تركيا تحت المجهر: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، كان الملف الكردي يمثل تحديًا كبيرًا للحكومات المتعاقبة، حيث ارتبط بإشكاليات الهوية، الحقوق السياسية، والسياسات الأمنية. ومع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى السلطة، شهد هذا الملف تحولات كبيرة بين فترات من الانفتاح النسبي وفترات من القمع الشديد.
في الوقت الحالي، يبدو أن الحكومة التركية تستخدم سياسة مزدوجة تجاه الكرد، حيث تُروّج لفكرة الحوار مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل منذ عام 1999، بينما تواصل في الوقت ذاته شنّ عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والفصائل الكردية الأخرى في شمال سوريا والعراق. هذه الاستراتيجية تطرح العديد من الأسئلة حول مدى جدية أردوغان في التعامل مع القضية الكردية، وما إذا كانت هذه التحركات جزءًا من خطة أوسع لتصفية المعارضة الداخلية وضمان بقائه في الحكم.
في هذا المقال، سنتناول تحليلًا معمقًا لاستراتيجية أردوغان في الملف الكردي، ومدى ارتباطها بالوضع الداخلي في تركيا، وتأثيرها على مستقبل العلاقة بين الدولة التركية والكرد.
ازدواجية الخطاب التركي تجاه الكرد: الحوار كأداة للابتزاز السياسي
لطالما استخدمت الحكومات التركية الملف الكردي كوسيلة لتعزيز شرعيتها داخليًا وخارجيًا. ففي بعض الفترات، تبنّت أنقرة خطابًا تصالحيًا تجاه الكرد، كما حدث في بداية عهد العدالة والتنمية عندما تمّ السماح بفتح قنوات إعلامية كردية، والسماح بتدريس اللغة الكردية بشكل محدود، فضلًا عن إطلاق "عملية السلام" مع حزب العمال الكردستاني بين عامي 2013-2015.
لكن هذا الانفتاح لم يكن سوى تكتيك مرحلي، سرعان ما تخلت عنه الحكومة التركية عندما شعرت بأن التوازن السياسي لم يعد في صالحها. فقد أدى انهيار مفاوضات السلام عام 2015 إلى تصعيد عسكري غير مسبوق، حيث شنت الحكومة حملات عسكرية دمرت مدنًا كردية داخل تركيا، مثل جزيرة ابن عمر وسور في ديار بكر، وأعادت تبني خطابًا قوميًّا متشددًا لإرضاء القاعدة القومية المتشددة.
اليوم، تعود أنقرة مرة أخرى إلى الحديث عن الحوار مع أوجلان، لكن في ظل استمرار الهجمات العسكرية على الكرد في سوريا والعراق، يصبح من الصعب تصديق أن هذه الخطوة تحمل نوايا صادقة. بل يبدو أن الهدف الحقيقي هو تفكيك التكتلات الكردية وإحداث انقسامات داخل القوى السياسية الكردية، خاصة بين حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) والجناح الأكثر تشددًا داخل الحركة الكردية المسلحة.
التلاعب بملف أوجلان لكسب الوقت وإضعاف الكرد
في الفترات التي يشعر فيها أردوغان بضغط سياسي داخلي أو خارجي، عادةً ما يتم تسريب معلومات عن إمكانية فتح قنوات تواصل مع أوجلان. ولكن هذه التسريبات غالبًا ما تكون جزءًا من لعبة سياسية تهدف إلى إضعاف الحركة الكردية عبر إحداث انقسامات بين مؤيدي أوجلان والمجموعات الأخرى.
على سبيل المثال، خلال الانتخابات البلدية التركية عام 2019، قام النظام بالسماح لوفد من المحامين بزيارة أوجلان بعد سنوات من العزلة، وذلك في محاولة لحث الكرد على عدم دعم مرشحي المعارضة في إسطنبول وأنقرة. لكن بمجرد انتهاء الانتخابات وهزيمة حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى، عاد النظام إلى سياسة العزل التام لأوجلان وتصعيد العمليات العسكرية ضد الكرد.
وبالتالي، فإن حديث الحكومة التركية عن الحوار مع أوجلان ليس إلا ورقة ضغط تُستخدم حسب الحاجة السياسية، وليس خطوة حقيقية نحو حل القضية الكردية.
القضاء على المعارضة السياسية عبر تهدئة الجبهة الكردية
إحدى النظريات التي تفسر النهج الحالي لأردوغان في التعامل مع الملف الكردي هي أنه يحاول تهدئة الجبهة الكردية مؤقتًا من أجل التفرغ لمواجهة المعارضة الداخلية الأخرى، خصوصًا من حزب الشعب الجمهوري (CHP) وتحالف الطاولة السداسية الذي يضم قوى معارضة متنوعة.
في السنوات الأخيرة، واجه أردوغان تحديات غير مسبوقة، خصوصًا بعد تراجع شعبيته بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، وتراجع قيمة الليرة التركية، وارتفاع معدلات البطالة. وفي ظل هذه التحديات، فإن استمرار المواجهة مع الكرد قد يكون مكلفًا سياسيًا، لذا قد يكون من المفيد بالنسبة له أن يعطي إشارات تهدئة مؤقتة تجاه الكرد حتى يتمكن من تركيز جهوده على قمع المعارضة الأخرى.
من جهة أخرى، يسعى أردوغان أيضًا إلى تحييد الصوت الكردي في الانتخابات القادمة. فحزب الشعوب الديمقراطي، الذي يمثل شريحة واسعة من الكرد داخل تركيا، يشكل تهديدًا انتخابيًا كبيرًا لحزب العدالة والتنمية، لا سيما في المدن الكبرى حيث يمكن لأصوات الكرد أن ترجّح كفة المعارضة. لذلك، قد يكون الحديث عن الحوار مع أوجلان محاولة لاستقطاب جزء من القاعدة الكردية أو على الأقل دفعها إلى اتخاذ موقف محايد في الانتخابات، مما يخدم مصلحة حزب العدالة والتنمية.
استمرار الهجمات العسكرية على كرد سوريا: تناقض في السياسة التركية
في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة التركية عن إمكانية فتح حوار مع أوجلان، يواصل الجيش التركي عملياته العسكرية في شمال سوريا، حيث تستهدف أنقرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بحجة ارتباطها بحزب العمال الكردستاني.
عمليات القصف والتوغل التركي في المناطق الكردية لم تتوقف، بل إنها تصاعدت في الأشهر الأخيرة، حيث استهدفت الطائرات المسيرة التركية قيادات كردية، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات قصف مكثفة ضد البنية التحتية في مناطق مثل كوباني، تل رفعت، وعين عيسى.
هذا التناقض بين الحديث عن الحوار مع أوجلان واستمرار العمليات العسكرية في سوريا والعراق يعكس مدى ازدواجية السياسة التركية تجاه الكرد، حيث يُستخدم الحوار كأداة سياسية مؤقتة، بينما يستمر العمل العسكري كأداة للقضاء على أي مشروع كردي مستقل.
إلى أي مدى يمكن لأردوغان أن يكون جادًا في حل القضية الكردية؟
بناءً على ما سبق، يبدو أن أردوغان لا يسعى إلى حل حقيقي للقضية الكردية، بل يستخدمها كورقة مساومة لتحقيق أهدافه السياسية. فلو كان جادًا في إيجاد حل، لكان قد بدأ بخطوات عملية مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين الكرد، ووقف العمليات العسكرية ضد الكرد في الداخل والخارج، وفتح حوار حقيقي يشمل جميع الأطراف الكردية، وليس فقط أوجلان.
لكن ما نشهده اليوم هو استمرار في النهج الأمني، مع توظيف بعض الإشارات السياسية لكسب الوقت وإحداث انقسامات داخل الحركة الكردية. وبالتالي، فإن احتمالية قيام أردوغان بحل القضية الكردية بطريقة عادلة وشاملة تبدو ضئيلة جدًا، لأن ذلك يتعارض مع مشروعه في ترسيخ حكمه الفردي وإضعاف خصومه السياسيين.
الخاتمة
إن التلاعب التركي في الملف الكردي ليس جديدًا، لكنه أصبح أكثر وضوحًا في ظل حكم أردوغان، الذي يستخدمه لتحقيق مكاسب سياسية آنية، سواء عبر التلاعب بملف أوجلان، أو عبر تصعيد العمليات العسكرية ضد كرد سوريا، أو عبر استغلال الانقسامات داخل القوى الكردية.
لذلك، فإن أي حديث عن حل سياسي للقضية الكردية في ظل حكم أردوغان يظل مجرد وهم، ما لم يكن هناك تغيير جذري في التوجهات السياسية التركية، أو ضغوط دولية حقيقية تجبر أنقرة على تغيير نهجها. وحتى ذلك الحين، سيبقى الكرد بين مطرقة القمع التركي وسندان المناورات السياسية.