يكتبها للجيوستراتيجي أ. بوزان كرعو
يشير اجتماع أستانا الأخير إلى منعطف حاسم في العلاقات بين موسكو وأنقرة، والذي تخلله موقفان رئيسيان من روسيا يبدوان بمثابة رسالة سياسية عميقة ودقيقة في آنٍ واحد. تجسدت الرسالة الروسية أولاً برفض أي عملية عسكرية جديدة لتركيا في سوريا، وثانيًا بإعلان استعداد موسكو للتعاون مع واشنطن حول الملف السوري. ومن هنا، يمكن قراءة تلك المواقف كأبعاد استراتيجية لا تقتصر على النزاع السوري وحده، بل تتعداه لتشمل ملفات أخرى، مثل الأزمة الأوكرانية، في محاولة لتشكيل تفاهمات أوسع مع واشنطن.
- رفض العمليات العسكرية التركية: نقلة في مسار التحالفات :
يمثل الرفض الروسي لأي مغامرة عسكرية تركية جديدة في سوريا مؤشرًا واضحًا على تزايد التباينات بين موسكو وأنقرة ، وتحديدًا في ملف إدارة المناطق السورية الشمالية.
ويعكس هذا الموقف قلق موسكو من أن العمليات التركية المتكررة قد تُعقّد مشهد الصراع السوري أكثر، وتضعف من هيمنتها كطرف مهيمن في الملف السوري ، خاصة في المناطق التي باتت ذات أهمية استراتيجية لروسيا. كما يُنظر إلى هذا الرفض كرسالة إلى تركيا حول حدود تأثيرها في سوريا ، وأهمية احترام التوازنات التي حرصت موسكو على بنائها مع القوى المحلية والدولية المعنية.
- التعاون مع واشنطن : تنازلات استراتيجية أم تكتيك تكاملي ؟
أعلنت موسكو استعدادها للتعاون مع واشنطن في الشأن السوري، الأمر الذي قد يبدو مفاجئًا في ظل التوترات بين البلدين في ملفات عدة، من بينها الأزمة الأوكرانية. غير أن هذا الإعلان يُفهم كرسالة مبطنة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نظيره الأميركي ، مفادها أن روسيا قد تكون مستعدة لفتح أبواب التفاوض حول ملفات حساسة تتجاوز الأزمة السورية. ويبدو أن موسكو تعي تمامًا أن تفاهمات مع واشنطن حول سوريا قد تُستخدم كأداة ضغط أو تفاوض فيما يتعلق بالوضع في أوكرانيا، حيث تطمح روسيا إلى تسوية تضمن مصالحها دون تنازلات استراتيجية.
- خريف العلاقات الروسية-التركية : مؤشر على انغلاق مسار أستانا – سوتشي :
مع وصول مسار أستانا – سوتشي إلى انسداد واضح، يبدو أن العلاقات الروسية-التركية تمر بمنعطف جديد، قد يكون أشبه بخريف العلاقة التي شهدت تنسيقًا واسعًا في السنوات الأخيرة. فالمسار الذي شكّل إطارًا للتفاهمات بين روسيا وتركيا وإيران في الملف السوري بدأ يواجه تحديات هيكلية، لا سيما مع تصاعد التناقضات في المصالح، حيث ترى موسكو أن تمادي تركيا في عملياتها العسكرية قد يضعف نفوذها ويفتح الباب لمزيد من التعقيد.
يُعدّ هذا التوتر بين موسكو وأنقرة تحولًا قد يقود إلى تغيير ديناميات التحالفات والتوازنات في المنطقة، ويؤشر إلى مرحلة جديدة من التفاوض والمساومة على النفوذ الإقليمي.
- قراءة ختامية : تجدد التوازنات وتبدل التحالفات :
تُعبر هذه المواقف الروسية عن مرحلة جديدة من لعبة التوازنات والتحالفات في الشرق الأوسط، حيث تبقى المصالح هي الأساس الذي تتشكل حوله العلاقات وتتبدل فيه التحالفات. وبينما تغلق بعض الأبواب بسبب تباين المصالح ، تُفتح أبواب أخرى للتفاوض وإعادة تشكيل القوى، وكأن المنطقة باتت تعيش في ظل صراع يدار بحذر أكبر ورهانات مغايرة.
بهذه الصورة ، يكون موقف موسكو من أنقرة وواشنطن قد أطلق شرارة تغيير خريطة التحالفات الإقليمية ، وفتح المجال أمام تحولات استراتيجية قد تشهدها المرحلة المقبلة.