كان إعلان إتفاقية السلام فى 11 آذار 1970 حدثاً
تاريخيا فريدا فى المنطقة و بشكل خاص فى الحياة السياسية للكورد الذين قاتلوا
ببسالة فى سبيل نيل حقوقهم القومية المشروعة. و تأتى أهمية إعلان الإتفاقية
فى أنها أقرتّ رسمياً بحقوق الكورد لأول مرة من قبل إحدى الدول الأربعة المحتلة
لوطنهم كوردستان, وهى العراق, إيران, تركيا و سوريا . و لن نحتاج الى
التأكيد فى هذا الصدد أن هذا الإقرار الرسمى لم يأتِ دون تضحيات , فقد جاء بعد
نضال مرير و كفاح صلب إستمر منذ إنطلاق أُولى شرارات ثورة أيلول الخالدة عام
1961. بلا شك أنّ هذا الإعتراف لحقوق الكورد فى الجزء الجنوبى من وطنهم
المحتلّ كان له ردود فعل متباينة لدى حكومات الدول المحتلة للأجزاء الأُخرى
لكوردستان. فى تركيا الكمالية, لم تستطع حكومتها إخفاء إمتعاضها لصدور
البيان, بل و تجاسرت لتطلب من الحكومة العراقية بأن تمدها بتفاصيل الإتفاقية التى
رأتها تهديدا لأمنها القومى و إقلاقاً للهدوء النسبى الذى شهده الجزء الشمالى من
كوردستان الذى تحتله تركيا منذ إنتكاسة ثورة الشيخ سعيد 1925. إلا أنّ
الحكومة العراقية رفضت الموقف السلبى لتركيا من الإتفاقية, وإعتبرت الإتفاقية
شأناً داخليا, وانّ على تركيا أن تحذو حذوها فى حلّ المشكلة الكوردية عندها.
و قبل ان نأتى الى ذكر ردّ فعل إيران الشاه للإتفاقية, لابدّ من ذكر أن العلاقات
السياسية بين بغداد و إيران عند صدور الإتفاقية كانت قد وصلت الى ذروتها فى
التدهور بسبب مطالبة إيران المستمرة لبغداد بعقد إتفاقية جديدة معها بشان تقسيم
مياه شط العرب بينهما. و قبل ذلك كانت إيران تدعم الثورة الكوردية فى الجزء
الجنوبى (العراقى) كانت الثورة بأمس الحاجة الى ذلك من أجل البقاء و مواصلة
المسيرة النضالية لتحقيق أهدافها القومية المشروعة. و لم يكن بالطبع ذلك
الدعم الإيرانى للثورة إيمانا منها بعدالة القضية الكوردية, بل كان هدفه بلا شك
تسليط المزيد من الضغوط على بغداد بقبول عقد إتفاقية جديدة معها حول مياه شط
العرب. كانت خارطة المشاكل بين الأطراف الثلاثة آنذاك, بغداد- كلالة- طهران
, متداخلة لكنها كانت واضحة. كانت بغداد ترى فى إعلان إتفاقية آذار نهاية
للإقتتال فى المنطقة الكوردية , و بالتالى نهاية للتدخل الإيرانى فى
المنطقة. و هذا يعنى أنّ إيران ستفقد إحدى أهم اوراقها فى ممارسة الضغط
عليها بشأن شط العرب و ذلك بدعمها للثورة الكوردية. وأما كلالة فقد دخلت
المفاوضات مع بغداد بروح اخوية بناءة لإنهاء القتال و إحلال سلام دائم فى المنطقة
الكوردية و البدء فى تعمير ما خربته العمليات العسكرية التى دامت قرابة عشر
سنوات. واما إيران, فلعل الشاه لم يكن يتوقع موافقة حكومة بغداد على مطاليب
الثوار الكورد جرياً على عادة كافة الحكومات العراقية السابقة التى سبق لها أن
دخلت فى مفاوضات عديدة مع الكورد و إنتهت الى إستئناف القتال ثانية. و
السؤال الجدير بطرحه هو, هل أبلغ الثوار الشاه الإيرانى بتوصلهم الى إتفاق نهائى
مع بغداد قبل إعلانه الرسمى فى صبيحة يوم 11 آذار , أم انهم أبلغوه بعد إتمام
الإتفاق بشكله النهائى ؟ لكن يمكننا القول بأنّ الشاه بدهاءه السياسى تظاهر
بتأييد الإتفاقية مع الإبقاء على علاقاته الجيدة التى كانت تربط نظامه بقادة
الثورة و إستمرار دعمه لهم. و كان من المتوقع بأن لا تقدم بغداد على أية
خطوة حمقاء من شأنها إثارة شكوك قادة الثورة حول نواياها الحقيقية لإبرام
الإتفاقية, و ان تمضى قدما فى تطبيق بنود الإتفاقية بروح وطنية و إرادة حقيقية
لحلّ المشكلة الكوردية بشكل دائم لتفويت الفرصة على التدخل الخارجى فى المنطقة و
بالأخص إيران بالنسبة الى بغداد على الأقل. إلا أنّ الأشهر القليلة التى أعقبت
صدور الإتفاقية أثبتت أنّ عقلية عصابات المافيا الإجرامية هى التى تتحكم فى بغداد,
وأنّ التحالف السرّى المبطن بين الثنائى (صدام حسين - ناظم كزار*) الذى كان وراء
جميع التصفيات الجسدية التى أطالت العديد من الشخصيات السياسية و العسكرية داخل
العراق و خارجه, كان ايضا وراء محاولة إغتيال نجل قائد الثورة , إدريس البارزانى
بعد دعوته الى بغداد للإحتفاء به بمناسبة صدور الإتفاقية. و قد إتّضح فيما
بعد أنّ الدعوة كانت موجهة أصلاً لوالده زعيم الثورة ملا مصطفى البارزانى. و لم
تمض أشهر قليلة حتى تعرض قائد الثورة نفسه الى محاولة إغتيال فى عقر داره فى
كلالة. لكن هذا التحالف المافوى الشرير نجح فى إغتيال عدد من شخصيات الثورة,
منهم على سبيل المثال لا الحصر وزير البلديات المهندس إحسان شيرزاد قرب ناحية
دارامان بكركوك, و لم يبق هنالك مجال للشك فى عدم مصداقية بغداد لتطبيق البنود كما
جاءت فى الإتفاقية. ولم يكن مستغربا عودة القتال الى المنطقة بعد أربع سنوات
من عدم الثقة و تبادل الإتهامات بين الطرفين, و كان الرابح الأكبر فى ذلك هو الشاه
الإيرانى الذى إستغل حماقة بغداد بالتدخل العسكرى المباشر فى دعم الثوار , و أسقطت
المدفعيّة الإيرانية طائرتين من نوع ميك للعراق قرب حدودها, و لم تستطع بغداد
الردّ سوى بتقديم الشكوى عند الأمم المتحدة. لكنها فى النهاية رضخت لمطاليب
الشاه, و وقعت معها إتفاقية الجزائر فى آذار عام 1975 لتسلّم إيران نصف شط
العرب و أجزاء أُخرى من الاراضى العراقية. إنّ حكاية مياه شطّ العرب
التى إنتقل نصف ملكيتها الى إيران عام 1975, ثمّ عاد الى العراق فى 1980 , ثمّ
إنتقل ثانية الى إيران عام 1988 و ما زال الى الآن, و ما ترتب على ذلك من حروب
أُخرى مثل إحتلال الكويت ثمّ تحريرها من قبضة العراق, ثمّ أخيرا و ليس آخرا سقوط
بغداد و زوال النظام البعثى, لا يمكن فصلها ابداً عن إتفاقية 11 آذار 1970 .
إنّ صفحات التاريخ ليست مجرد سرد أحداث و حكايات, إنما هى دروس و عبر.
كوردستان أورك: كه مال هه ولير
*رئيس جهاز الأمن العام فى العراق لغاية 1973