المعضلة الكردية بوابة لحل الأزمة السورية

آدمن الموقع
0
لـفهم الأزمة السورية 

تملك الولايات المتحدة الأمريكية آليات كثيرة للتحكم بسير الأحداث في سوريا، لاسيما تحركات جميع الأطراف المتناحرة، وتنسق استخباراتها مع جميع الأطراف بمستويات متفاوتة، ولا تفضل السياسة الخارجية الأمريكية طرف سياسي أو عسكري في الأزمة السورية على الآخر، بل تتعامل مع كافة القوى وفق مصالحها، ربما بمستويات أكثر أو أقل، إلا أنهم جميعهم يندرجون ضمن مشروع المناقصة الأمريكية، وكانت السياسات الخارجية الأمريكية في عهدة إدارة الرئيس " دونالد ترامب " واضحة في هذا المسار. إلى جانب تغطيتها على تصرفات جميع الأطراف بإيجابياتها وسلبياتها. وما يجب إداركه وفق المعطيات إن الولايات المتحدة لا تتخلى عن مصالحها القديمة المتجددة من خلال نتائج التضاربات والمواجهات والاتفاقات الجديدة، والنموذج التركي واضح للعيان، إذ ركزت السياسات الأمريكية على خلق توازنات بين حلفائها المتناقضين، ويمكن لها أن تجمع بين خصمين على مائدة واحدة لطالما الجميع يلتزمون بالخطوط الحمر الأمريكية. 

كانت التغطية التركية على المعارضة السورية لن تتم بمعزل عن الموافقة والدعم الأمريكي، والتدخل الروسي في 30 سبتمبر 2015 لم تكن لولا الموافقة الأمريكية في ذلك، لأن إدارة ترامب لم تكن في أجندتها التدخل العسكري لتغيير النظام السوري في سيناريو مشابه للتدخل في العراق وإسقاط نظام صدام حسين، ودون تدخل عسكري لحماية النظام أو ضبطه كاد المتطرفون يسيطرون على دفة الحكم، لذا فأن التدخل الروسي كان بطلب أمريكي ودعم إسرائيلي، وبذلك ضمنت الولايات المتحدة الأمريكية على إبقاء النظام السوري، كما حافظت على المعارضة السياسية والمسلحة برعاية تركية، إلى جانب تدخله المباشر في شمال شرقي سوريا / المنطقة الكردية/ لمساعدة الكرد – وقوات سوريا الديمقراطية - في محاربة الداعش، ومنع التمدد الإيراني بطلب من الخليج العربي. 

ان أستمرار المواجهات العنيفة بين النظام السوري المدعوم بالميليشيات الإيراني والسلاح الجو الروسي، والمجموعات المسلحة المدفوعة من الاستخبارات التركية والتمويل القطري، تسببت في تدمير البنية التحتية للدولة السورية، وبالتالي تفككت ترسانة الاسلحة المكدسة منذ السبعينيات والإكتفاء الذاتي من الزراعة والطاقة الأحفورية، وأدت ذلك إلى تضعيف كافة المؤسسات المركزية للدولة الشمولية لصالح المناطق التي فرضت بحكم ظروف الحرب واقع جغرافي جديد على الأرض، إلى جانب زيادة وتيرة الشرخ الإجتماعي بين المكونات السورية بعد فرزها على أساس طائفي وعرقي. وبذلك حافظت التغطية الأمريكية على بقاء هذا النظام في مستوى محدد دون أن يعود إلى سابق عهده قبل الأزمة، وبنفس السياق أستمرت المعارضة على نحو تقليص وجودها دون القضاء عليها، بالرغم السلبيات الكثيرة التي أرتكبتها المجموعات المعارضة من خلال التصرفات الإرهابية والقتل والخطف والإرهاب الممنهج. 
فيما أسست الولايات المتحدة الأمريكية لوجودها مناطق محددة في شمال وشرق سوريا، ومن ثم أدخلت بعضها في مناقصات مع الطرف التركي لإرضائه نسبياً على حساب الكرد وقوات سوريا الديمقراطية التي هي حليف مهم في محاربة الإرهاب. 

إن الإخفاقات والانتصارات التي تحققت بالنسبة لجميع الأطراف السورية كانت بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية، والعامل الإسرائيلي بهذا الصدد له دور بارز وأساسي لإدارة المسارات، لأن أمنها يعني إتفاق أمريكي روسي للقيام بدور الحماية لها، وروسيا بدورها ترعى المصالح الإسرائيلية بالدرجة الأولى، لهذا الأطراف المعنية مقيدة بهذه العملية، وبنفس الوقت تعمل على استمرار حالة التوازن القائمة بين الأطراف، دون إجراء تغيرات استراتيجية كبيرة في المشهد السوري. 

دور الاتحاد الأوربي اقتصر على التواجد ضمن قوات التحالف لمحاربة الإرهاب، والبحث الأوروبي عن موضع قدم لها داخل التحولات الجارية في الشرق الأوسط أصطدم مع سياسات إدارة دونالد ترامب المتصرعة، والاستحواذ الروسي المميت، والاحتكار التركي المتشبث بالمعارضة، ولم يبقَ أمام الاتحاد، لاسيما فرنسا، تطور وجودها من خلال الطرف الكردي الذي لعب دور بارز في عملية القضاء على منظمة " الداعش "، وألحقت الدول الأوروبية بـ فرنسا بعد أن أغلقت الأبواب السورية من قبل الأمريكيين والروس والأتراك أمامهم، فكانت المواقف الأوروبية تتضمن مستويين، الدخول في منازعة مباشرة مع تركيا، والرفض الناعم لسياسات تركيا، وفي كلا الحالتين تبلور الموقف الأوروبي الرافض لتحجيم دورها في الشرق الأوسط، لأن اعتكاف المسارات الحقت بالدول الأوروبية تضيقاً على مصالحهاً الاستراتيجية، في ظل الصراع الأمريكي من أجل مصالحها الاستراتيجية، والتمدد الروسي بفعل تركي على حساب مستقبل المصالح الأوروبية. 

إن بقاء النظام السوري هو هدف إسرائيلي بالدرجة الأولى، لأن البديل عنه سيكون مجرد أدوات متطرفة بيد النظام التركي، وقد تشكل تهديداً على مصالح إسرائيل في ظروف ما، بالرغم من أن تركيا تدرك هذا التوزان، وتعمل على حماية إسرائيل وأمنها الاستراتيجي، لما لها تأثير على جميع الأحداث في الشرق الأوسط، وتصرفات الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في سوريا، وعلاقات تركيا مع إسرائيل عميقة جداً، ويكاد الاقتصاد الإسرائيلي في نمو مستمر بفضل التجارة المتبادلة مع تركيا، والكثير من التصرفات والسلوكيات التي تبديها تركيا حيال عدة قضايا، نابعة من الموافقة الإسرائيلية، وبنفس الوقت تنتج هناك بعض ردات فعل بين الطرفين على مصالح محددة، وأن كان النظام التركي يسير على تطبيق المخططات الإسرائيلية الخاصة، وتدرك تركيا عمق المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية، وتكاد تكون المساهم الأول في تضعيف الدول العربية وتهيئة كافة الظروف داخل هذه الدول لصالح إسرائيل، لهذا كانت إسرائيل باستمرار تنفذ الضربات الجوية ضد النظام السوري وتضعيفه لصالح الأتراك وأجنداتها من المجموعات المسلحة السورية، بالإضافة إلى تهيئة الأجواء لتركيا في تنفيذ مخططاتها داخل الشمال السوري، ولا نستغرب أبداً من التدخل الإسرائيلي الدائم في تخفيف الضغط الأمريكي على تركيا. 

لابدّ أن فهم وجود تحركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط هي الأكثر تواصلاً مع إسرائيل، والنظام التركي الإسلاماوي لا يتجزأ عن هذه التركيبة الجيوسياسية، وتكاد أن تكون آلية ضمان إسرائيلية في إدارة الكثير من الأحداث، ولكن تطورت هذه الحركات وهناك ظهور محتمل لحالات انفرادية متطرفة قد تشكل عملياً بعض التهديدات على أمن إسرائيل، لهذا فإن توجيه الجماعات المتطرفة نحو العبث في المنطقة العربية هو هدف تركي برعاية إسرائيلية، لأن الصراع من أجل السيطرة على المنطقة في شقه السني – السني يتم إدارته بين القيادة العربية والتركية، بينما الهدف الإسرائيلي يكمن في تشرذم المنطقة على نحو تضعيفها، وهو يضمن لها ان تكون سيدة المنطقة، وهو ما تخشاها من أي تمدد للأتراك نحو المنطقة العربية بشكل واسع، وكذلك أي تمدد فارسي نحو المنطقة العربية بشكل أعمق، بل الخيار الإسرائيلي الحالي والقادم سيركز على تقارب عربي سني مع إسرائيلي، وبوادر لتأسيس تحالف إستراتيجي مقابل إعطاء دور رعاية الإرهاب للأتراك من أجل زعزعة استقرار المنطقة، والنموذج الليبي وعملية تقسيمها ودعم المتطرفين في جزء منها، إلى جانب دعم جماعات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، ودفع قطر إلى زعزعة أمن واستقرار الخليج العربي، ويقابل ذلك إعطاء دور رعاية التهديدات للدول العربية إلى النظام الإيراني، الذي يوفر باستمرار تقارب عربي سني من إسرائيل، وهي عملية دراماتيكية تدار من قبل الاستخبارات الإسرائيلية – الأمريكية.

المعضلة الكردية في سوريا

تُفهم القضية الكردية في سوريا خلال محورين، طرح القضية ضمن الحل السوري الشامل أي إرفاقها مع جميع المسائل العالقة التي تحتاج إلى حلول ضمن إطار دستور جديد، أو بتفاهمات على شكل نتائج لحوار بين الطرفين الكردي والنظام السوري، وبالتالي يكون بمواد فوق دستورية، وذلك أيضاً ضمن إطار وحدة الأراضي السورية وبناءً على نظام لامركزي – يعطي صلاحيات الفدرالية أو الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية التي تقف بين الإدارة المحلية والذاتية، ويتفق حول الخيار الأول الكثير من الشرائح السياسية السورية لاسيما المعارض والنظام، بمستويات متفاوتة، البعض يرى بمنظور أن القضية هي مسألة وطنية بامتياز، وحلها تكمن في تطبيق النظام الديمقراطي في سوريا، بينما يجد غالبية الحركة السياسية الكردية والقوى المتحالفة معهم أن الحل يكمن في إدارة كل منطقة جغرافية ذاتها ضمن الحدود الوطنية لسوريا، على أن تكون لها صلاحيات واسعة، وهذه الرؤية طرحتها الإدارة الذاتية الديمقراطية " المشتركة" في الشمال السوري" وهو صرح سياسي واجتماعي يضم عشرات الأحزاب الكردية والعربية والسريانية ".

ينظر النظام السوري إلى القضية الكردية على أنها مسألة حقوق مدنية وثقافية، بينما تتفق المعارضة السورية مع النظام في النظر إلى القضية من باب مجموعة حقوق بسيطة يتم النظر فيه بعد الانتهاء من النظام، واتفق الطرفين على الرفض الكامل لأي إدارة أو حكم ذاتي أو فدرالية للكرد في سوريا، علاوة على ذلك كان خطاب النظام في الكثير من المناسبات كان أفضل من أداء المعارضة التي تحولت إلى لسان حال الخطاب التركي حيال القضية الكردية، ومن المفارقات أن دوافع الخصمين " النظام السوري – والمعارضة التي تغلبت عليها حركة إخوان المسلمين " متفقين حول التعامل مع القضية الكردية من بوابة الرفض لأي حق سياسي إداري، وهو بطبيعة الحال نتاج لمرجعيات إيدولوجية التي تغلبت على تفكير الطرفين الذين خرجا من بوتقة الحزب البعث القوموي، وتسبب في اضطهاد الكرد طيلة ستة عقود، بينما يتفق الأتراك والنظام السوري على أن مسألة منع ظهور أي وضع كردي خاص في شمال سوريا يكون مشابه لما تم في شمال العراق " إقليم كردستان العراق "، لهذا فأن المعارضة السورية بما أنها رهن التحكم الاستخباراتي التركي، بالإضافة إلى خلفياتها الأيديولوجية المتصلة بالفكر البعثي وحركة الإخوان المسلمين المعادية للقضية الكردية، فأنها تقود رأس الحربة ضد الوجود الكردي، وتكرارهم لمسألة محاربتهم للإدارة الذاتية من أجل منع حكم ذاتي كردي كان واضحاً حجم الغّل الذي يحملونه تجاه الكرد، مقابل امتلاك النظام لنفس المشاعر حيال القضية الكردية، وطروحات النظام السوري لحلحلة هذه المعضلة تركزت على منح حقوق ضمن إطار ضيق لا يتعدى الحقوق المدنية والثقافية المقيدة وفق الإدارة المحلية الموسعة.

بينما طرح الكرد من خلال الإدارة الذاتية الديمقراطية وكذلك قوات سوريا الديمقراطية حلاً رسمياً للقضية الكردية، بناءً على الواقع الموجود على الأرض، بحيث تكون هناك خصوصية للإدارة الذاتية ضمن صلاحيات ومواد دستورية توافق عليها الإدارة والنظام، وبنفس الوقت تكون القوات العسكرية " قوات سوريا الديمقراطية " جزء من الجيش السوري على أن يكون عمله وخصوصيته كجزء من خصوصية الإدارة الذاتية، وبما أن النظام السوري تعامل في بداية الأمر مع هذا الطرح بالرفض، تنافست المعارضة مع النظام في رفض أي وضع كردي في شمال سوريا، بل تحولت إلى أدوات حربية للنظامين السوري والتركي لاحتلال 60% من المنطقة الكردية في الشمال السوري.

الفهم الأمريكي - الروسي للتطورات الكردية في سوريا

القيمة الكردية ظهرت عندما حاربت القوات الكردية بشكل جدي منظمة داعش المتطرفة، في الوقت الذي تحالفت فيها معظم المجموعات المعارضة بشقيها السياسي والمسلح مع الجماعات المتطرفة، والدافع التركي لذلك هو أسلمة المعارضة المعتدلة لغاية دمج المجموعات المتطرفة بينها، وقد نجحت تركيا في ذلك مقابل التراجع الأمريكي عن تدريب وتسليح المعارضة، وآخر محاولة أمريكية في تدريب هذه المجموعات باءت بالفشل نتيجة لانضمام العناصر التي دربتها أمريكا إلى الجماعات المتطرفة مع بداية الهجوم الذي شنته منظمتي داعش وجبهة النصرة على شمال وشرق حلب أواسط 2014، والبرنامج التدريبي الذي نفذته القوات الأمريكية لتدريب المعارضة السورية بمعرفة ورعاية تركية أُخفقت تماماً نتيجة للتوجهات التركية في أدجلة المعارضة ودمجها مع المتطرفين. إذ أن الأمريكيين حاولوا الدخول عسكرياً في سوريا من خلال المجموعات المعارضة قبل اللجوء إلى وحدات حماية الشعب الكردية، وكان ذلك دافعاً منطقياً بالنسبة للأمريكيين في اللجوء إلى الكرد في الوقت الذي تعرضت فيها المنطقة الكردية إلى هجوم ساحق أواسط خريف 2014 حيث كادت أن تحتل تركيا من خلال آلية منظمة داعش إقليم كوباني بعد الاستيلاء على كامل محافظة الرقة وصولاً إلى منطقة تل أبيض الحدودية، وشرق حلب ومنبج إلى الحدود التركية من ناحية جرابلس والباب، حيث ترعرعت هذه المنظمة بشكل واسع برعاية الاستخبارات التركية وشملت ذلك إجراء علاقات تجارية بين الطرفين، وفتح العمق التركي لعناصر ومسؤولي هذه الجماعة في جعل المدن التركية الحدودية مقرات لاستراحة عناصرها، وممر ترانزيت لنقل المتطوعين من المطارات التركية إلى سوريا، بالإضافة إلى المشافي التي عالجت جرحى داعش، إلى جانب صفقات النفط والآثار التي تم نقلها إلى تركيا بشكل منظم، ولأكثر من عامين كانت تركيا تستفيد من هذه الجماعة ولا تجد فيها تهديداً على أمنها.

كادت هذه المنظمة أواسط الشهر التاسع من عام 2014 تسيطر بشكل كامل على إقليم كوباني وأجزاء حيوية من المنطقة الكردية في سوريا، ولولا التدخل الأمريكي وتقديم الدعم الجوي والمعدات العسكرية إلى وحدات حماية الشعب الكردية لسيطرت هذه المنظمة وبرعاية تركية على معظم الشريط الحدودي.

يمكن تفسير الأحداث بهذا الشكل المنطقي، أنقذت القوات الأمريكية الكرد من براثن داعش والمخططات التركية، وقدمت لهم المساعدة المطلوبة، وبالتالي إنهاء الهيمنة التركية على كامل الشمال السوري، لأن سيطرة داعش كانت تعني عملياً الاحتلال التركي، وفي الحقيقة لم تكن هناك خيارات كثيرة أمام الكرد في سوريا سوى الاستعانة بالقوات الدولية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية في وقف مد دولة " داعش "، إذ أن تدخل القوات الجوية الأمريكية وشن عمليات جوية عنيفة على مواقع داعش، وإنزال أسلحة وذخائر لوحدات حماية الشعب، وكذلك سهلت عملية وصول البيشمركة من إقليم كردستان العراق إلى كوباني، هذه التطورات ساهمت بشكل مباشر في تحول وحدات حماية الشعب من منطق الدفاع إلى خطوط الهجوم المباشر، التغطية الجوية التي وفرها التحالف الدولي حولت الوحدات الكردية إلى الهجوم على مواقع داعش في مناطق حساسة، إلى أن تحررت كامل منطقة منبج وعاصمة داعش "مدينة الرقة" والطبقة وريفها، وتحرير السدود المائية والمنشآت الزراعية والنفطية إلى تطهير المنطقة الكردية الواصلة بين إقليمي الجزيرة وكوباني، وصولاً إلى غرب وجنوب الحسكة، حتى أن تم القضاء على قوة داعش الفعلية ومناطق سيطرته على الأرض بالمواقع النفطية والغاز في شمال دير الزور، وجاء النصر الأعظم في بلدة باغوز، لتبدأ معها عمليات ملاحقة قيادات داعش إلى أن تبين لجوء معظمهم إلى تركيا أو المناطق الحدودية التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة.

الدور الذي لعبته استخبارات قوات سوريا الديمقراطية في ملاحقة قيادات الداعش ساهمت بشكل أساسي في مقتل زعيم المنظمة ونائبه والعشرات من مسؤولي داعش بقرب الحدود التركية في إعزاز وجرابلس، حيث السيطرة التركية وقواعدها العسكرية، وكذلك الكشف عن وجود المئات من عناصر داعش الذين انضموا لمجموعات المعارضة السورية بمعرفة ودعم النظام التركي، وشوهد الكثير منهم في معارك تل أبيض ورأس العين وكذلك بين المجموعات المتطرفة التي تسيطر على إقليم عفرين بدعم تركي.
وقد ساهمت العلاقة التي نشأت بين الولايات المتحدة الأمريكية والكرد إنتاج تفاهم قوي في رسم سياسات جديدة يستفيد منها كل طرف بطريقته، وطبعاً لم يكن يحصل ذلك بمعزل عن الوجود الفرنسي ودوره وتأثيره على مجريات الأحداث في المنطقة الكردية وعموم شمال شرق سوريا، حيث تطور مفهوم الإدارة إلى مستويات أكبر بالتزامن مع زيادة وتيرة التقارب الكردي مع التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، كما أن تطور العلاقة بين مكونات المنطقة الكردية والشمال والشرق السوري الذي أنتج في وقت مبكر عن تأسيس قوات سوريا الديمقراطية من أبناء المنطقة، وكانت تلك مساهمة حقيقية في زيادة الثقة بين التحالف الدولي والجانب العسكري في الإدارة الذاتية، وخلال سنوات 2015 إلى سبتمبر 2019 تكونت نمط مستقر لهذه العلاقة، لدرجة دفع الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين قوات سوريا الديمقراطية نحو تمكين بنيتها العسكرية وتنظيمها.

مع كل مرحلة تطورت فيها هذه الشركة تكون مزيداً من الهواجس لدى الطرف التركي، إلى أن خيّرَ النظام التركي الأمريكيين بينهم وكرد سوريا، لقد وضعت تركيا جميع إمكانياتها وعلاقاتها التاريخية مع الأمريكيين والاتحاد الأوروبي في إطار الضغط عليهما من أجل التخلي عن الكرد وقوات سوريا الديمقراطية، لدرجة تعميق أواصر العلاقة مع الروس على حساب حلفائها في تحالف الناتو، وكلما رفض الأمريكيين والأوروبيين الانصياع للمطالب التركية أقدمت تركيا على تعميق علاقاتها مع الروس، وتوقيع صفقات الأسلحة التي زادت من تعميق الخلافات مع الأمريكيين والأوروبيين، وبالتالي الدخول في صراع مرير داخل حلف الناتو.

لم يكن سهلاً على الأمريكيين التخلي عن أهم حليف وفر لهم الإمكانيات في سوريا، إلا أن الإستراتيجية الروسية لعبت دوراً محورياً في استمالة الطرف التركي من خلال فتح المجال للجيش التركي في غزو إقليم عفرين، وبذلك تجاوت روسيا مع المخاوف التركية في محاربة الكرد، فيما الوعود الأمريكية بوقف الدعم لقوات سوريا الديمقراطية لم تتحقق، بل أن تدفق السلاح الأمريكي إلى المنطقة الكردية وشمال شرقي سوريا زادت من الهواجس التركية، وكان ذلك سبباً في تقسم الرأي العام الأمريكي بين الكونغرس والجيش الداعم للكرد، وإدارة ترامب التي استمالت إلى الأهداف التركية بشكل جزئي، وكان ذلك سبباً رئيسياً لسحب القوات الأمريكية من الحدود، والاتفاق مع الأتراك في غزو مناطق محددة بين رأس العين وتل أبيض بعمق 30 كلم، وبنفس الوقت حاول الأمريكيين الإيقاع بين الأتراك والروس، لأن الروس سارعوا إلى التدخل في المناطق الحدودية بالاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية، وانتشرت القوات النظامية في المناطق الحدودية مع تركيا، ليصبح التحرك التركي والنظام السوري وبغض النظر الروسي نحو الضغط على قوات سوريا الديمقراطية في التوجه إلى النظام السوري، بالرغم من أن الاتفاقيات الضمنية تعطي المجال للأتراك في احتلال المنطقة المحددة، ولكن الروس استغلوا هذه التحولات وثبتوا حضورهم وقواعدهم في مناطق شاسعة في المنطقة الكردية وشمال شرق سوريا، ومن الطبيعي أن يحاول الروس التقرب من الكرد في عملية بناء الثقة، في وضع مشابه لعلاقة الروس مع النظام السوري، إلا أن التحرك الروسي سوف يكون ضمن عملية إرضاء النظام وتثبيت حضوره في المنطقة الكردية مقابل إرضاء الكرد في إجراء حوارات وتفاهمات بين الأطراف، إذ أن الروس على ثقة تامة في مسألة عدم التخلي الأمريكي عن هذه المنطقة والكرد وقوات سوريا الديمقراطية، لهذا سيكون التعامل الروسي والنظام السوري مع الكرد بشكل يضمن تفاهماً غير صدامياً، وربما يرضي الطرفين بشكل جزئي.

فشل المحاولات الأمريكية لإرضاء الأتراك 

المحاولات الأمريكية ومناوراتهم في إرضاء الكرد والأتراك في آنٍ واحد باءت بالفشل أمام المخططات الروسية الرامية إلى تقليص الوجود الأمريكي في سوريا، ومسألة الجمع بين حليفين متصارعين في الحالة الكردية التركية غير ممكن بعد تحقيق الروس للأهداف التركية مقابل رفض أمريكي، ومسألة التضحية بالأتراك وتمكين الروس من اختراق عزلتها الدولية وكسر جدار حلف الناتو حول الاتحاد الروسي أمر غير وارد في السياسة الخارجية الأمريكية، وكذلك التخلي عن الكرد في سوريا أمر خطير للغاية وتهدد سمعة الولايات المتحدة وحلفائها، وقد يفتح المجال أمام الروس للمناورة أكثر حول العراق والخليج العربي في ظل التوكل الإيراني وحلفائها أذرعتها في الشرق الأوسط على الدور الروسي، لذا فأن المساحة الأمريكية محددة الآن في الشرق الأوسط، ومصالحها مهددة أيضاً إذا تخلت عن البطاقة الكردية، وهو ما يتطلب مناورة جديدة قد تنجح أو تفشل في تحييد الأتراك عن العلاقة مع الروس، ولكن مقابل ذلك يجب عليها تقديم بعض الضمانات والصفقات للطرف التركي، والصفقة المربحة الوحيدة بالنسبة الجانب التركي هو تحجيم دور الكرد في شمال سوريا، وهذا غير ممكن بالشكل الذي يتمناه الأتراك في ظل ظروف والمصالح الأمريكية التي تتعرض للأزمات في الشرق الأوسط، وخسارة الشمال السوري يفتح المجال أمام المصالح الإيرانية للترعرع من جديد، وسيناريو العراق بعد تحريرها من نظام صدام حسين خير مثال على الاستفادة الإيرانية من التصرفات الأمريكية غير عقلانية، وذلك يشكل أيضاً خطراً حقيقياً على جميع الأطراف ومنها الخليج العربي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية والأوروبيين، ويعتبر خللاً كبيراً في التوازن للصراع السني - الشيعي الذي يحتاجه الدول الكبرى في عملية إلهاء الطرفين ببعضهم حتى تكون إسرائيل في أمان، بالإضافة إلى الطاقة الأحفورية التي يستحوذ عليها الأمريكيين في الشرق الوسط، وكذلك تصدير الأسلحة إلى دول الشرق الأوسط والتي تقود صراعاً مع التمدد الإيراني، وكل ذلك يوفر ويعيد للخزانة المالية الأمريكية والغربية مليارات الدولارات. إذاً مسألة تصور فتح المجال للأتراك في استحلال كل شيء أمر غير منطقي وفق القراءة الموضوعية للأحداث، لهذا فأن المسار الممكن تحقيقه هو بناء خلل داخل تركيا حتى تخفف من تصرفاتها السلبية تجاه المنطقة، وكذلك تغيير سلوكيات الإدارة الأمريكية لتعامل مع الحلفاء في الشرق الأوسط والكرد في سوريا، وهذا قد يضمن بعضاً من الهدوء وتقارب وجهات النظر. 

التحولات الاستراتيجية في المنطقة الكردية 

ركز النظام السوري خلال عقود على بناء الاشكاليات الثقافية بين المكونات السورية، وبسبب غيابه طيلة 8 سنوات عن المنطقة الكردية وشمال شرقي سوريا فتح المجال أمام المشروع الذي تبنته الإدارة الذاتية في التقارب والتفاهم بين المكونات على مبدأ العيش المشترك، وقد نجح الكرد في التطبيق الجزئي لهذا المشروع، وفتح آفاق التفاهم بين المكونات الأخرى وهو ما زاد مت حظوظها في توسعة التفاهمات بين الكرد والمكون العربي، وبالتالي توحدت المنطقة الكردية مع المنطقة العربية إلى جانب المكونات الصغيرة الأخرى التي تعيش في هذه المنطقة كالسريان وغيرهم، وقد أقامت الإدارة الذاتية مشروعاً سورياً مصغراً وجديداً وفق عقد اجتماعي جديد بين مكونات المنطقة، وفي الحقيقة أن وجود مشروع بهذا النموذج يشكل خطراً على التكوينة الأيديولوجية للنظام السوري، وكذلك المعارضة المتأسلمة، لهذا ركز خطاب النظام السوري على إطلاق تسمية الكرد على هيكل الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، لأن الترويج لذلك سهل التقرب من القبائل العربية المتحالفة مع الكرد في الرقة ودير الزور ومنبج، ومقابل نجاح الإدارة الذاتية في استمالة شرائح عديدة من الشارع العربي في المنطقة، وظف النظام أجنداته البعثية وبعض الشرائح داخل القبائل العربية في إجراء التقسيم داخل المجتمع العربي في هذه المنطقة، وحاول من خلال طرح فكرة الحوار مع الكرد لوحدهم أيضاً حافظاً لدى تلك الشريحة في أن تعمق تقسيمها داخل المنطقة، وبالتأكيد هذه المعضلة تنذر بخطر محدق في المستقبل إذا لم يعيد النظام النظر في سياساته العدائية للكرد. 

وهدف النظام كان الاستفراد بالكرد وحدهم سواء من خلال الحوار معهم ضمن أطر محددة أو إجهاض تنظيمهم، إلا أن الظروف الدولية لم تسمح بذلك، ولم تكن هناك رغبة دولية في إعادة تكرار النظام كاملاً بالشكل الذي كان عليه قبل 2011، لذا التراجع الأمريكي والانتشار في بعض مناطق شرقي نهر الفرات تسبب في وقف مخططات النظام السوري، وبنفس الوقت أدخلت المنطقة في صراع كبير بين القوى الدولية والإقليمية، "حيث الحضور الأمريكي والروسي والتركي والإيراني والنظام والجماعات المتطرفة المدعومة من الاستخبارات التركية" في هذه المنطقة شكل ما يشبه قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة، لا يستطيع النظام فتح جبهة كبرى للقضاء على الإدارة الذاتية، ولا تستطيع تركيا احتلال كامل المنطقة الكردية أو الشريط الحدودي، وروسيا بدورها تفهمت الدور الأمريكي الذي لن ينتهي في هذه المنطقة بقرارات من إدارة معينة، بينما الجميع متفق على تحجيم الدور الإيراني، إذاً في ظل هذه المعمعة الجميع عمل من أجل الحفاظ على نفوذه، إلا أن الدور الأمريكي – الروسي قد يضمن للكرد بعض الصلاحيات ودور مستقبلي في سوريا، وقد تزداد مع التحولات السياسية الجديدة داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، وروسيا ستحاول التقرب من الكرد دون السماح للنظام باجتياح المنطقة، لأن حجم العتاد والقوة التي تتمتع بها قوات سوريا الديمقراطية لا يستهان بها مقارنة مع امكانيات النظام السوري، وإن الخسائر والأزمات الاقتصادية التي تعصف بالنظام تحتاج إلى سنوات طويلة للنهوض بها، لاسيما وأن الرغبة الأمريكية في إجراء تحولات استراتيجية لسياساتها أيضاً ضمنت بعض الحوافظ والقوة للإدارة الذاتية. 

يفهم من حركة الانسحابات الأمريكية النسبية من بعض المواقع في الشريط الحدودي خلال 2019 أدخلت الروس في عملية التفاهم مع الأتراك وإبعاد شبح الاحتلال التركي الشامل للمنطقة الكردية، والدور الذي لعبته روسيا في هذه المسألة ضمنت لها وجوداً قوياً في هذه المنطقة، بينما كان محرماً عليها سابقاً، فالعملية بمجملها أنتجت ظروف جديدة، بعضها مفيدة لصالح الإدارة الذاتية، والبعض الآخر يشكل خطراً على مستقبل هذه المنطقة. 

سوف تختار أمريكا في المحصلة تمكين مصالحها في الشرق الأوسط من البوابة السورية على حساب جميع الأطراف، وتحقيق ذلك لا يتم إلا من خلال الأطراف الرئيسية في الحدث السوري، وقد كان ذلك دافعاً حقيقياً حينما نسقت مع الكرد، وتكلفت بأموال طائلة في محاربة داعش، وهذا يعني لا يمكن ببساطة أن تتخلى عن هذه الساحة التي تخصها قبل الأخرين، لاسيما وأن تهديدات الإرهاب تتنامى كل فترة دون القضاء الكامل عليه، كما إن فتح المجال للفراغ دون وجود قوات عسكرية سوف يتسبب بمزيد من الفوضى واشكاليات كبيرة، وبالتالي سوف يستغل الروس وحلفائه المعاديين لحلفاء أمريكا هذه الظروف ويزيدوا هيمتهم التوسعية على حساب الدول الحليفة للولايات المتحدة وأوربا، وفي مقدمتها الدول العربية السنية التي تعاني من التمدد الإيراني، هذه الدول التي دفعت الأموال الطائلة للأمريكيين من أجل المساعدة في تحجيم الدور الإيراني وحلفائها المحليين في عدة دول، وكذا إسرائيل التي تخشى هذا التمدد، وإن كانت إيران تقدم خدمات استراتيجية لإسرائيل حول دفع الخليج العربي إلى التحالف مع إسرائيل إلا أن التمدد الإيراني وقيادتها لمجموعات مسلحة خطيرة حول إسرائيل تشكل خطراً على المدى البعيد. 

هذه الظروف الدولية والإقليمية والمحلية تشكل حافظاً كبيراً لإتخاذ سياسات أمريكية جديدة في سوريا، وهي ستكون بطبيعة الحال بوابة لرسم خطط مناسبة بشكل أفضل في الشرق الأوسط، ولعل الحديث حول إقامة حلف عسكري بين الدول الحليفة لأمريكا بمعزل عن تركيا وإيران وروسيا والنظام السوري قد يكون بديلاً لوجود حلف الناتو في الشرق الأوسط، ويكون مانعاً لأية سياسات مناهضة للولايات المتحدة، وحامياً لمصالحها ومصالح الدول الحليفة لها، والتخلي الأمريكي عن سوريا لاسيما حلفائها المحليين " الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية والكرد " لصالح التمدد الإيراني أو الاحتلال التركي سوف يشكل لدى الدول الحليفة لها انعداماً للثقة بها، وهو ما يؤكد لنا أن الانسحاب لن يحصل بالشكل الذي تتمناه تركيا، وهذا يعني التغيير في الموقف الأمريكي سوف يجلب مزيداً من القوات والدعم لقوات سوريا الديمقراطية، وبالشكال الذي يضمن الاستقرار. 

ستشهد سوريا تطورات جديدة، وقد تكون ضمنها هدوء برعاية أمريكية روسية، ودور روسيا محور في رسم خريطة سياسية جديدة بين الأطراف، لِمّا لها تأثير وكلمة الفصل في الأزمة السورية.


من كتاب " مسارات الأزمة السورية "
المؤلف: إبراهيم كابان
جهة النشر الإلكتروني : شبكة الجيوستراتيجي للدراسات و دار المعرفيين الأحرار.



إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!