تحليل سياسي لــ: إبراهيم كابان
خاص: شبكة الجيوستراتيجي للدراسات
لم يتوانى النظام التركي منذ 2015 مع التدخل العسكري الأمريكي لدعم القوات الكردية في شمال وشرق سوريا في محاربة الداعش، عن توجيه دفة سياساته ودبلوماسيه وأدواته بإتجاه إقناع الإدارة الأمريكية السابقة " إدارة ترامب " في التراجع عن دعم القوات الكردية، وإن كانت إدارة ترامب نفذت إنسحاباً جزئياً بتاريخ 7 أكتوبر 2019، ونجم عن ذلك احتلالاً تركياً ومجموعاته السورية المسلحة لبلدات سري كانيه/ رأس العين، وتل ابيض، إلا أن إدارة ترامب تراجعت عن هذا القرار تحت ضغوطات وأنتقادات شرائح سياسية لا بأس بها في الكونغرس ومجلس النواب، والمؤسسة العسكرية، وكانت لها وطأتها على مستقل السياسي للحزب الجمهوري الذي لاحقاً خسر الانتخابات لأسباب تتعلق بسياسات تهور والتصرع والأستخفاف مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، والذي نجم عن تراجع هيبة الولايات المتحدة وقدرتها على السيطرة في مجريات السياسة الخارجية. وبالتالي كادت أن تفقد مصداقيتها.
ظلت تركيا تحاول مراراً بإتجاه إقناع الأمريكيين بالتراجع عن دعم قوات سوريا الديمقراطية، وقدمت مقابل ذلك الكثير من التنازلات والمصالح، إلا أن الانتخابات الرئاسة الأمريكية تسببت في فشل الأتراك من إحراز أي تقدم بهذا الصدد، بل طرفي الصراع السياسي داخل الولايات المتحدة لم يدخلوا في مغامرة جديدة للسماح بإجراء هحكذا عملية مجدداً ضد قوات سوريا الديمقارطية، لأن المزاج السياسي العام تطلب التعامل مع الملفات الخارجية بحساسية وإتقان.
مقابل هذه العملية الأمريكية أدرك الأتراك مدى حساسية الإقدام على أي عمل عسكري في المنطقة الكردية بسوريا دون الموافقة الأمريكية - الروسية، وإن كانت قد نجح نظام أردوغان إجراء مناقصات مع الروس في عملية تسليم المناطق الداخلية السورية للنظام والإيرانيين مقابل تجميع المسلحين المعارضة في الشمال السوري بغية محاربة الكرد، إلا أن ذلك أظهر تواطئاً تركياً حقيقياً في ملف التغيير الديمغرافي بحق العرب السنة، إذ أن تهجير العرب من المناطق الداخلية " حلب - حمص - درعا- معظم الريف الدمشقي " لصالح عمليات التشيع التي نفذها حزب الله والإيرانيين. تبينت هذه العملية خطورة التلاعب التركي في تدمير الواقع العربي السني، والشعارات التي أطلقه رأس النظام التركي حول الخطوط الحمراء وغيرها، إنما كانت لغايات دعائية، وعملية التهجير التي تمت للعرب السنة إلى المنطقة الكردية، وجزء منهم إلى أداة للضغط على الاتحاد الأوروبي تحت يافطة اللاجئين السوريين، إنما كان مخططاً من قبل النظام التركي. والغاية هي توطين العرب السنة في المنطقة الكردية، وتهجير الكرد منها، كما حصل في عفرين ورأس العين/ سري كانيه، وتل ابيض، وتوجيه دفة سلاح المعارضة إلى محاربة الكرد دون النظام، مقابل تسليم المناطق المتبقية بالتقادم إلى النظام السوري والمجموعات الإيرانية.
الأتراك ومصير سياسة قبض العصا من الوسط
لا يثق الروس بالأتراك مهما كانت طبيعة العلاقات والتفاهمات الأخيرة، لأن ماضي النظام التركي يوحي بتطلعاتها الأوروبية - الأمريكية، وعقود طويلة في القيام بشرطي الحدود لحلف الناتو ضد التوسع الروسي عربياً، ولأن عمق ضلوع الأتراك في العلاقة مع الغرب تمنع بطبيعتها التوجه كاملاً إلى الروس، فإن العلاقات الروسية - التركية لا يمكن لها أن تكون إستراتيجية، وإن تطورت في عهد نظام أردوغان والحركة القومية، إلا أن مصير هذه العلاقة ضمن حدود معينة لا يمكن لها أن تتطور أكثر.
عملية طوق النجاة
تركيا ستعرض على الأمريكيين من خلال لوبيها في واشنطن صفقات سلاح قد تتجاوز عشرات الطائرات المستحدثة من أف16 وبعض المعدات الأخرى، بالاضافة إلى التنازل عن بعض المصالح الاقتصادية في بعض المواقع المهمة لصالح الشركات الأمريكية التي تتبع للدولة، وعدم الأنسياق في علاقات مع روسيا لدرجة الضرر بالخدمات التي تحرس على تمكينها لصالح القوى الغربية من خلال حلف الناتو، وبقاء تركيا في الدائرة الغربية من بوابة حلف الناتو حتى اللحظة لا يمكن الإفراط به، فالأتراك لا يثقون مطلقاً بأية علاقات شاملة مع روسيا، لأن التركيبة السياسية التركية أقرب إلى القوى الغربية من روسيا، وخدمات الانظمة التركية في القيام بدور الشرطي لحالف الناتو لا يمكن تدميره من قبل النظام التركي الحالي، لا القوى السياسية التركية تقبل بذلك، وحتى طبيعة الارتباطات المصالحية في الشرق الأوسط تتناغم مع ذلك، وإن كانت تركيا تطرح نفسها صاحبة مشروع وإمكانيات، فالهزات الاقتصادية التي قد تطرأ على تركيا لن تكون طبيعية، في ظل تدهور الليرة التركية، وحالة التدني في شعبية النظام التركي " الإسلام السياسي والحركة القوموية "، وتصاعد المعارضة الديمقراطية المتمثلة بالكرد والأتراك هي الأقرب إلى القوى الغربية من روسيا.
يسعى النظام التركي إقناع الإدارة الأمريكية بكافة الوسائل في النزوح عن أي دعم للكرد وقوات سوريا الديمقراطية في سوريا، وإن الفعل التركي الاقتصادي هدفه هو دغدغة مشاعر المؤسسات والشخصيات التي تواجه سياسات بايدن الساعية إلى بقاء القوات الأمريكي في شمال وشرق سوريا، وبالتالي إن مثل هذه المناقصات الاقتصادية التي لها طابع عسكري ستدفع بالمصانع وبعض تلك المؤسسات إلى الضغط بإتجاه عودة العلاقات مع تركيا بالشكل الذي يرضاه النظام التركي، على الأقل إجراء تراجع فعلي من دعم قوات سوريا الديمقراطية، وتقليص دورها في سوريا لحساب حلفاء أنقرة من المجموعات المرتزقة السورية المحلية.
الإصرار التركي على تغير وجهة نظر الأمريكية
إن بقاء جندي أو دبلوماسي أمريكي واحد في منطقة الادارة الذاتية كفيل بعدم إقدام النظام التركي على فتح جبهات جديدة ضد قوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري، وبالتالي إن الحضور الأمريكي في فض أي مواجهات يساعد على ترعرع نفوذ قوات سوريا الديمقراطية مقابل إفشال أي تدخل تركي عسكري لتدمير الادارة الذاتية.
هذه العملية قد أجلت المشارع التركية الرامية إلى إحتلال مناطق الادارة الذاتية على غرار الغزو الذي نفذه في مناطق عفرين وقباسيين غربي نهر الفرات، وسري كانيه/ رأس العين- وكري سبي/ تل أبيض، شرقي نهر الفرات. مقابل تطور العلاقات بين قوات سوريا الديمقراطية والأمريكيين ليشمل الجوانب الأمنية والتنموية، وهذا يعني إن الخيار الأمريكي لم يكن بمستوى الأطماع التركية، وإن اللوبي التركي النشط في الولايات المتحدة الأمريكية أصطدم بلوبي أمريكي يدعم خيار دعم قوات سوريا الديمقراطية. ونفهم من هذه التطورات الناتجة عن الفهم الأمريكي في ظل إدارة الرئيس جو بايدن لم تفتح المجال للأتراك في تمكين نفوذهم في الخيارات الأمريكية، أي بمعنى السيناريو الذي يتمناه النظام التركي تطلب منها اللعب على عدة مجالات، ومنها الاقتصادية والمشتريات الاسلحة، على الأقل تخفيف الضغط الأمريكي حيال صفقة صواريخ أس 400 التركية مع روسيا، والمنطق يفرز المعطى التالي: قد تكون التحركات التركية إتجاه الادارة الأمريكية أيضاً في سياق التخفيف لحدة الاشكاليات التي نجمت عن التعامل العسكري التركي مع روسيا. وقد تكون هذه الإشكاليات بحد ذاتها دفعت بالادارة الأمريكية إلى ممارسة الضغوطات على النظام التركية، والإتجاه نحو عدم الإصغاء للمطالب التركية في تخفيف دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية.
التوجه المستمر دون كلل
تركيا لن تتوقف في مخططاتها الرامية إلى محاربة قوات سوريا الديمقراطية مهما كان الثمن، لأنها تعتبر مشروع الادارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وتطورها ونجاحها يشكل حالة فريدة قد تؤثر بشكل كبير على المجتمعات المجاورة، لا سيما وإن معظم هذه الدول مركبة من مكونات متعددة، وتعاني إشكاليات كبيرة في ظل الأنظمة القوموية التي تحاول بشتى الوسائل الوقوف أمام أي مشروع ديمقراطي في الشرق الأوسط. والنظام التركي القوموي قد يكون التالي قابل للإنفكاك، لا سيما بعد انفكاك النظام العراقي، ليخلفه نظام فدرالي، والمسار نفسه يجري الآن في سوريا، وبالتالي إن الظروف كافة توحي بإنتقال هذه التطورات خلال المراحل القادمة إلى تركيا، إذا لم تجد تركيا حلولاً حقيقية لأزماتها الداخلية، ومنها القضية الكردية.
حول التهديدات التركية الجديدة لمنطقة الادارة الذاتية
كلما صعد أردوغان خطابه ضد الكرد والادارة الذاتية في شمال وشرق سوريا/ روجافا، وهدد بعمليات عسكرية جديدة على غرار عمليتي درع الفرات ونبع السلام، نفهم إن نظامه يتعرض إلى ضغوطات شديدة على المستوى الداخلي والخارجي، وهذا يعني تعطيل مخططات نظامه الرامية إلى تنفيذ غزو شامل للشمال السوري، ويأتي ذلك ضمن سياق فشله في إقناع الإدارة الأمريكية بمنحه الضوء الأخضر لتنفيذ ذلك، لا سيما هناك إصرار أمريكي على الأستمرار في عدم الإفراط بعلاقاتها مع قوات سوريا الديمقراطية، على الأقل حتى اللحظة.
ويمكن فهم تهديدات أردوغان ضمن معطى داخلي أيضاً، إذ أن تدني مستوى شعبية حزبه وحليفه الحركة القومية، بات يشكل هاجساً لا يمكن تفاديه بالنسبة لرأس النظام، لا سيما وإن تصاعد شعبية المعارضة والحديث حول تقديمها لمشاريع حلول لكافة الازمات الداخلية، ومنها القضية الكردية، قد تمنح ذلك تفوقاً إستراتيجياً على التحالف النظام.
إن المسار الإقتصادي التركي والتراجع الكبير في تأمين الاكفتاء الذاتي ودعم المشاريع والقطاعات والشركات، مقابل توجه النظام إلى تفعيل النزاعات ودعم الجماعات المتطرفة التي تسببت في خلق أزمات إقليمية، إلى جانب التوجه نحو الترويج لبيع المنتوجات العسكرية التركية التي تعيد لجيوب النظام دون الشعب ، وأخلف ذلك أزمات كثيرة مع المحيط العربي والأوروبي، كل هذه الأشكاليات خلقت الكثير من الفروقات والأزمات داخل تركيا، لا سيما وإن تكوين اللصوصية المركبة داخل هيكلية النظام وجهت الفائدة من أية مصالح خارجية للدائرة المحيط بالرئيس التركي، وهذا يشكل دافعاً حقيقياً لتدني مستوى التقاسم والتكافئ بين الشارع والسلطة، وبالتالي لفشل النظام التركي في تحقين الإقتصاد التركي بحلول مؤقتة، وتسبب ذلك بالضرورة في خلق فجوة عميقة لايمكن التغلب عليها في المدى القصير. ناهيك عن الضييق الكبير على الحريات وزج المعارضة في السجون والمعتقلات، ومنع الصحافة الحرة، وتكتيم الناشطين والحقوقيين والمثقفين والطلبة، إلى جانب إغلاق الوسائل الإعلامية الناقدة، ودفع البلاد نحو أسلمة سياسية التي دفعت بدورها إلى ظهور التطرف بأشكالها المتوحشة.
إن عمليات التحقين التي يحاول من خلالها النظام التركي في ترقيع حجم المشاكل الداخلية والازمات الإقليمية والخارجية لن تنفع في ظل الاستمرار بنفس النهج السوداوي الذي يمتهنه أردوغان وكبينته، وبالتالي سيكون مصير هذا النظام التداعي والتلاشي والسقوط في الهاوية.