خبر وتحليل: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
شهدت الساحة السورية تطورًا مفصليًا بعد الإعلان عن اتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو تطور كان يُعدّ مستبعدًا نظرًا للخلافات العميقة بين الطرفين. إذ طالما نظرت دمشق إلى قسد باعتبارها قوة انفصالية مدعومة من الولايات المتحدة، في حين سعت قسد للحفاظ على مكاسبها السياسية والإدارية ضمن مشروع الإدارة الذاتية. ومع ذلك، جاءت هذه التسوية لتعيد رسم الخريطة السياسية والعسكرية في سوريا، خاصة في ظل التدخلات الإقليمية والدولية المعقدة.
في هذا التحليل، سنستعرض الأسباب التي دفعت كل طرف إلى القبول بالاتفاق، بالإضافة إلى دور تركيا والولايات المتحدة في التسريع من عملية التسوية، وصولًا إلى النتائج والتداعيات الاستراتيجية على مستقبل سوريا والمنطقة.
أولًا: لماذا قبلت حكومة دمشق بالتسوية مع قوات سوريا الديمقراطية؟
1. استعادة السيادة الوطنية وتوحيد الأراضي السورية
منذ بداية الأزمة السورية، تبنت الحكومة السورية خطابًا يقوم على رفض أي شكل من أشكال التقسيم أو الحكم الذاتي غير الخاضع لسلطتها المركزية. ومع ذلك، فقد فقدت السيطرة الفعلية على مساحات شاسعة من البلاد لصالح قوى متعددة، أبرزها قسد المدعومة أمريكيًا. لذلك، يُعتبر الاتفاق مع قسد خطوة أساسية لاستعادة السيطرة على المناطق الشمالية الشرقية التي تضم النفط والموارد الزراعية المهمة.
2. تأمين الموارد الاقتصادية
المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وخاصة الحسكة ودير الزور والرقة، تُعدّ من أغنى المناطق السورية بالثروات الطبيعية، خاصة النفط والغاز. وفي ظل العقوبات الغربية على دمشق، تُعتبر استعادة السيطرة على هذه المناطق ضرورة اقتصادية لضمان توفير الإيرادات للحكومة السورية وتمويل عمليات إعادة الإعمار.
3. تقليص النفوذ الأمريكي في الشمال الشرقي
تعتمد قوات سوريا الديمقراطية بشكل رئيسي على الدعم الأمريكي، ولكن هذا الدعم بدأ يتراجع مع تغير أولويات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. من خلال التسوية مع قسد، تُراهن دمشق على تقليص النفوذ الأمريكي تدريجيًا، مما يُمهِّد الطريق لخروج القوات الأمريكية من سوريا، خاصة أن هذا المطلب يحظى بدعم روسي وإيراني.
4. منع تركيا من تحقيق أهدافها في الشمال السوري
تمثل تركيا تهديدًا مباشرًا لكل من الحكومة السورية وقسد، حيث تسعى إلى توسيع نفوذها في شمال سوريا عبر دعم الفصائل المسلحة الموالية لها وشن عمليات عسكرية ضد القوات الكردية. وبالتالي، فإن احتواء قسد داخل الدولة السورية قد يُضعف الذريعة التركية للتدخل العسكري، ويُساهم في منع إقامة منطقة نفوذ تركية دائمة شمال البلاد.
ثانيًا: لماذا قبلت قوات سوريا الديمقراطية بالتسوية مع الحكومة السورية؟
1. تأمين الاعتراف السياسي وضمان الحقوق الكردية
على الرغم من أن قسد كانت تسعى إلى ترسيخ نموذج الحكم الذاتي شمال شرق سوريا، إلا أن الواقع الجيوسياسي فرض عليها إعادة النظر في استراتيجيتها. فالقبول بالاندماج في مؤسسات الدولة السورية يمنح الأكراد فرصة للتمثيل السياسي الرسمي داخل النظام السوري، مما قد يُؤمن حقوقهم على المدى البعيد ضمن إطار الدولة المركزية.
2. الحماية من التهديدات التركية
تعتبر تركيا قوات سوريا الديمقراطية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تصنفه كمنظمة إرهابية، وقد شنت عدة عمليات عسكرية ضدها (مثل "نبع السلام" و"غصن الزيتون"). ومع تهديدات أنقرة المستمرة بشن عملية عسكرية جديدة، رأت قسد أن التفاهم مع دمشق يُمكن أن يوفر لها مظلة حماية من أي هجوم تركي محتمل.
3. تراجع الدعم الأمريكي وضبابية الموقف الغربي
رغم أن الولايات المتحدة دعمت قوات سوريا الديمقراطية في الحرب ضد داعش، إلا أن واشنطن لم تقدم ضمانات طويلة الأمد لبقاء القوات الكردية في مناطقها. وبالنظر إلى أن المصالح الأمريكية قد تتغير في أي لحظة، فإن قسد أدركت ضرورة البحث عن تسوية مع دمشق للحفاظ على وجودها السياسي والعسكري.
4. تفادي نزاعات طويلة الأمد مع الدولة السورية
في ظل التحديات الأمنية والعسكرية التي تواجهها، فضّلت قوات سوريا الديمقراطية تجنب أي مواجهة مباشرة مع الجيش السوري، خاصة مع وجود تهديدات من جماعات أخرى مثل داعش، إضافة إلى الفصائل المدعومة من تركيا.
ثالثًا: الاستراتيجية التركية تجاه الاتفاق وتأثيرها على المشهد السوري
تُعدّ تركيا أكبر المتضررين من هذا الاتفاق، حيث تعتبر أي تقارب بين الحكومة السورية وقسد تهديدًا مباشرًا لمصالحها في سوريا. لهذا السبب، يمكن تلخيص الاستراتيجية التركية على النحو التالي:
1. محاولة إفشال الاتفاق عبر دعم الفصائل المسلحة شمال سوريا
من المتوقع أن تكثف تركيا دعمها لفصائل "الجيش الوطني السوري" المعارض في محاولة لإفشال أي ترتيبات تُعيد دمج قسد في مؤسسات الدولة السورية.
2. زيادة الضغط العسكري على المناطق الكردية
من غير المستبعد أن تشن تركيا عمليات عسكرية جديدة ضد مواقع قسد، خاصة في المناطق الحدودية، لتقويض أي محاولة لإعادة دمجها ضمن الجيش السوري.
3. محاولة الحصول على ضمانات من دمشق
قد تسعى أنقرة لعقد تفاهمات جديدة مع الحكومة السورية بشأن الوضع في الشمال السوري، خاصة أن دمشق لا تزال بحاجة إلى دعم تركي غير مباشر في ملفات مثل عودة اللاجئين والتجارة عبر الحدود.
رابعًا: الدور الأمريكي وتأثيره على التسوية بين دمشق وقسد
رغم أن الولايات المتحدة لم تعلن موقفًا رسميًا من الاتفاق، إلا أن هذا التطور يُعقد استراتيجيتها في سوريا، إذ كانت واشنطن تستخدم قسد كقوة محلية للحفاظ على نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن هناك عوامل دفعت واشنطن إلى عدم التدخل بشكل مباشر لمنع التسوية:
1. التركيز على التهديدات الإقليمية الأخرى
انشغال الولايات المتحدة بملفات أخرى مثل التصعيد في أوكرانيا والملف الإيراني جعل سوريا ليست أولوية قصوى، مما دفعها إلى السماح بمزيد من التفاهمات المحلية.
2. الرغبة في تقليل الخسائر والتكاليف
لم يعد هناك حافز قوي للإبقاء على تواجد عسكري كبير في سوريا، خاصة أن الرأي العام الأمريكي لم يعد يدعم التدخلات العسكرية الخارجية المكلفة.
3. تسهيل التفاهمات الإقليمية
قد تكون واشنطن تسعى إلى تحقيق استقرار نسبي في سوريا كجزء من ترتيبات أوسع تشمل تركيا والعراق، وربما حتى إيران، لضمان توازن استراتيجي في المنطقة.
خامسًا: التأثيرات الاستراتيجية للاتفاق على مستقبل سوريا
1. إعادة توحيد الأراضي السورية تحت سيطرة الدولة
إذا تم تنفيذ الاتفاق بشكل كامل، فسيكون خطوة كبيرة نحو استعادة وحدة سوريا وتقليل فرص تقسيمها إلى مناطق نفوذ دائمة.
2. تعزيز الاستقرار الداخلي وتقليل الصراعات
يمكن أن يُسهم هذا الاتفاق في تقليل التوترات الداخلية وتهيئة الأجواء لحل سياسي أشمل يضم جميع الأطراف السورية.
3. إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي
قد يؤدي هذا الاتفاق إلى تراجع النفوذ الأمريكي في سوريا، مقابل تعزيز الدورين الروسي والإيراني، مما قد يدفع تركيا إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه دمشق.
الخاتمة
يُمثل الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية نقطة تحول في الصراع السوري، حيث يعكس التغيرات الحاصلة في موازين القوى الإقليمية والدولية. ومع أن التنفيذ قد يواجه تحديات عديدة، إلا أن نجاحه قد يُعيد ترتيب المشهد السوري ويُمهّد لحل سياسي أوسع.