تركيا تحت المجهز: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
يستمر الجدل حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ملف ظل مجمدًا لعقود بسبب قضايا سياسية، اقتصادية، وقانونية. وفي أحدث تطور، خلص تقرير لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، الذي أعده مقرر تركيا في البرلمان الأوروبي ناتشو سانشيز أمور، إلى أن عملية الانضمام لا يمكن أن تمضي قدمًا بسبب استمرار التراجع الديمقراطي والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان. هذا الموقف ليس بجديد، لكنه يعكس استمرار المخاوف الأوروبية بشأن السياسات التركية التي تتعارض مع القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي.
السياق التاريخي للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي
بدأت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي منذ عقود، حيث تقدمت أنقرة بطلب العضوية لأول مرة عام 1987، وتم الاعتراف بها كدولة مرشحة رسميًا في قمة هلسنكي عام 1999. وفي 2005، بدأت مفاوضات الانضمام، لكنها سرعان ما تعثرت بسبب قضايا جوهرية تتعلق بسيادة القانون، حقوق الإنسان، والحرية السياسية. ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، شهدت تركيا موجة من الاعتقالات الجماعية، تقييد الحريات الإعلامية، وإضعاف استقلال القضاء، مما أدى إلى مزيد من التوتر مع الاتحاد الأوروبي.
التقرير الأوروبي: القضايا الأساسية التي تعيق انضمام تركيا
استند تقرير البرلمان الأوروبي إلى مجموعة من المعايير التي يرى الاتحاد الأوروبي أنها جوهرية لأي دولة تسعى للانضمام إلى عضويته، وأبرزها:
1. التراجع الديمقراطي
شهدت تركيا، وفق التقرير، تحولًا نحو نظام حكم أكثر استبدادًا بعد تعديلات دستورية عام 2017 التي عززت سلطات الرئيس رجب طيب أردوغان على حساب استقلالية البرلمان والقضاء. كما تعرضت المعارضة السياسية لضغوط كبيرة، مع حظر أحزاب، واعتقال سياسيين وصحفيين، وهو ما يتعارض مع المعايير الديمقراطية الأوروبية.
2. انتهاكات حقوق الإنسان
أعرب الاتحاد الأوروبي مرارًا عن قلقه بشأن تراجع أوضاع حقوق الإنسان في تركيا، خاصة بعد فرض حالة الطوارئ في أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016. شملت هذه الانتهاكات القمع الممنهج للمعارضين، الحد من حرية التعبير، والتضييق على المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية.
3. غياب استقلالية القضاء
يؤكد التقرير أن القضاء التركي فقد استقلاليته بسبب التدخل السياسي المستمر، وهو ما ينعكس في المحاكمات غير العادلة واعتقال المعارضين السياسيين بناءً على اتهامات مشكوك فيها. كما أن قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي ألزمت تركيا بالإفراج عن شخصيات معارضة بارزة مثل عثمان كافالا وصلاح الدين دميرتاش، لم تُنفذ، مما يعزز المخاوف بشأن سيادة القانون.
4. السياسات الخارجية التركية
إلى جانب القضايا الداخلية، تلعب السياسة الخارجية لأنقرة دورًا كبيرًا في تعثر المفاوضات. فقد دخلت تركيا في نزاعات إقليمية، أبرزها التوترات مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط، فضلًا عن تدخلاتها العسكرية في سوريا وليبيا، وهو ما يثير مخاوف بشأن مدى توافق سياستها الخارجية مع التوجهات الأوروبية.
جهود تركيا لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي
رغم استمرار التوتر، حاولت أنقرة في السنوات الأخيرة تحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي من خلال الانخراط في مبادرات دبلوماسية، خاصة في مجالات الاقتصاد والتعاون الأمني ومكافحة الإرهاب. كما قدمت تنازلات في ملفات مثل أزمة اللاجئين، حيث تستضيف أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري بموجب اتفاقية اللاجئين لعام 2016 مع الاتحاد الأوروبي. لكن هذه الجهود لم تكن كافية لإقناع بروكسل بإعادة فتح مسار المفاوضات.
الموقف التركي من التقرير الأوروبي
رفضت تركيا بشكل قاطع ما جاء في تقرير البرلمان الأوروبي، معتبرة أنه يعكس تحيزًا أوروبيًا ضدها ولا يأخذ بعين الاعتبار التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد. كما ترى أنقرة أن الاتحاد الأوروبي يستخدم ملف حقوق الإنسان والديمقراطية كذريعة سياسية لعرقلة انضمامها، في حين أنه لم يمارس نفس الضغوط على دول أخرى ذات سجل مشابه.
مستقبل العلاقات التركية الأوروبية: إلى أين؟
من غير المتوقع أن يحدث أي تقدم ملموس في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب، خاصة في ظل استمرار الخلافات الجوهرية بين الطرفين. ولكن هناك سيناريوهات محتملة للعلاقات المستقبلية:
1. الإبقاء على الوضع الراهن: استمرار تجميد المفاوضات مع تعزيز التعاون في مجالات محددة مثل التجارة والطاقة واللاجئين.
2. إعادة تقييم العلاقة: قد يسعى الاتحاد الأوروبي إلى استبدال مفاوضات العضوية بنموذج شراكة استراتيجية، يمنح تركيا امتيازات اقتصادية وأمنية دون منحها عضوية كاملة.
3. استئناف مشروط للمفاوضات: في حال أجرت تركيا إصلاحات ديمقراطية حقيقية، قد يعيد الاتحاد الأوروبي النظر في استئناف المفاوضات، لكن هذا يتطلب تغييرات جذرية في السياسة الداخلية لأنقرة.
الإستنتاج الأخير
يؤكد تقرير البرلمان الأوروبي أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لا يزال بعيد المنال بسبب المخاوف المستمرة بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبينما تحاول أنقرة تحسين علاقاتها مع بروكسل، فإن العقبات الهيكلية العميقة، سواء داخل تركيا أو في موقف الاتحاد الأوروبي نفسه، تجعل من الصعب تحقيق أي اختراق حقيقي في المستقبل القريب. يبقى التساؤل: هل ستتمكن تركيا يومًا من تلبية معايير العضوية، أم أن البحث عن نموذج جديد للعلاقة سيكون الخيار الأكثر واقعية؟