاطفي، والذي هو أرقى وأكثرُ تطوراً نسبةً لمسيرةِ التطور التدريجي، ومِن القسم الجديد (الفص الأيسر من الدماغ) الأقربِ إلى الفكر التحليلي، والقابلِ للتطور الدائم. في حين أنَّ الفكرَ والعاطفة متساويان في المستوى على وجه التقريب لدى عالَم الحيوان. فالمشاعر والعواطف تتجاوب مع ما تعلَّمَته، أي تقوم بما هو مطلوب منها، من خلال الأفعال المنعكسة المشروطة وغير المشروطة؛ وهي ردودُ فعلٍ آنية. هذه البنى عينها موجودةٌ في الإنسان أيضاً، فالبدن – على سبيل المثال – يُبدي ردَّ فعلٍ تلقائي وآنيٍّ بمجردِ قُربه من نارٍ مُحرِقة، دون الحاجة للفكر التحليلي والتمهل. ولكن، إذا ما حاول تسلُّقَ قمةَ أفرست، فيشرع حينها بتحليلِ المئات من الظروف والشروط ليقرر بعد دراستها بإمعان فيما إذا سيتسلقها أم لا. لا يمكن البحث عن الخداع والضلال في الفكر العاطفي، حيث يتصرف الإنسان كيفما تكون ردودُ الفعل الفطرية (الغريزية). في حين أنَّ الفكر التحليلي قد يتطلب سنيناً طويلةً. ويجب أن يعتمد البحث عن الأسلوب والعمل والحقيقة على مثل هذه البنية الفكرية لدينا. لذا، لن تنجُوَ معلومة الحقيقة والأسلوب الصحيح من العشوائية، ما لم نطَّلِع على نظامِ عملِ عقلنا. إذن، والحال هذه، فمن الأولوية معرفة طبيعةِ العقل جيداً.
الخاصية الأولى لعقلنا هي تميزه ببنيةٍ مرنةٍ للغاية. وبالمستطاع القول أنه من النادر جداً وجودُ بنى ذهنيةٍ – من المتعارَف عليها في الكون – قادرةٍ على الاختيار والانتخاب الحر، فيما خلا عقل الإنسان. يمكننا تصوُّر ميدانِ الحرية على نحوِ فتراتٍ بينية جدِّ محدودة. فنحن لا ندرك كيفية جريان الاختيار الحر في الجُسَيمات ما تحت الذرية، ولا في بنى الكون الأكبر. لكن، وبالنظر إلى التنوع الموجود في الكون، يمكننا الاستنباط من خلال النتائج البارزة أن ذلك غير ممكن سوى بمهارة الحراك المرن والاصطفاء (الاختيار) الحر في عالم الجزيئيات والكون الأكبر على السواء. أما في ذهن الإنسان، فحَيِّزُ المرونة هذا قد اتسع كثيراً. فنحن نتمتع بحريةِ الحركة على نحوٍ لا محدود، وإنْ كان على مستوى الكمون بالأقل. وبالطبع، لا نغفلُ عن أنّ هذا الكمون لا يمكن أن يدخل حيز الفعالية إلا عبر المجتمعية.
الخاصية الثانية لعقلنا هي تَمَيزُه ببنيةٍ ذهنيةٍ مرنةٍ منفتحة لتَلَقِّي كَمٍّ كبيرٍ من الإدراكات الصحيحة، بقدرِ تَلَقِّي الخاطئة منها. وتأسيساً على هذه الميزة، بالإمكان تحريف وتوجيه هذه المرونة كيفما يُراد، وفي كل لحظة، من خلال الضغط وعبر شبكة العواطف والمشاعر. ولهذا السبب، يتم اللجوء إلى سياساتِ العصا والجَزَر الساعيةِ لاصطياد العواطف والإيقاع بها أساساً عبر آلياتِ القمع والتعذيب والقهر، إلى جانب الأساليب التضليلية والممارسات الخاطئة. ونخص بالذكر الأنظمةَ الهرمية والدولتية المؤثرة في عقلِ الإنسان وذهنيته اعتماداً على القمع المنتظَم الممارَس على مرِّ آلاف السنين، لدرجةِ أنها أنشأت بنيةً ذهنيةً منسجمة ومآربَها. ومن المزايا المألوفة والشائعة جداً اصطيادُ العقل عبر المكافآت. وبالمقابل، فإنّ بنيتنا الذهنية المتميزةَ بخاصياتها في المقاومة أيضاً، تَعرِض كفاءاتها وقدراتها الفريدة في سلوكِ السبل الصحيحة وبلوغِ الحقائق العظمى. وللذهنية المستقلة دورٌ معيِّن في اتسام الشخصيات العظيمة بهذه الصفات. فالاختيارُ الحر غيرُ ممكنٍ بالغالب إلا بتحَقُّقِ استقلاليةِ العقل. وثمة عُرى وثيقةٌ بين الإدراك الغني الشامل والتمتع بالاستقلالية. ما نقصده باستقلالِ العقل هنا قابليتَه للتحرك بموجب معايير العدالة بالأغلب.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!