الصدام العلماني - الإسلامي السياسي في مستقبل تركيا

Site management
0
تركيا تحت المجهر: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
لطالما كانت تركيا ساحةً خصبةً للصراع بين العلمانية والإسلام السياسي، وهو صراع يعكس، في جوهره، معركةً أيديولوجية وسياسية بين قوتين تتنازعان السيطرة على هوية الدولة. منذ تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، كانت العلمانية إحدى الركائز الأساسية للهوية التركية الحديثة. ومع مرور الوقت، تحول هذا الصراع إلى معركة متجددة بين مختلف الأطياف السياسية، إذ شهدت تركيا صعود الإسلام السياسي على يد حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، في مقابل القوى العلمانية التي تتزعمها الأحزاب الكمالية، وعلى رأسها الحزب الشعب الجمهوري.
في الآونة الأخيرة، تصاعدت الخلافات بين حزب العدالة والتنمية والحزب الشعب الجمهوري، مما يثير تساؤلات عدة حول مستقبل هذا الصراع في ظل التقلبات السياسية التي تشهدها تركيا. ويمثل هذا التحليل محاولة لفهم التطورات الحاصلة في هذا السياق، خاصة في ضوء العلاقة المتزاوجة بين حزب العدالة والتنمية والحركة القومية التركية بزعامة دولت بهجلي، وكذلك تأثير "الدولة العميقة" التركية على هذه الديناميكيات.

العلمانية والإسلام السياسي في تركيا: خلفية تاريخية

بعد تأسيس الجمهورية التركية على يد أتاتورك، كانت العلمانية حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة. سعى أتاتورك إلى فصل الدين عن السياسة في محاولة لتحويل تركيا إلى دولة ذات طابع غربي، مما استدعى تبني سلسلة من الإصلاحات التي شملت إلغاء الخلافة، وإغلاق المساجد والمدارس الدينية، وتأسيس النظام القضائي والعلمي على الأسس الغربية. في تلك الفترة، كانت العلمانية تعبيراً عن التفوق الغربي والأيديولوجية الجمهورية التي لم تقبل أي تداخل مع الإسلام كدين في الحياة السياسية.
على الرغم من هذه الجهود، لم تختفِ القوى الإسلامية تمامًا من الساحة السياسية التركية. فقد ظهرت حركات إسلامية ترفض النموذج العلماني، وكان أبرزها حزب الرفاه الذي أسسه نجم الدين أربكان في السبعينات، ونجح في الوصول إلى السلطة في التسعينات من القرن الماضي. ومع مرور الوقت، أصبح حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان هو أبرز القوى الإسلامية في السياسة التركية.

حزب العدالة والتنمية والتوجهات الإسلامية

في عام 2002، وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة رجب طيب أردوغان، ونجح في تقديم نفسه كحزب إسلامي معتدل قادر على الجمع بين التوجهات المحافظة وقيم الحداثة الغربية. على الرغم من إدعاء الحزب اعتناق المبادئ الديمقراطية، فإن سياسته شهدت تغييرات تدريجية نحو تعزيز الهوية الإسلامية في تركيا. بداية من تعديل الدستور وتوسيع الحريات الدينية، وصولاً إلى إعادة إحياء الإسلام في الحياة العامة، مثل إعادة فتح آيا صوفيا كمسجد، وتوسيع النشاطات الدينية في المدارس، وتنظيم مؤتمرات دينية على نطاق واسع.
لكن السياسة الإسلامية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية ليست متجانسة مع المواقف التقليدية للحركات الإسلامية في تركيا. إذ يرفض أردوغان تبني نهج "الصحوة الإسلامية" التي تعتمد على المعركة الفكرية ضد العلمانية، بل يميل إلى إدخال مفاهيم إسلامية بشكل تدريجي في مؤسسات الدولة. هذا التوجه، رغم أنه يبدو أكثر توازنًا، لا يخلو من الصراع مع القوى العلمانية، التي تتزعمها الأحزاب الكمالية، والتي ترى في هذه التحولات تهديدًا لأسس الدولة الحديثة التي أسسها أتاتورك.

الحزب الشعب الجمهوري والتوجهات الكمالية

يعد الحزب الشعب الجمهوري، بقيادة كمال كليجدار أوغلو، هو الوريث الشرعي لفكر مصطفى كمال أتاتورك. يحاول الحزب الحفاظ على القيم العلمانية والتحديثية التي أسس لها أتاتورك، ويرفض بشدة أي مساس بالعلمانية أو محاولة دمج الإسلام في السياسة. في الفترة الأخيرة، أصبح الحزب الشعب الجمهوري أكثر معارضة لحزب العدالة والتنمية، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في ظل الخلافات السياسية حول قضايا مثل حرية التعبير، سياسة التعليم، والعلاقة بالغرب.
ومع تصاعد الخلافات السياسية، أصبح الحزب الشعب الجمهوري يمثل الحاضن الفكري للقوى العلمانية التي تتصدى لتيارات الإسلام السياسي، ويدعو إلى العودة إلى المبادئ الكمالية التي تشدد على فصل الدين عن السياسة. لذلك، يواجه الحزب تحديات كبيرة في مواجهة القوى الإسلامية التي تحظى بشعبية واسعة في تركيا، وهو ما يعكس تعمق الانقسام بين القوى العلمانية والإسلامية في المجتمع التركي.

التحالفات السياسية: أردوغان والحركة القومية التركية

في السنوات الأخيرة، شهدت تركيا تحولًا سياسيًا ملحوظًا، حيث بدأ حزب العدالة والتنمية في تعزيز تحالفه مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهجلي. هذا التحالف، المعروف بـ "تحالف الشعب"، يهدف إلى تعزيز الاستقرار السياسي، ولكنه في الوقت ذاته يعكس تحولًا في استراتيجيات أردوغان. فالحركة القومية، التي تمثل تيارًا قوميًّا متشددًا في تركيا، لا تقتصر أهدافها على تعزيز الهوية التركية فحسب، بل تشترك أيضًا في تأكيد دور الإسلام في السياسة.
هذه العلاقة بين حزب العدالة والتنمية والحركة القومية تعتبر تطورًا هامًا في السياسة التركية، حيث يزداد التزاوج بين الإسلام السياسي والقومية التركية. هذا التحالف يعزز من موقف أردوغان ويتيح له دعمًا شعبيًا واسعًا في مواجهة الأحزاب المعارضة، كما يعكس تحولًا في السياسات التركية التقليدية نحو مزيد من التوجهات الإسلامية القومية.

الدولة العميقة التركية: التحولات في دعم التوجهات الكمالية والإسلام السياسي

منذ فترة طويلة، يتم الحديث عن "الدولة العميقة" في تركيا، وهي مجموعة من المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية التي تتمتع بنفوذ واسع وتعمل بشكل غير رسمي للتأثير على السياسة التركية. تقليديًا، كانت هذه الدولة العميقة تميل إلى دعم التوجهات الكمالية، سواء من خلال تدخلات مباشرة في السياسة أو عبر التأثير على صناعة القرار.
ومع صعود حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة، شهدت تركيا تحولًا في هذا الدور التقليدي للدولة العميقة. فقد بدأت هذه المؤسسات، خاصةً في ظل تحالف أردوغان مع الحركة القومية، بالابتعاد تدريجيًا عن دعم العلمانية الكمالية لصالح دعم الإسلام السياسي، بشكل أو بآخر. في السنوات الأخيرة، يمكن ملاحظة أن العديد من العسكريين والمسؤولين في الأجهزة الأمنية قد تبنوا مواقف أكثر توافقًا مع توجهات أردوغان وحلفائه القوميين.
لكن هذا التحول ليس مجرد تغيير في المواقف السياسية، بل يعكس أيضًا تحولًا في البنية العسكرية التركية التي كانت تعتبر الحامي التقليدي للعلمانية. يُفترض أن الدولة العميقة كانت تشكل الحاجز الأكبر أمام مشاريع أردوغان الإسلامية، لكن التحالفات الحالية قد أسهمت في تغيير هذا الواقع.

المستقبل: آفاق الصراع بين العلمانية والإسلام السياسي

في ضوء ما سبق، يبدو أن الصراع بين العلمانية والإسلام السياسي في تركيا يدخل مرحلة جديدة من التوتر والضبابية. مع تصاعد الخلافات بين حزب العدالة والتنمية والحزب الشعب الجمهوري، وظهور التحالفات الجديدة بين حزب أردوغان والحركة القومية، فإن المستقبل القريب قد يشهد مزيدًا من التوترات السياسية والاجتماعية.
سيظل التحالف بين حزب العدالة والتنمية والحركة القومية من العوامل المؤثرة في تحديد مسار الصراع. إذا استمر هذا التحالف، قد نرى تحولًا أكثر وضوحًا نحو تعزيز الهوية الإسلامية في السياسة التركية، وهو ما سيواجه مقاومة قوية من القوى العلمانية. في الوقت نفسه، تظل الدولة العميقة محورية في هذا الصراع، إذ قد يكون لديها دور حاسم في التأثير على مسار الأحداث المقبلة.

الخلاصة

إن الصراع بين العلمانية والإسلام السياسي في تركيا ليس مجرد معركة سياسية على السلطة، بل هو صراع أيديولوجي يتعلق بهوية الدولة وطبيعة علاقتها مع الدين. في ظل تزايد الخلافات بين الأحزاب الكمالية وحزب العدالة والتنمية، وتزاوج التحالفات السياسية مع الحركة القومية التركية، تبدو تركيا أمام مفترق طرق حاسم قد يحدد شكل الجمهورية التركية في المستقبل.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!