محللو "الجيوستراتيجي" يحلّلون: هل الاتفاق التركي – الكردي في الداخل سيدفع باتجاه انقلاب شامل في خارطة التحالفات السورية؟

آدمن الموقع
0
 تقدير موقف: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
في ظل تسارع التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، واحتدام التنافس بين الفواعل الدولية والإقليمية حول إعادة إنتاج النفوذ في سوريا، تبرز قضية العلاقة الكردية–التركية مجددًا كواحدة من أهم بوابات التأثير، ليس فقط داخل تركيا، بل أيضًا على امتداد الشمال والشمال الشرقي السوري. ومن هنا تطرح مراكز التفكير الاستراتيجي، ومن بينها مركز الجيوستراتيجي للدراسات، سؤالًا بالغ الدقة: هل يمكن لاتفاق سياسي داخلي بين تركيا والأكراد أن يفتح الباب لتغييرات استراتيجية في تموضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؟ وهل من الممكن أن نشهد إعادة اصطفاف كبرى، تتجه فيها "قسد" نحو تفاهمات براغماتية مع أنقرة، بينما تمضي حكومة أحمد الشرع في دمشق نحو بناء تحالفات ثلاثية مع الخليج العربي، وإسرائيل، والولايات المتحدة؟

مثل هذا السؤال يتجاوز التحليل الظرفي أو الأمني، ويدخل مباشرة في عمق التحولات البنيوية، سواء في تموضع الكتلة الكردية داخل تركيا، أو في إمكانية إعادة بناء "الهوية السياسية" لقسد بما يسمح لها بتجاوز صورتها القديمة كامتداد لحزب العمال الكردستاني. لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الداخل التركي عن الخارطة السورية. فتركيا، بوصفها الدولة الحدودية صاحبة النزاع التاريخي مع الكيان الكردي، تتعامل مع المناطق الكردية في سوريا ليس بوصفها جبهة منفصلة، بل باعتبارها ساحة امتداد واشتباك مع المشروع الأوجلاني. لذا، فإن أي تحول في موقف الدولة التركية من القضية الكردية داخليًا، سواء عبر استئناف عملية السلام أو إعادة تفعيل المسار السياسي مع حزب الشعوب الديمقراطي، سيكون له ارتدادات مباشرة على تعاملها مع مناطق سيطرة "قسد" في سوريا.

الواقع التركي اليوم يشهد تصاعدًا للأزمات الاقتصادية، وتراجعًا في هيمنة حزب العدالة والتنمية، مما يدفع بعض النخب السياسية إلى استعادة فكرة الحل السلمي للقضية الكردية، التي جُمّدت منذ انهيار مفاوضات إيمرالي وسقوط مسار الحل في 2015. هذا التوجه، وإن بقي محدودًا في نطاقه السياسي حتى الآن، إلا أن تسارع التحولات الإقليمية قد يدفع أنقرة إلى إعادة التفكير بأدواتها، خصوصًا إذا ما وُجدت مكاسب استراتيجية من التهدئة مع الكرد، مثل تقليل الضغوط العسكرية، وتسهيل مشاريع الطاقة والنقل الإقليمي (التيار التركي، أو طريق زانغازور)، أو حتى تحسين العلاقة مع الغرب.

من ناحية أخرى، فإن "قسد"، رغم حفاظها النسبي على الغطاء الأمريكي في مناطق شرق الفرات، تجد نفسها في وضع هش ومعقد. الولايات المتحدة لم تعد تبني سياسة ثابتة في سوريا، بل تتجه نحو تقليص الإنخراط، وتركيز جهودها على الاحتواء الإيراني ومراقبة التهديدات الجهادية. وبالتالي فإن "قسد" – بوصفها قوة محلية شبه ذاتية الحكم – تدرك أن اعتمادها الكامل على واشنطن غير مضمون استراتيجياً، لا سيما في ظل غياب مسار تفاوض سياسي يفضي إلى اعتراف دولي صريح بكيانها أو مستقبلها في سوريا. من هنا تبدأ الحاجة الكردية إلى تنويع أوراق التحالف. وفي حال برزت بوادر اتفاق داخلي بين أنقرة والكرد، فإن ذلك قد يمنح "قسد" فرصة للمناورة، وإعادة تقديم نفسها لأنقرة كـ "قوة محلية مستقرة" قادرة على أن تكون شريكًا في الأمن الحدودي بدلًا من أن تبقى "تهديدًا دائمًا".

لكن مثل هذا التحول يتطلب من "قسد" أولاً أن تعيد النظر في بنيتها الأيديولوجية. فارتباطها العقائدي والفكري بحزب العمال الكردستاني، وخطابات عبد الله أوجلان، يجعل من صعوبة تحولها إلى قوة "مدنية تكنوقراطية" تحديًا وجوديًا. ومع ذلك، فإن الأزمات المتلاحقة، من تهديدات الجيش التركي، إلى استنزافها في مواجهة خلايا تنظيم داعش، وضعف الموارد، كلها قد تفرض على قيادات "قسد" إعادة النظر في عقيدتها الاستراتيجية. بمعنى أن هناك احتمالا قائمًا في أن تشهد "قسد" تحولات داخلية تدريجية: إعادة هيكلة سياسية، تقليل مركزية القرار، فصل الخطاب السياسي عن أيديولوجية الجبل، وربما إعادة صياغة علاقاتها مع قوى الداخل السوري (العربية والكردية) عبر مجلس سوريا الديمقراطية (مسد).

إلى جانب ذلك، فإن المشهد السوري يشهد منذ 2024 صعودًا تدريجيًا لقوة سياسية–عسكرية جديدة في دمشق، تتمثل في حكومة أحمد الشرع، والتي تقدم نفسها كسلطة بديلة للنظام الأسدي، ذات طابع سني عربي، وترتبط بعلاقات وثيقة مع دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات وقطر، إضافة إلى قنوات تنسيق مع الولايات المتحدة وحتى إسرائيل. هذه الحكومة، رغم حداثة وجودها، تحظى بقبول إقليمي ودولي متزايد، كونها تمثل "خيارًا وسطًا" بين بقايا النظام من جهة، والتشكيلات الجهادية والفصائل الفوضوية من جهة أخرى. وتطرح هذه الحكومة نفسها على أنها مشروع سياسي لبناء سوريا جديدة، متحررة من النفوذ الإيراني، وملتزمة بالتوازن الإقليمي، خاصة في ما يخص أمن الحدود مع إسرائيل، وأمن الطاقة، والتفاهم مع المحيط العربي.

لكن في السياق الجيوسياسي، فإن مشروع حكومة أحمد الشرع يصطدم بجملة معقدة من المعادلات. فهي من جهة تحتاج إلى دعم دولي وعربي، لكنها أيضًا في منافسة مباشرة مع "قسد"، كون الطرفين يتقاسمان السيطرة على الشرق السوري، ويتنافسان على الشرعية والموارد. كما أن تركيا – رغم عدائها لحزب العمال الكردستاني – قد تجد نفسها أقرب إلى حكومة دمشق الجديدة، إذا ما أظهرت الأخيرة استعداداً لمحاصرة "قسد" أو تسوية ملفها على نحو يخدم الأمن القومي التركي. وهنا يُطرح سيناريو مُعقّد، يتمثل في تقاطع مصالح غير متوقع بين أنقرة ودمشق الجديدة، حيث يمكن لتركيا أن تقايض دعمها غير المباشر لحكومة أحمد الشرع، مقابل ضمانات بحل ملف "قسد" وإنهاء النزعة الانفصالية الكردية، أو على الأقل تحييدها سياسيًا.

وهكذا نصل إلى مفترق طرق استراتيجي، يتمثل في إعادة رسم خارطة التحالفات وفق معطيات جديدة لا تخضع لمفاهيم الصراع القديمة. فـ"قسد" التي كانت حتى الأمس تحتمي بالمظلة الأمريكية، قد تجد نفسها مجبرة على التقارب مع أنقرة، خاصة إذا شعرت أن الحكومة الجديدة في دمشق تسعى لطردها من معادلة الحكم. وتركيا، التي كانت ترفض أي وجود كردي مستقل في سوريا، قد تجد في "قسد المعدلة" فرصة لتثبيت استقرار حدودها، وإعادة اللاجئين، وتحييد التهديدات. أما حكومة أحمد الشرع، فستكون أمام تحدي الموازنة بين قبولها دوليًا بوصفها سلطة معتدلة، وبين رغبتها في توسيع نفوذها على حساب الأكراد، دون الانزلاق إلى حرب جديدة قد تفقدها شرعيتها.

الولايات المتحدة بدورها ستلعب دور "الحكم الصامت" في هذه المعادلة. إذ تدرك واشنطن أنها غير قادرة على إدارة سوريا بمفردها، لكنها أيضًا غير مستعدة للتخلي الكامل عن الأكراد. لذا قد تميل إلى تشجيع تفاهم تركي – كردي ضمن ترتيبات أمنية جديدة، تضمن استقرار شرق الفرات، وإبقاء النفوذ الإيراني خارج المعادلة، مقابل ضمان مصالح إسرائيل وتهدئة الجنوب السوري.

في هذا المشهد المركّب، يُرجّح أن لا تحدث التحولات دفعة واحدة، بل عبر مسارات تدريجية، تبدأ من تفاهمات موضعية، وتمتد إلى ترتيبات إقليمية كبرى. كل طرف يحتاج إلى الوقت لإعادة ترتيب أوراقه: "قسد" تحتاج إلى مراجعة ذاتها، تركيا إلى مراجعة عقيدتها الأمنية، حكومة أحمد الشرع إلى تثبيت شرعيتها، والولايات المتحدة إلى رسم خطوطها الحمراء. لكن ما يبدو جليًا أن لحظة الصدام المفتوح في سوريا قد أوشكت على الانتهاء، وأن المشهد الجديد سيكون أقرب إلى "حرب التحالفات" وليس حرب الجيوش.

ما يميز هذه اللحظة التاريخية هو أن كل طرف يملك عناصر ضعف تعادل عناصر قوته، وأن الكل بحاجة إلى تفاهمات شاملة لا تُقصي أحدًا بالكامل. من هنا، فإن الاتفاق التركي – الكردي المحتمل في الداخل، إذا تم، سيكون بمثابة زلزال استراتيجي يهزّ ليس فقط العلاقة بين أنقرة و"قسد"، بل يعيد تعريف التحالفات الإقليمية في سوريا، ويؤسس لمرحلة جديدة، تكون فيها اللغة السياسية – لا العسكرية – هي الأداة الأساسية لرسم مستقبل سوريا.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!