العقل المعرفي شرق أوسطي بمواجهة القمع

آدمن الموقع
0

يكتبها للجيوستراتيجي
الكاتب المعرفي ريبر هبون

إن استعراض المرء لملامح حياته بمنهجية وبأسلوب مركز هو جزء من المراجعة لظواهر المجتمع وأثرها على سلوكياته وتطواراته, وبلغة مسؤولة يستطيع أن يتعامل مع نواقصه بروح النقد ليبين أثر البيئة عليه , أثرها الكامن في اختياراته أيضاً , إن استعراضنا لملامح حالاتنا المسبقة هو بمثابة إيغال مباشر لما يعتري المجتمع برمته عبر نوافذنا الذاتية , فعلاقة الفرد والمجتمع علاقة إشكالية , تجسد ما سمي لاحقاً بالتاريخ الذي يختزل العادات والتقاليد ونظم الحكم, إن المجتمعات التي تم إهمالها وإقصاؤها بالتدريج , هي تلك المجتمعات  التي أهمل فيها الفرد المبدع وهمِّش وحُصر في بوتقة من الإهمال والصراع النفسي مع أقرانه من ضعاف العقول وبسطاء المدركات , حيث تم تغييب الفكر المعرفي كلياً عن جماعات آمنت بالتماثيل والسجود للشيوخ والأولياء والقادة العسكريين , والشخصيات الأبوية , وهذا ما تجسد في ملامح المجتمع الشرق أوسطي , كون هذا المجتمع عانى الكثير من سيطرة الفكر الغيبي المتخذ من الدين ببعده الطائفي , والقومية ببعدها الإقصائي الشوفيني وسيلتي بطش وتغييب وتحكم , حيث تم إخصاء الحياة الديمقراطية داخل أذهان شرائحها, واستبدلت بذهنية الخضوع والتبعية المستدامة
لكن العقل الذي يعبر عن نفسه كوعاء لحفظ ما قيل على طريقة التفكير الايديولوجية الشمولية, لا يمكنه استنباط حياة ورؤى جديدة , تساعده في إعداد جيل جديد , على نحو انتفاضة معرفية, حيث ينتج العقل الايديولوجي الشمولي أحقاداً , وتهويمات , ولا يستطيع تربية الأفراد الجدد على منهج النقد وتقويم السلوكيات , فاستشراء النفعية السائدة في أوساط مجتمعات تعاني من غرق سفينتها وتوهان دفة حياتها إثر فساد ساستها , هي من جعلت مساحات أرضها وكامل مواردها , إرثاً خالداً لما يسمى بالاستعمار الخارجي , حيث من الطبيعي أن يتم ملء الفراغ داخل مجتمعات تفتقد لأسلوب ومنهجية الفكر الناقد , وبالتالي ترسخت فيها روح الولاء للقادة (المنقذين)
يتحول القادة المنقذون إلى خالدين , ويتحول أبناءهم فيما بعد لمالكين ومتسلطين تحميمهم شرذمة مهمة من الفاسدين بواسطة رجال الدين , ونعود للمشكلة الأساس , وهو بقاء الدين كوسيلة لتجهيل المجتمع والإبقاء على الاستبداد ودوام الفساد , ناهيك أن الدين بات في العالم الغني (أوروبا) رمزاً اجتماعياً , وحالة رمزية مانعة لتدخل رجال الدين بحياة المجتمع للحيلولة دون انتاج القمع
ان البحث وراء كيفية انتاج ذوي العقول عملية مضنية تقتضي التأثير المعرفي المنسق بين عديد المعرفيين الذين يريدون محاربة التجهيل وهي بالتالي جملة من مبادرات وأعمال مختلفة تصب نحو مصب واحد وهو التأكيد على معالجة ما تم إهماله والتعاطي مع الإشكالات بمنهجية وروح تنسيق , بين كل الباحثين عن المعنى في رحلة الإنسان العاقل الأزلية في ركاب الصراعات المضنية , مع محاكم التفتيش التي تفصح عن وجهها بأشكال جلية , وذلك يجعلنا في اختبار صعب يكمن في مدى انتصارنا للحقيقة المتجسدة في حماية المكتسبات التي تعاقد على صونها كل تلك الجهود التي واجهت قوى الخرافة والقمع , إزاء أصوات تنادي ولا تزال للخلاص من شبح الحروب التي أفرزتها التحالفات المدمرة لقوى تعتاش على دمار وتمزق المجتمعات والمثال الجلي هو عملية الربيع العربي , التي كانت بمثابة إعادة قيم الوحشية والبربرية بصورة حديثة , وتصدير الرعب والأزمات الاقتصادية الخانقة والهجرات المتلاحقة
ناهيك عن الأزمات التي تمخضت عن هذا الربيع الدموي والذي تمثل عن تجديد آليات القمع إزاء الأصوات المطالبة بالدمقرطة وحرية التعبير والرأي في الحياة السياسية , ذلك سبب عودة أجواء الخوف من المستقبل وساهم بشكل كبير بالاغتراب الفردي حيال المعرفي المدرك الذي يترقب أفول الحياة القمعية , وعودة الحياة التي تستقي من قيم الحضارة الأزل , الكثير من القيم الخامة التي انتجت تلاقحاً فكرياً , جعل المجتمعات تتجه نحو الإعمار والرفاهية والتحول عن نهج الحروب وقمع الحريات التي تسبب مع الوقت الانفجار كنتيجة سلبية, هو الانفجار العظيم الذي نتج عن تراكمات من اخطاء السلطة تجاه المجتمع , الأمر الذي سبب الفوضى بكافة أشكالها الاغترابية , فقد فشلت مجددا رهانات الحل والتحول الديمقراطي لشعوب اعتادت القمع والتصفيق للأقوى , ومعارضاتها مصطفة إلى جانب عدو الحكم , حيث نشهد تنافسا بين السلطة والمعارضة نحو أيها يظفر بالولاء للقوى الاقليمية , على حساب شعوبها في الشرق الأوسط , فلا نجد سلطة شرعية منتخبة ولا معارضة شرعية معبرة عن المجتمع , وذلك أسوأ ما يمكن أن يكون , والذي أنتج مع الزمن تخبطات شتى ناجمة عن فراغ او انعدام رؤية لحل يلوح في الأفق , فالمشاريع الاقليمية تفتعل أزمات مجتمعية , وتفرز نتائج وخيمة على العالم برمته وتنذر بمخاطر مستقبلية
ان المشكلات المتلاحقة التي تعانيها المجتمعات المكبلة بأغلال القمع والخوف ناجمة عن ضيق رؤية الحكام للمستقبل , حيث لا شيء قائم ومترسخ , وكلما ازداد القمع ازداد الخوف , ومن هنا يمكن ان نشير ان هذا لا ينحصر في خوف السلطوي من زوال أسباب بقاءه في الحكم فحسب , وإنما انعكاس هذا الخوف كسيكولوجيا داخل كافة شرائح المجتمع , فالتعاطي الرديء مع المجتمع يسبب انعدام الثقة والبون الشاسع ما بين الفرد ومدركاته والقيم المعرفية , أيضاً تنتج أزمة المصطلحات نتيجة التشتت وعدم التحري والدقة , مما يسهل على الإعلام الخارجي المهيمن التحكم بسهولة بهذه المجتمعات التي تعرضت لإخصاء معرفي , يسهل إيجاد جماهير متقبلة لأي خطاب يروج لها عبر وسائل الإعلام , ولاشك أن ذلك بات أمراً شائعاً , فتعدد وسائل انتاج الخبر , وقلة إطلاع الفرد داخل هذه المجتمعات , يسبب إنتاج سلوك متذبذب قهري , غير قادر على صنع عقل تحليلي ناقد ومتفحص , وإنما انشاء عقل ممتص ومتقبل , وقادر على تكرار ما يتم ترويجه فحسب , حيث يستمر لجوء الإعلام لصنع أخبار ومعلومات أكثر مبالغة ودهاء , إزاء استمرار تك العقول على امتصاس كل ما يتم ترويجه عبر غطاء وستار متين يتمثل بمحاكاة الذائقة الشعبية والتي هي حصيلة تلاقح شاذ ما بين الفكر الديني والمفاهيم التعويدية المشتقة من العادات السلوكية
إن ذلك الوهم هو ما ينخر ملياً في السلوكيات ويتحول لمفاهيم غرائزية , ويتمذهب الأفراد بها , مما ينجم عن ذلك من استساغة للخضوع والتسليم به , حيث يتم الانصهار وذوبان الخاصية المجتمعية عبر الاندماج الذي هدفه زوال القيمة والخاصية , حيث نرى أمماً عديدة جعلها الاندماج القسري بلا لغة وبلا خاصية وتدريجياً أمة بلا أرض , فالذوبان في البوتقة العرقية الحاكمة هو نتيجة أخيرة يتم عبرها نجاح إلغاء الهوية الحقيقية , مقابل انتصار الثقافة السلطوية ومجموع قيهما , نظراً لكونها ثقافة مهيمنة بالقوة , مثالاً هيمنة اللغة الانكليزية على العالم لتكون اللغة العالمية الأكثر انتشاراً , كون هذه اللغة كان أوائل الناطقين بها إنكليزاً , استطاعوا فرضها عبر قرون من الإبادة والصهر والاستعمار , ويتم فرض اللغة عبر الدين , مثالاً العرب والإسلام والقرآن العربي , الذي جعل السيطرة على الاراضي وتوسيع الملكية سهلة عبر إقحام اللغة العربية والتقاليد البدوية في الدين وهكذا يتم ابتلاع الأراضي بسكانها الأصليين خدمة للغة والدين والعروبة , وفيما بعد وعلى غرار ما سبق حاول العثمانيون فرض اللغة التركية أثناء فترات مكوثهم وهكذا , إن انتشار اللغات مرتبط بالسيطرة , واختفاء ثقافات لصالح بروز ثقافة واحدة هو السلطة القامعة الفارضة للهيمنة وبأشكال ومسوغات عديدة
وفي الوقت الحاضر برز الإعلام ليؤدي وظائف تفوق الوسائل التقليدية المتحلقة حول القوة , ليستمر الصراع على ذات الوتيرة وعبر إشراك القوة العسكرية لاستمرار احتكار الثقافة والأرض والفرد والمحافظة على ما هيمن عليه الأسلاف المحتلون (بروز التصارع بين المحور السني –تركيا-السعودية , ضد المحور الشيعي إيران ) إلى جانب طموح أحفاد الاستعمار القديم (أمريكا, روسيا, أوروبا) وتصاعد التنافس نحو التسلح والتنافس الصناعي (كوريا, الصين )
وحينما تغدو الآلة الاعلامية مجرد وسيلة هشة لتعميق الهوة المجتمعية , تغدو الوسائل الاعلامية مجرد أدوات لتسعير الحروب والفتن , ويتم ضرب منظومة الحياة ومفاهيميها الخامة لصالح الاتجار بالقيم , وذلك تعبير عن حرب شاملة ضد قيم الحياة الأولى التي لطالما عمد المعرفيون لصونها , بيد أنها مستهدفة من قبل أرباب المافيوية الاقتصادية التي تعمل وبكل جهد على دحر الحياة القائمة على الانصاف , حيث تتحول الحقيقة لجثة عفنة تحوم حولها خفافيش الظلام التي تعمل لنسف الحياة الروحية والقيم الجوهرية باستمرار , لأجل دوام الخضوع والاستبداد , وأمام ذلك فاللمعرفيين أبناء الوجود مهام جمة تتلخص في الحفاظ على حيوية المواجهة وبروح فكرية أخلاقية , فالصراع الأزلي بين أنصار الحياة النقية وأنصار التشويه والقبح تتجلى في كل زمن , ولو جمعنا كل الصراعات على اختلاف مسبباتها ونتائجها وأشكالها وحيثياتها لاستطعنا تلخيصها بصراع واضح وشامل بين قوى التنوير وقوى الجشع , والمعرفة تنتصر على الدوام لصالح القوة التي تعمل لإحياء الجمال والخير والحق العام , أمكن لنا أن نقول أن جبهات النور ما تلبث أن تنهض , متجلية بكفاح المعرفيين الشاق والطويل لصنع حياة مبنية على المساوة والرفاهية , من خلال دوام الجهد وصدق المسعى , ولعل المظلومية التي تلاحق الإنسان المبدع في ظل منظومة القمع والتهميش مستمرة والصراع لأجل رفع هذه المظلومية واستبدالها ببيئة نظيفة للابداع دائم ولا يتوقف ولا ينحصر في بقعة جغرافية معينة من الوجود
إن تربية البؤس الفكري لدى غالب التنظيماات النفعية موروث استبدادي قديم رعته الأنظمة الأبوية عبر التاريخ ولا عجب في ذلك فمعظم التنظيمات الكلاسيكية الشرق أوسطية والتي تربت في كنف منظومة الاستبداد والتي نجحت هذه الأخيرة في اختراق صفوفها استخباراتياً , استطاعت وبجدارة خلق روح الخواء فيها وجعلها مجرد قوالب نمطية لا حياة فيها ولا روح ابداع , لذا فبقاء هكذا تنظيمات خاوية هشة , هو لأجل دوام الضعف والتجزئة والحيلولة دون إنقاذ المجتمعات من الاغتراب النفسي الهائل التي رسخته منظومة التجهيل عبر قمعها وإحياءها لأنماط مرضية غير قادرة على أن تبني , بل أن وظيفتها هو المزيد من التصدع والتشرذم إلى مالانهاية , لأنها ببساطة لن تستطيع التغلب على تلك الأنماط الجامدة التي زرعتها السلطة القامعة فيها , وبالتالي تغدو وسيلة ضامنة لتجزئة المجتمع وإفراغ مستنيريها على الدوام ولاشك أن ذلك يمثل تآمراً على المعرفيين والمجتمع عبر أمد بعيد غير منظور ويسبب انعدام ثقة بين كافة شرائح وفئات المجتمع لتغدو مجرد آذان طيعة لما تريده قنوات الإعلام التحريضية التي تروج للموت والحروب الطويلة الأمد لأجل دوام التحكم والهيمنة لتلك القوى المهيمنة التي تعتاش وتزيد من بقاءها من خلال تلك الفئات التي تزرع الشقاق داخل المجتمع وهذا ما يتجسد بصورة جلية في داخل المجتمع الشرق أوسطي عموماً والكردستاني خصوصاً
إن معظم الحروب التي تشن على الشرق الأوسط منذ أن تم إصدار فرمان استبدال الأنظمة القعمية بنظم أخرى , جرى التفاوض حول كيفية تغيير هذه النظم بنظم أخرى تستجيب لمتطلبات القوى التي تشن الحروب الاقتصادية الواحدة تلو الأخرى بغية استنزاف هذا الشرق الأوسط , المنطقة الحلم تاريخياً والتي كانت حلم المهيمنين قديماً باسم الحروب المقدسة (الصليبية), وكانت حاجة في العهد المعاصر لدى الدول الصناعية التي تنافست على تقاسمها في فترة الحربين (الاستعمارالأوروبي ) وتوقيع اتفافيات حولها أشهرها سايكس بيكو, راحت من خلال ما يسمى بفرمان (الربيع العربي) بمحاولة استبدال واقع بآخر عبر التبشير بمعركة الحرية والديمقراطية , واستبدالها أخيراً بالحرب الشاملة الدولية ضد الإرهاب الجهادي , وكل ذلك لتغطية الهدف الاقتصادي غير المعلن والمتمثل بإيجاد مصادر وموارد شبه دائمة متمثلة بهيمنة القطبين الواضحين المتجسد بأمريكا وروسيا ولواحقهما الإقليمية المتمثلة بدول الجوار , التي رأت في سوريا الرجل المريض الذي ينازع , والذي يجب أن تتوزع الحصص فيه , لتكون النهاية لسايكس بيكو قديم وبداية لاتفاق كيري ولافروف , وحالة المد والجزر التي تشهدها تقاربهما من جهة وتنافرهما من جهة أخرى وأمام ذلك نحن أمام مشهد حرب لا تكاد تتوقف , حتى يتم تسوية التفاوض وتقاسم التركة القديمة , وأمام ذلك نشهد تدفقاً هائلاً للنازحين إلى أوروبا , في حين نشهد خروجاً لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي, ودعما تركياً خليجياً للجماعات الجهادية التي وصل خطرها لأوروبا , كل ذلك نتيجة تفشي الحرب الاقتصادية والبحث عن مصادر وموارد , ومناطق نفوذ تسعى كل الدول المجاورة من سوريا لإيجاد متنفس لها وموطأ قدم , ولاشك أن الإعلام والاستخبارات تسعى للمزيد من الحروب لأجل تسعير التنافس كل طرف حسب أجنداته , ولذا أصبح الإنسان الشرق أوسطي إما نازحاً أو مجرد ضحية ومادة رخيصة لوسائل الإعلام , حيث ظهر الاستغلال والتدمير في أبشع صوره , مما يضع العالم اليوم على محك حرب وشيكة , حيث يفرض ذلك على كل دول العالم خرائط متغيرة ديموغرافياً وليس ببعيد أن يبدأ سباق التسلح وإعادة تشكيل الجيوش تحسباً لتصادمات كبيرة لا تتوقف وتتشعب باستمرار ,من خلال استمرار انتاج الأسلحة غير التقليدية والتسابق على إنتاجها (كوريا الشمالية, الصين ,روسيا, إيران , أمريكا , إسرائيل )  وأولى ملامحها تتجسد فيما يسمى بمكافحة الإرهاب العالمي
يستسلم الساسة الشرق أوسطيون رغم تمايز بيئاتهم القمعية لمفاهيم ميكافيلية شاذة, في استنادهم لثقافة تنظيمية تحايلية مشوهة , غايتها برمجة الجماهير لخطاب ديماغوجي , يمهد لتكوين خلايا نمطية مستنسخة عن أفكار الزعيم الروحي أسوة بالشخصيات الطائفية والمرجعيات الدينية , الهدف من ذلك هو إفراغ كل محتوى ذي معنى , إذ ان العلمانية كمعنى ليست كالتي يكرس لها الساسة على أرض الواقع , وذلك ينطبق تماما على أصحاب المرجعيات الدينية التي ادخرت كل الخطابات المتشنجة لصالح استثمارها في الحرب وتحقيق الاهداف النفعية , يشهد رواد الربيع العربي تنافسا وتسابقاً فظاً على انتاج التطرف كل حسب موقعه , وإنشاء ديكتاتوريات واهنة, وقادرة على أن تكون النموذج الأسوأ , فتأملنا لديكتاتوريات القرن العشرين في العالم العربي يعطينا نتائج متناقضة تجتمع بعبارة كلية وهو تحقيق مطلب الانفجار العظيم لشعوب اعتادت الركوع والقمع عبر عقود , الأمر الذي جعلها تنتقل لطور الديكتاتوريات الجديدة المبنية على الفوضى وتفتيت الجغرافيا , واستثمار التطرف في أوساط النخب الشابة , فالشرق الأوسط بات يزرح بالميلشيات , والسبب يعود لتحكم الساسة المتحايلين على مفاصل الحياة السياسية على نحو هائل , مستفيدين من إبعادهم للمتنورين أصحاب الملكات الابداعية , أعداء الميكافيليين الجدد , إن صح التعبير, يمكن أن نعتبر أن الميكافيليين الجدد هم المشوهين للميكافيلية التي قرأنا عنها في كتاب الأمير , إنهم لون مشوه وشاذ لها , إذ أنهم فاقوا الميكافيلية غطرسة واستخداما لكل شيء دامي وقذر لأجل الوصول للغاية , , ان استغلال كل شيء لأجل الغاية هو الذي راح يعبر عن نفسه من خلال الإعلام , الاعلام الذي بات الطاحونة التي تقود الحروب الميدانية , وتتحكم بمصادر الخبر والتأثير والتي تعتبر الحلبة التي يتنافس عليها الساسة في كل الميادين والصعد
فأصل كل تقهقر مجتمعي يرجع إلى فساد المنظومة الفكرية والعقائدية فيه وبقاء هذا الترهل دون إصلاح أو محاولة تغيير 
إن ممارسة العنصرية والإقصاء الديني والقومي هو لترسيخ التفتت الاجتماعي والقضاء على مكتسبات الحضارة التي ظهرت على يد المعرفيين , للحيلولة دون تآلف المجتمعات مع بعضها البعض , فالحرب السورية مثلاً شهدت توطد هذه النزاعات الاجتماعية التي مبعثها الانقسام الاجتماعي الناتج عن تصارع مذهبي تاريخي تم إذكاء شرارته ميدانياً عن طريق التسليح الذي أفضى عن حروب وخلافات متشعبة ومتصلة بأزمات مجتمعية خارج الحدود السورية لدول الاحتقان الطائفي في عموم الشرق الأوسط , والمثال القريب جنوب ووسط العراق , وصراع الطوائف اللبنانية المتمثلة بتوطد الزعامات المحلية المسيحية أو الاسلامية والتي شكلت نواة الهلال الشيعي , كل ذلك يشير أن محرض الصراعات يتم تغذيته عبر الدين وتأويل ذلك مرده لغياب وطمس التفكير النقدي بين النخب الشابة , ومحافظة الحكومات القمعية على تقاليد الاحتقان منعاً من تماسك المجتمعات وجعلها فقط وقود حروب اقتصادية تستنزف الأرض والموارد والمؤسسات, حيث الإعلام المتخلف جداً والمحرض على العنف والعزلة بأشكالها الجلية التي مجدت المازوشية الفكرية المتمثلة بتقاليد الحزب الشمولي, خليفة التقاليد الدينية اللاهوتية , والتي مارست صنوف الاستعمار الذهني , وكبلت جهود المعرفيين السائرين  دون هوان وتخاذل نحو صيانة أمن مجتمعاتهم وإخراجها من ساحات الحروب العبثية , مواجهين بذلك الاعتقال والتجويع وموجات التجهيل والاغتيال.
لقد تعرت عيوب هذا المجتمع المستعد بذائقته الممتصة لتقاليد القداسة ليكون أنموذجاً لكل تطرف عدا أن يرتقي ذهنياً , وحصدت منظومة الاستبداد الشرقي مازرعته عبر عقوده من الاستعباد وترسيخ العزلة في مجتمعات لا تجيد سوى التصفيق والهتاف , ظناً منها أن الثورات تأتي عبر أروقة المعابد وصيحات الخارجين منها..
إن دراسة ثورات العالم العربي وعموم الشرق الأوسط يحتاج بصورة مباشرة للتوغل حول إشكالية الدين في أوساطه المجتمعية , حيث أن الثورة بمعناها الحقيقي غير موجود في ظل وجود منظومات أبوية هنا وهناك تتحكم في العقول بطرائق مخيفة , تجعل من موضوع التغيير السلطوي أمراً مشكوكاً فيه , نظراً للانتقال المشوه ما بين نظام قمعي رابض لعقود معينة ونظام آخر إسلامي يعيد لأذهاننا طبيعة حكم قائمة على الاستبداد ومزيد من الاحتقان وقمع الأقليات باسم سلطة الأكثرية الغالبة والافتاء بها, إذاً فغالب أهداف تلك الثورات المذهبية يصب في تبديل السلطة دون تغييرها جوهرياً , أما منظومة الدول المحيطة بسوريا والعراق , كإيران وتركيا, والسعودية , فهي أنظمة مستبدة تحاول إقامة نظام يكون حارساً لمصالحها في المنطقة , ففي ظل غياب الصوت الشعبي وبقاء شرائحه تحت وطأة القصف والنزوح فلا يمكن الحديث عن أي بوادر إقامة نظم ديمقراطية بحدودها الدنيا , وطرح أي مشاريع مستندة إلى فلسفة حقيقية , سيبقى ضمن حدود المحاولة لإعادة الهوية الحقيقية للمجتمع الشرق أوسطي , ففي ظل ابعاد المعرفيين , أصحاب الملكات الابداعية وعدم إشراكهم في عملية التحول الديمقراطي , يبقى أي مشروع حيز الأطروحة النظرية مالم يتم إشراك الجميع بخاصة الشريحة المستنيرة غير المرتهنة لأي خطاب حزبوي مبتذل..

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!