تركيا تحت المجهز: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
على مرّ العقود، كانت تركيا تمثل نقطة التقاء استراتيجية بين الشرق والغرب، وهي واحدة من أكبر القوى الإقليمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وفي العقدين الماضيين، شهدت تركيا تحولات كبيرة في سياساتها الداخلية والخارجية، نتيجة لتأثيرات التطورات السياسية والعسكرية على المستوى الإقليمي والدولي. في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، أصبحت تركيا تتبنى سياسة "التوازن الاستراتيجي"، حيث تحاول الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب (خاصةً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وفي الوقت ذاته تعزيز علاقاتها مع روسيا والدول الشرق أوسطية. ومع تصاعد التوترات العالمية وتنامي التحولات في النظام الدولي، يطرح السؤال: هل سيتجه أردوغان نحو الحلف الشرقي ممثلًا في روسيا بهدف تمكين حكمه السلطوي، أم سيواصل السعي لتحقيق علاقات إستراتيجية مع الغرب؟ وكيف يمكن أن تؤثر الخلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في هذا الاختيار؟ وما هو دور تركيا في الصراع الروسي الأوكراني؟ هذا المقال يهدف إلى تقديم تحليل معمق لهذه التساؤلات.
أردوغان والحلم العثماني: بين الشرق والغرب
منذ وصوله إلى السلطة في تركيا عام 2003، عمد أردوغان إلى تكريس حكمه من خلال مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وفي وقت لاحق عبر عن طموحات متزايدة لإعادة بناء الدور التركي كقوة إقليمية مؤثرة. كانت السياسة الخارجية التركية في بدايات عهد أردوغان متجهة نحو تعزيز العلاقات مع الغرب، بما في ذلك الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتقارب مع الولايات المتحدة. ومع مرور الوقت، بدأ يظهر التوتر بين تركيا والدول الغربية، خاصة مع حدوث تحولات داخلية في تركيا تمثلت في تعزيز السلطة التنفيذية، الأمر الذي أثار مخاوف حول المسار الديمقراطي في البلاد.
لكن مع تزايد التوترات في المنطقة وحروب الشرق الأوسط، وجد أردوغان نفسه في موقف يتطلب إعادة تقييم الخيارات الاستراتيجية لتركيا. في هذا السياق، أصبحت العلاقات مع روسيا محورية، حيث بدأت تركيا تتجه نحو التعاون مع موسكو في قضايا عدة، بدءًا من الطاقة وصولًا إلى الصراعات الإقليمية مثل الأزمة السورية. هذا التقارب مع روسيا يعكس تحولًا تدريجيًا في السياسة التركية، قد يكون جزءًا من استراتيجية أردوغان لتحقيق هيمنة سياسية داخلية تمتد إلى تعزيز سلطته.
لماذا قد يختار أردوغان الحلف الشرقي؟
إحدى الأسباب التي قد تدفع أردوغان للانحياز إلى الحلف الشرقي (أي روسيا) هي الرغبة في تمكين دكتاتوريته داخليًا. من خلال تعزيز العلاقات مع موسكو، يمكن لأردوغان أن يجد دعمًا من قبل روسيا في مواجهة الضغوط الغربية التي تتزايد بسبب مسألة حقوق الإنسان، والحريات العامة، وقضايا الديمقراطية في تركيا. موسكو، التي لا تضع شروطًا مماثلة لتلك التي تفرضها دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، قد تكون شريكًا أكثر مرونة في دعم أردوغان في ما يتعلق بالحفاظ على حكمه الفردي وتعزيز سلطته التنفيذية.
إضافةً إلى ذلك، هناك جوانب اقتصادية قد تؤثر في هذا الخيار. تتطلع تركيا إلى التنوع في مصادر الطاقة وتقليل اعتمادها على الغرب. روسيا يمكن أن تكون مصدرًا مهمًا للطاقة، سواء من خلال أنابيب الغاز أو المشاريع الكبرى مثل مشروع "السيل التركي" للغاز الطبيعي. كما أن التعاون مع روسيا يمكن أن يوفر لتركيا دعمًا اقتصاديًا كبيرًا في فترة تمر بها البلاد بتحديات اقتصادية، مثل التضخم والبطالة.
التحولات في العلاقات التركية مع الغرب
في المقابل، لا يمكن لأردوغان تجاهل الروابط العميقة التي تجمع تركيا مع الغرب، خاصةً في ما يتعلق بمكانتها في حلف الناتو والاقتصاد العالمي. تركيا تلعب دورًا استراتيجيًا في البحر الأبيض المتوسط، وهذا يجعلها شريكًا مهمًا بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مكافحة الإرهاب، وفي محاربة تهديدات مثل تنظيم "داعش". بالإضافة إلى ذلك، تعد تركيا مركزًا مهمًا في التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط، وبالتالي الحفاظ على علاقات وثيقة مع الغرب ضروري لاستمرار النفوذ التركي في المنطقة.
إلا أن هناك تحديات رئيسية تواجه هذه العلاقة، خاصة في ظل الخلافات المستمرة حول ملفات مثل حقوق الإنسان، والسياسات الخارجية التركية في سورية وليبيا، وشراء أنظمة الدفاع الروسية "إس-400" التي أغضبت حلفاء تركيا في الناتو. هذه التوترات قد تدفع أردوغان إلى البحث عن بدائل استراتيجية تتيح له تعزيز مكانته الإقليمية والدولية بعيدًا عن الضغوط الغربية.
الخلافات الأمريكية الأوروبية وإمكانية توظيفها من قبل أردوغان
الخلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تمثل فرصة بالنسبة لأردوغان. فبينما تقف الولايات المتحدة في العديد من الأحيان مع مصالح تركيا في قضايا إقليمية، يظهر الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد الانسحاب البريطاني من الاتحاد، موقفًا أكثر تحفظًا تجاه أنقرة. الخلافات بين الطرفين حول قضايا مثل الهجرة، وتوسيع الاتحاد الأوروبي، والانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان في تركيا، قد تفتح المجال لأردوغان للاستفادة من التوترات الغربية.
أردوغان قد يحاول توظيف هذه الخلافات لصالحه من خلال تعزيز علاقات تركيا مع موسكو من جهة، وفي نفس الوقت الحفاظ على قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. في هذا السياق، يمكن لأردوغان أن يضع نفسه كـ "حليف استراتيجي" في الغرب بينما يتجه نحو روسيا للحصول على دعم في الملفات التي تهمه محليًا وإقليميًا.
دور تركيا في الأزمة الأوكرانية: جسر بين الروس والأوكرانيين
منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، أظهرت تركيا موقفًا مميزًا يتراوح بين الدعم المعتدل لأوكرانيا وتعاونها مع روسيا. تركيا كانت أحد الوسطاء الرئيسيين في محادثات وقف إطلاق النار بين الجانبين، وهي تلعب دورًا حاسمًا في تسهيل نقل الحبوب عبر البحر الأسود من أوكرانيا، وهو أمر بالغ الأهمية للأمن الغذائي العالمي.
من خلال هذه السياسات، يطمح أردوغان إلى تعزيز مكانة تركيا كـ "قوة محورية" قادرة على التأثير في التطورات الجيوسياسية العالمية. تركيا قد تسعى أيضًا إلى الاستفادة من هذا الدور لتقوية علاقاتها مع الغرب، الذي يدعم أوكرانيا في مواجهتها مع روسيا، وفي نفس الوقت تعزيز قدرتها على التأثير في القرارات الاستراتيجية عبر توظيف علاقاتها مع روسيا.
المحصلة:
تتباين الخيارات أمام أردوغان بين الاستمرار في علاقة استراتيجية مع الغرب أو الانحياز بشكل أكبر نحو الشرق. إذا اختار التحالف مع روسيا، فذلك قد يمكنه من تعزيز سلطته داخل تركيا عبر دعم موسكو، ولكنه في ذات الوقت سيعرض تركيا لمخاطر عزلة سياسية مع الغرب. وإذا استمر في الحفاظ على العلاقات مع الغرب، فسيظل يلعب دورًا مهمًا في العلاقات الدولية، لكنه سيواجه ضغوطًا مستمرة بشأن ملفاته الداخلية والخارجية. من هنا، يبدو أن أردوغان قد يواصل سياسة "التوازن الاستراتيجي"، حيث يسعى إلى استغلال الخلافات الغربية وتحقيق دور محوري في الأزمات الدولية، وفي الوقت ذاته، تعزيز سلطته داخليًا من خلال توازنه بين القوى الكبرى.