خاص/ الجيوستراتيجي للدراسات
قد يجد المرء في الوهلة الأولى أن إيران دولة متماسكة من الداخل، إلا أن الواقع الأمني والداخلي والولاء المطلق من الحرس الثوري الإيراني وكذلك القوى المرادفة لها " الباسيج " لولاية الفقيه والمجموعة الحاكمة أظهرتها بهذه الصورة، في الحين تعتبر إيران أكثر الدول التي يُمارس فيها أبشع أنواع الاستبداد بحق شعوبها، لِما عليها من نظام طائفي وتركيبة أمنية تتفرع وفق منظومة أمنية قل نظيرها في العالم المتحضر. وخلال العقود الأربعة الماضية مارس فيها أدوات النظام أساليب التصفية العرقية بحق جميع المكونات، وإن كانت الحصة الأكبر من نصيب الشعب الكردي الذي عان الأمرّين " الاضطهاد القومي والمذهبي ". بحكم أن الكرد أكثر الشعوب الإيرانية نشاطاً ونضالاً وتضحية في مواجهة آلة القتل المنظمة، وهي أسباب كافية لتوجيه النظام الإيراني استخباراته وأدواته القمعية إلى ارتكاب المجازر بحقهم وتصفية قادتهم، وملاحقة حركتهم التحررية. حيث شملت آلياتها التصفوية عموم الشعب من خلال الاعتقالات الكيدية وتطبيق إجراءات تعسفية من المحاكم الصورية والإعدامات اليومية، ناهيك عن تنفيذ مشاريع التفقير التي أبقت المناطق غير فارسية من إيران " نسبة 95% تحت خط الجوع والفقر.
استمر النظام الإيراني بتوظيف قوانينه المذهبية في اللعب على التناقضات الاجتماعية بين الشعوب داخل إيران، وتوجيه الطاقات الاقتصادية للبلاد إلى التوسع والتمدد المذهبي في الشرق الأوسط بدعم جماعات وتنظيمات طائفية ومتطرفة، إلى جانب صناعة الأسلحة الثقيلة التي ساهمت في تكريس الفوضى والصراع الطائفي، والتهديد السلمي الإنساني في الشرق الأوسط، وبذلك وظفت كل طاقات البلاد في مشاريع ومغامرات عسكرية وسياسية في الوقت الذي كان يعاني فيه الشعب الإيراني الفقر والاضطهاد الممنهج الذي تمارسه الأجهزة الأمنية المتعددة بأمر من ولاية الفقيه ومجموعته الحاكمة، وهذا ما دفع بالشارع الإيراني إلى الغليان وتطور رفضه لممارسات النظام، حيث بدأت أولى التحركات الشعبية العامة عام 2009 لتكون أساس لتحركات لاحقة ظهرت مع نهاية 2017 ونهاية 2019، وإن كانت التحركات السابقة ظهرت ضمن سياقات الخلاف السياسي داخل أروقة النظام إلا إن النسخة الجديدة من التحركات الشعبية بقيادة الطبقة الكادحة التي تمثل الغالبية، وفي مدن ومناطق استراتيجية من إيران، أزاحت الستار عن الكثير من الحقائق التي كانت مخفية، في الوقت الذي كان فيه النظام يعتمد على تلك الطبقات، ظهرت هشاشة النظام وتأثيراته، لتتحول المظاهرات الضخمة من المطالبة بالإصلاحات إلى إسقاط نظام ولاية الفقيه.
المسار المحتمل
سواء نجحت التحركات الشعبية في إسقاط النظام الإيراني أو ساهم في تعديل بعض القوانين، مع احتمالية كبيرة في قمعها والقضاء عليها بالوسائل الإجرامية التي يشتهر بها النظام، إلا إن التطورات الشعبية داخل هذه البيئة الأمنية المنغلقة وبهذا الشكل الواسع في مواجهة أدوات القمع والعنف، لها أبعاد استراتيجية مؤثرة في طبيعة سيرورة النظام، ورسم ملامح جديدة بناءً على ضغط شعبي ستنتج في المحصلة عن تخفيف سطوة النظام وإستبداده، وإجمالاً يتطور هذا الحراك بسرعة فائقة، ويصنع لنفسه " ذاتياً " أرضية وبيئة ملائمتين لدفع الظروف كافة إلى إسقاط النظام في المستقبل حين يضعف بسبب الضغوطات الدولية أو العقوبات الاقتصادية، ويصبح النظام بين فكي التحرك الداخلي والهجمات الخارجية، حيث ستكون تلك العوامل كافية لتمكين شعوب إيران التخلص من النظام، ولا ننسى أن ذلك مرتبط بشكل رئيسي في قرار الدول الكبرى، لأن الواقع السياسي يؤكد عدم جدية الدول الكبرى في إنهاء النظام الإيراني، بينما يركز التحرك الدولي على إضعافه فقط، وما هو واضح خلال التطورات القادمة في حال أخفقت أية تحركات شعبية ضد النظام فإنه سيزيد من حالة الاحتقان لدرجة التحركات القادمة أعنف وأقوى.
ركزت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الاتحاد الأوروبي على تحجيم الدور الإيراني في الشرق الأوسط حتى يعود إلى مربعه الأول، وتبقى في صراع دائم مع الدول العربية السنية بعيداً عن التوسع الذي أدى خلال السنوات العشرة الماضية إلى قلق كبير لحلفاء الولايات المتحدة والغرب في الشرق الأوسط، وعملية وقف التمدد يوفر على الشعوب الإيرانية أعباء الحروب الطائفية خارج البلاد، فبدل استخدام ثرواتهم ومقدراتهم الاستراتيجية في حروب همجية يقودها النظام الإيراني من خلال الجماعات المسلحة تحت العباءة الدينية، ستوظف تلك الامكانيات في تطوير البلاد والانفتاح على العالم وتأمين الظروف المعيشية الملائمة للشعب، وإطلاق الحريات العامة وبناء الديمقراطية التي توفر لشعوب إيران علاقة مجتمعية ودولية سليمة بعيداً عن القمع والقتل والتنكيل والمعتقلات والمحاكم الصورية والتصفية العرقية التي تتم بحق الكرد وبقية القوميات في إيران.
حسب المشهد فأنه لن يتم القضاء على النظام الإيراني بشكل كامل، ويعود السبب إلى الإبقاء على التوازن بين الشيعة والسنة في المنطقة، وهذا التوازن بطبيعة الحال يوفر حاجة هذه الدول إلى الأمريكيين والأوروبيين والروس، وبذلك توفر لهم بيع الأسلحة مقابل الطاقة النفطية والغاز والاستحواذ عليها، وهذا يعني أن التركيز العالمي فقط لإجراء عملية تحجيم وخلخلة داخل النظام وليس إسقاطه، على الأقل في المنظور القريب.
تزايد النفوذ الصيني– الروسي في الشرق الأوسط أعطى لإيران بعض التشجيع في الاستمرار بمشاريعها الخاصة، ولكن الثقة غير متكاملة بين الأطراف بسبب تصرفات إيران جعلت هذه العلاقة مصلحية أكثر ما تكون استراتيجية، بحيث تستخدم روسيا والصين إيران في مصالح معينة كما تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية في ملفات التوازن والسيطرة، ولكن السؤال المنطقي يفرض نفسه: هل حالة تصاعد التوترات بين طهران وواشنطن سوف تضمن لإيران وقوف الروس والصينين إلى جانبها؟ أم يعتمد النظام الإيراني على الاضطرابات الإقليمية ؟ هل ستتجاهل الصين التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات وتشتري النفط الإيراني؟، لاسيما في أعقاب اتفاق تجاري محتمل مع الولايات المتحدة ويكون ذلك دافعاً في التزام الصين بمطالب واشنطن؟
رغم البروبغندا الإعلامية التي استخدمتها إدارة ترامب في رفع مستوى الحرب الكلامية ضد إيران، إلا إن التحرك الأمريكي اقتصر على تقليص الدور الإيراني فقط من خلال فرض عقوبات اقتصادية وتحجيم دورها في الدول الأخرى، بالرغم من قدرة الولايات المتحدة على توجيه ضربات موجعة لإيران، إلا إن الواقع العملي لسياسات إدارة ترامب أظهرت حقيقة الإبقاء على إيران كورقة ضغط مستمرة لإثارة البلبلة المستمرة في الشرق الأوسط، والفوضى التي تنجم عن سياسات إيران في مواجهة الدول العربية السنية أخلفت الكثير من المجال للهيمنة الأمريكية في المنطقة، وبنفس السياق عدم وضوح المخططات الأمريكية ونواياها حيال المنطقة شكّل الخوف لدى جميع الأطراف، وقد تحاول روسيا والصين جعل الإدارة الأمريكية تخفف العقوبات على إيران لمجرد إذعانها للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
من كتاب: مسارات الأزمة السورية
تأليف: إبراهيم مصطفى ( كابان )
نشر بتاريخ 27.12.2019
برعاية الجيوستراتيجي للدراسات ودار المعرفيين الأحرار