هنادي الخطيب/ كاتبة سورية
برع السوريون في المجزرة القائمة منذ سبع سنوات في أمرين اثنين، الأول تصدير المعارضة الفاشلة الفاقدة لكل أدوات التفاوض وعمل السياسة، والأمر الثاني تفريغ قضايانا من محتواها، وتحويلها سلعة تباع وتشترى وتفقد كل معنى وأثر.
وأما عن المعارضة «النصف كم»، فبتنا نرى كسوريين أن لا فائدة من انتقاد أشخاصها، لأنها انتقادات تذهب أدراج الرياح، لا يهتم بها أصحاب العلاقة ولا يحاولون التفكير بفحوى وأهمية الانتقادات. فطالما بقي واحدهم في الكرسي والمنصب وامام الفضائيات، فكل نقد له هو حسد أو عمالة، وبأحسن الأحوال حماقة أو جهالة. وتبقى هذه حالهم إلى أن يقرر أحد متعهدي المعارضة بأن يخرج الواحد منهم من المؤسسة، فيتحول بقدرة قادر إلى ناشط فيسبوكي، وينهال على السوريين ببوستات وآراء شديدة اللهجة والقوة، لم يجرؤ قبلاً أن يتبناها، ويطرب لبعض التصفيق الفايسبوكي، ويحضر نفسه لرأي أشد وقعاً من سابقه. لكن وللصدق الأدبي فإن بعضهم لا يستسلم لزهو عواطف نجم الفيسبوك، فطريق العودة لم يُقطع، وشعرات معاوية يجب أن تبقى. على كل حال هو أمر اعتدناه ولم نعد نلتفت له.
الأمر الأخطر، هو المهارة والحرفية بتفريغ القضية تلو الأخرى من محتواها، بدءاً بتحويل الكثير من النشطاء والصحافيين منذ السنة الأولى للثورة من مصدر خبر وشاهد عيان إلى منظّر فيسبوكي في أوقات الفراغ، ومصدر خبر أمني في أوقات العمل الفعلية. هكذا تم إبعادهم من الأرض، وتقريبهم من الأجهزة الكثيرة، وترافق ذلك مع رفدهم بالأموال والأجهزة الإلكترونية اللازمة.
وإن نظرنا إلى التاريخ القريب (بما لا يتجاوز العام) سنجد أن الدور جاء على جريمة الاعتقال والتعذيب والاغتصاب مما يُمارس في معتقلات الأسد، فقد انتشرت بلا رقيب ولا حسيب شهادات لمعتقلات على صفحات الانترنت، وبدأت مجموعات عشوائية من النشطاء بإنشاء الصفحة تلو الأخرى للتحدث باسم المعتقلين والمعتقلات، ولنشر حكايا الاغتصاب تحديداً في معتقلات الأسد، والهدف وفق الناشرين فضح الأسد. لكنْ هل فُضح الأسد بهذه العشوائية التي هي بلا أدوات ولا خطة حقيقية، أم أن هذه الطريقة لا تغير من واقع المعتقلين والمعتقلات شيئاً سوى تحويلهم إلى مجرد أرقام وحكايا لا تحمل صدقية.
متفقون على أن نظام الأسد هو الأكثر إجراماً وتنكيلاً في القرن الحالي والمسمى زمناً حديثاً، ومتفقون على أن العالم الذي يُسمى متحضراً يتجاهل تلك الجرائم، وأن مجرد الاعتقال انتهاك لحقوق الإنسان، وجريمة ضد الإنسانية، ولكن ما نحن غير متفقين عليه تحويل قضية الاغتصاب إلى حكاية نتسلى بها قبل النوم، أو مناسبة لجمع بعض اللايكات التي تفيدنا في إيجاد فرص عمل تحت مسمى «ناشط فيسبوكي مهم».
من المذنب في ذلك؟ بالطبع ما يُسمى مؤسسات المعارضة، التي لم تعمل لتحوز ثقة الناس، والتي كان منوطاً بها هي أن تؤسس مؤسسات لها احترامها ومهمتها الوحيدة فقط توثيق الانتهاكات كلها بما فيها الاغتصابات الجنسية. إن عشرة أشخاص من دون تنظيم وقوانين عمل لن يستطيعوا فعل شيء، فكيف بملايين من الناس لا منظمة ولا مؤسسة تحاول على الأقل توثيق الانتهاكات ضدهم؟
إن أي فعل قانوني في المستقبل يحتاج لتوثيق، وليس لصراخ وبكاء على الفضائيات، ولا ينزعجن أحد، فحتى عند نظام الأسد هناك من يبكي وينوح ويصرخ. إن شهادات المعتقلات والمعتقلين يجب أن يتم توثيقها بطرق احترافية وقانونية في المنظمات الحقوقية الدولية، وهي الشهادات الوحيدة التي يمكن استخدامها في المحاكم الدولية، لكن على مدى حوالى العام، تحولنا جميعنا إلى خبراء قانونيين ونشطاء حقوقيين وصحافيين.
لقد كان كل العالم وكل قادة أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية متأكدين من أن قادة عسكريين صرباً ارتكبوا مجازر ضد الإنسانية في البوسنة والهرسك، لكن يوم قامت المحكمة الدولية، لم يكن لتأكيد كل هذه القادة والسياسيين وملايين الناس قيمة قانونية، وأن القيمة هي للتوثيقات والأدلة والشهود والحفريات، وقد استمرت المحاكمات سنين طويلة ولم تنته بعد. ولربما كان السبب أن الأوروبيين يهمهم في تلك الحالة معاقبة الجناة، فالجريمة وقعت في قلب أوروبا. هكذا ساعدوا الناشطين أن يفرزوا ويصنفوا ويجدولوا ويوثقوا. ولربما كانت خطة عمل الغرب معنا هي فقط حماية الفوضى، وترك الباقي لفوضويات المراهقين والمراهقات فكرياً ووطنياً.
الحياة 8.1.2018