ما بعد مواجهات السويداء: إلى أين تتجه سوريا؟

Site management
0
ما بعد مواجهات السويداء: إلى أين تتجه سوريا؟ 
( قراءة استراتيجية في ملامح النظام الجديد والتوقعات المقبلة )
أستشراف الأحداث: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
أعادت المواجهات الدامية التي اندلعت في محافظة السويداء بين المكونات الدرزية المحلية وقوات العشائر المدعومة من النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) خلط الأوراق السورية مجددًا، وأظهرت هشاشة البنى الجديدة التي تسعى للتمدد جنوبًا تحت مسمى "النظام السوري الجديد". هذه الأحداث، التي لم تكن محض معركة ميدانية، بل فصلًا مفصليًا من فصول رسم خارطة سوريا القادمة، تستوجب قراءة استراتيجية متأنية، تتجاوز مظاهر الاشتباك وتنفذ إلى جوهر الصراع: شكل الدولة القادمة، دور الأقليات، ميزان القوة الإقليمي، وطبيعة التحالفات الخارجية. 
 
أولًا: السياق الميداني – من صراع عسكري إلى اختبار للتماسك الوطني

اندلعت المواجهات بعد تحركات عسكرية نفذتها فصائل تابعة للنظام الجديد بقيادة الجولاني، مدعومة بعناصر من "العشائر السنية" وبعض التشكيلات الدينية السلفية تحت غطاء "قوى أمنية وطنية موحدة". وجدت هذه القوى نفسها أمام مقاومة شرسة من أهالي السويداء، الذين استطاعوا تنظيم دفاع محلي قائم على "الكرامة المجتمعية" والرفض لأي تغول خارجي على مناطقهم.

الاشتباكات لم تكن متكافئة فقط عسكريًا بل سياسيًا أيضًا، حيث مثّل صمود السويداء إعلانًا رمزيًا بأن الجنوب لم يُدمج ضمن "سوريا الجولانية"، وأن هناك قوى مجتمعية ترفض الدخول في المشروع الإسلاموي المغلف بشعارات وحدة الدولة ومحاربة الفساد. 
 
ثانيًا: النظام الجديد... مشروع توسيع أم إعادة تدوير؟

تحاول حكومة أحمد الشرع (الواجهة السياسية الجديدة لـ"هيئة تحرير الشام") إعادة تقديم نفسها كمشروع دولة بديلة، تتخطى النموذج البعثي عبر تبني خطاب مزيج بين الحداثة والهوية الدينية، والانفتاح الخارجي المشروط. ويعتمد هذا النظام على عدة أدوات استراتيجية:

التحالف مع العشائر السنية لتوفير قاعدة اجتماعية واسعة.

الهيمنة على الشمال السوري كمركز نفوذ سياسي-عسكري مدعوم من تركيا وبتنسيق دولي خفي. 
محاولة اختراق الجنوب عبر تفاهمات قبلية وتحريض مذهبي لاستهداف الدروز بوصفهم "جماعة انعزالية". 
استثمار الخطاب المناهض للأسد دون قطع كامل مع بعض أدوات الدولة السابقة، وهو ما يجعله "نظامًا هجينًا". 
لكن المواجهات في السويداء كشفت أن مشروع التوسع هذا ليس سلسًا، وأن هناك حدودًا مجتمعية وعرقية ومذهبية تقف عقبة أمام تمدده. 
 هل انتهت المركزية السورية؟

من أبرز ما كشفته الأحداث الأخيرة هو تفكك فكرة الدولة المركزية السورية. فعلى الأرض هناك على الأقل أربع سلطات واقعية: 
  • السلطة الجديدة في دمشق بقيادة هيئة التحرير (جبهة النصرى).
  • السلطة الكردية في الشرق والشمال الشرقي الممثلة بالإدارة الذاتية. 
  • السلطات المحلية في الجنوب (السويداء تحديدًا) التي تبني مشروعًا أهليًا ديمقراطيًا بديلًا.
  • سلطة المجموعات المرتزقة التابعة للإحتلال التركي.
هذا التفكك يشير إلى انتقال سوريا نحو صيغة ما قبل الفيدرالية، أو نحو شكل من اللا-دولة المنظمة تحت تفاهمات دولية وإقليمية مؤقتة. 
 
راالموقف الدولي – هل الغرب يعيد هندسة سوريا؟

رغم أن الاشتباكات في السويداء بدت محلية، إلا أن تفاعل العواصم الكبرى معها كان واضحًا. فالولايات المتحدة أرسلت إشارات داعمة للتماسك المجتمعي الدرزي، بينما حاولت إسرائيل تمرير رسائل بأنها لن تقبل بتهديد مكون درزي له امتدادات داخل حدودها. 
تركيا، من جهتها، باركت تمدد الجولاني بشكل غير معلن، على اعتبار أنه يشكل ورقة ضغط جديدة على دمشق وقسد. أما روسيا، فبدت خارج المشهد، ما يشير إلى أنها بصدد إعادة تموضع أو إعادة توزيع للثقل الجيوسياسي في سوريا. 
كل هذا يؤكد أن النظام الجديد المدعوم من قوى إقليمية يندرج ضمن عملية إعادة تشكيل للهندسة السياسية السورية، تبدأ من الجنوب ولا تنتهي عنده. 
 
التوقعات المستقبلية – أربعة سيناريوهات محتملة 
 
1. تعزيز الفيدرالية الواقعية 
مع تكرس سلطات الأمر الواقع، قد نصل إلى تقنين غير رسمي للفيدرالية، حيث يُترك لكل منطقة إدارة شؤونها، مع وجود تنسيق هش بين الكيانات المختلفة.
2. انفجار داخلي للنظام الجديد 
إن تمادي الجولاني في استخدام أدوات العنف والمذهبية قد يؤدي إلى تصدعات داخل تحالفاته العشائرية، وربما إلى تمرد داخلي يطيح بمشروعه، خاصة إذا زاد الضغط الدولي عليه.
3. عودة الصراع بين القوى الإقليمية 
قد تتحول السويداء إلى ساحة صراع غير مباشر بين إسرائيل وإيران، عبر وكلاء محليين، ما يهدد بتحول الجنوب إلى نموذج آخر من البادية السورية أو درعا ما بعد الثورة.
4. مبادرة سياسية دولية 
في حال تصاعد خطر تفكك سوريا التام، قد تدفع الدول الفاعلة باتجاه مؤتمر دولي لإنتاج صيغة "سوريا جديدة" على غرار اتفاق دايتون أو الطائف، مع ضمانات للأقليات وترسيم للنفوذ.

سادسًا: الدور الإسرائيلي – من الدعم الرمزي إلى إدارة خطوط النار

رغم ما يبدو من حياد نسبي في الخطاب الرسمي، فإن إسرائيل تراقب تطورات الجنوب السوري بعين حذرة واستراتيجية للغاية. فالسويداء، بما تحتويه من مكون درزي له امتداد داخل فلسطين المحتلة، تُعتبر منطقة حساسة تمسّ العمق الاجتماعي الإسرائيلي. وقد دفعت تل أبيب في السنوات الماضية إلى خلق نوع من "الاستقرار المجتمعي" في جبل العرب عبر دعم غير مباشر لمبادرات الدفاع المحلي وتنسيق غير علني مع بعض القيادات الدينية.

ومع اندلاع المواجهات الأخيرة، برزت إشارات إسرائيلية واضحة: 
تشجيع دولي ضمني على صمود السويداء في وجه التمدد الإسلاموي المدعوم من الجولاني. 
تحذيرات أمنية صدرت عبر القنوات الغربية من مغبة اقتراب قوات تُصنف على أنها "إرهابية" (مثل العشائر المتحالفة مع الجولاني) من حدود الجولان. 
تغطية إعلامية منظمة تهدف لتصوير المعركة كصراع بين "الاعتدال المحلي" و"التطرف السنّي العابر للحدود". 
ولعل أبرز أهداف إسرائيل هي:

منع وصول النفوذ الإيراني أو الإسلاموي إلى تخوم الجولان.

تفكيك أي وحدة جغرافية قد تهدد ميزان التفوق الأمني الإسرائيلي في الجبهة الشمالية. 
الحفاظ على خط فصل ناعم في الجنوب السوري يُشكّل عازلاً آمنًا بينها وبين مناطق التوتر السوري. 
بالتالي، فإن تل أبيب وإن لم تتدخل عسكريًا، فهي حاضرة استراتيجيًا بكل أدواتها غير المباشرة، وتُعدّ فاعلًا ضمن "مجلس أمن الجنوب السوري" الموازي. 
  
الدور الأمريكي – بين دعم الإدارة الذاتية وكبح تمدد الجولاني 

الولايات المتحدة، رغم ما يبدو من انسحاب تكتيكي من ملفات سوريا الكبرى، إلا أنها لا تزال ممسكة بالخيوط المركزية للعبة الجيوسياسية، خاصة في الشرق والجنوب السوري. ويمكن تلخيص موقفها من النظام الجديد ومواجهات السويداء بثلاثة أبعاد:

الاحتواء السياسي للجولاني:

ترى واشنطن في أحمد الشرع لاعبًا براغماتيًا قد يصلح للمرحلة الانتقالية، لكنها تخشى من نزعاته الأيديولوجية وتاريخه الجهادي، خاصة في حال تمدده خارج إدلب. 
لذا فهي توازن بين فتح قنوات اتصال غير رسمية معه عبر وسطاء، ومنع شرعنته دوليًا دون تغييرات جوهرية في بنية سلطته.

حماية الأقليات و"الديمقراطية المحلية":

تدرك الإدارة الأمريكية أن صدام الجولاني مع مكونات مثل الدروز يُفقده ورقة الاعتدال التي يحاول تسويقها. 
لذا، فإنها دعمت بشكل غير مباشر صمود السويداء، وشجعت الإعلام الدولي على إبراز "الاعتداءات على المكونات المجتمعية".

استثمار الفوضى لفرض حل سياسي موجه:

ترى واشنطن أن تفكك المشهد السوري (دون انهيار شامل) هو فرصة لإعادة هندسة الدولة. 
قد تسعى لفرض "حل لا مركزي توافقي" يتوزع فيه النفوذ بين مكونات محلية متحالفة مع واشنطن (قسد، المجالس المحلية، وحدات درزية) مقابل تحجيم الكيانات المعادية (إيران، فصائل القاعدة، النظام العلوي). 
وفي هذا الإطار، تُحافظ واشنطن على قواعدها في التنف والحسكة، وتراقب عن كثب تحركات الجولاني جنوبًا، دون أن تدخل في صدام مباشر، لكنها ترسل رسائلها عبر دعم إعلامي، ومؤسساتي، وحقوقي لقوى محلية تناهض تمدده. 
  
نحو خريطة جديدة لسوريا: الترسيم بالنار والسياسة 
 
كل ما سبق، من تدخل إسرائيلي محسوب إلى دعم أمريكي ناعم، يُشير إلى أن سوريا لم تعد دولة في طور إعادة التوحيد، بل ساحة إعادة ترسيم. فالنظام الجديد بقيادة الجولاني قد يصمد في الشمال، لكنه لن يُحكم الجنوب، تمامًا كما أن الأسد لن يعود إلى إدلب، وقسد لن تحكم دمشق. 
إن التفاهمات الدولية والإقليمية تدفع اليوم نحو ترسيم نفوذ طويل الأمد، قد لا يُعلن رسميًا كحل سياسي، لكنه يُفرض عمليًا بمرور الوقت، عبر خطوط نار، وتفاهمات مجتمعية، وتوازنات عسكرية، وتدفقات الدعم الخارجي. 
السويداء إذًا لم تكن معركة محلية، بل محطة دولية في سباق الدول الكبرى نحو تثبيت "سوريا الجديدة": دولة فسيفسائية، بلا مركز، وبلا مشروع وطني موحد، لكنها مستقرة بمقدار ما ترضى عنه تل أبيب وواشنطن وأنقرة.

خاتمة: نحو عقد اجتماعي جديد أو نحو تفكك نهائي؟

ما بعد مواجهات السويداء ليس كما قبلها. فالصراع في سوريا لم يعد صراع معارضة ونظام فقط، بل أصبح صراع مشاريع حكم متناقضة: إسلاموية، إثنية، عسكرية، جهوية، وتحاول كلها السيطرة على جسد الدولة المفككة. المسألة اليوم لم تعد كيف نُسقط نظام الأسد، بل كيف نبني عقدًا اجتماعيًا جديدًا يتجاوز مركزية القهر والطائفية، ويمنح لكل مكون دوره، دون أن يُخضعه لإيديولوجيا فوقية. 
إن مستقبل سوريا متروك الآن لميدان مفتوح، حيث لا توجد قوة قادرة على فرض رؤيتها وحدها، ما يعني أن الحل لن يكون عسكريًا ولا فئويًا، بل سياسيًا توافقيًا، يخرج من تحت الركام، أو يُفرض من الخارج، أو لا يأتي أبدًا.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!