الشرق الأوسط من 7 أكتوبر 2023 حتى مؤتمر شرم الشيخ 13 أكتوبر 2025 ( تحولات النظام الإقليمي وبروز معادلات القوة الجديدة )

آدمن الموقع
0
 
تحليل: قريق الجيوستراتيجي للدراسات 
منذ السابع من أكتوبر 2023، دخل الشرق الأوسط مرحلة غير مسبوقة من التحول الجيوسياسي العميق. ذلك اليوم لم يكن مجرد لحظة تفجّر لصراعٍ طويل، بل كان الحدّ الفاصل بين زمنين: ما قبل حرب غزة وما بعدها. فالهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل أعاد رسم خرائط التحالفات، وفتح الباب أمام صراعٍ مركّب بين المحلي والإقليمي والدولي، امتدت آثاره إلى كل خطوط التماس في المنطقة، من المتوسط حتى الخليج، ومن جبال قنديل حتى ضفاف النيل.
أدى ذلك الحدث إلى انهيار المسار التقليدي للتسوية السياسية الذي تأسس منذ اتفاق أوسلو، وأظهر أن النظام الإقليمي القائم على الردع العسكري والتطبيع الاقتصادي عاجز عن معالجة جوهر الأزمة، وهو العدالة والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. ومع انخراط القوى الكبرى في دعم أطراف محددة، تحوّل الشرق الأوسط إلى ساحة اختبارٍ للنظام الدولي نفسه، بين من يسعى لإعادة إنتاج الهيمنة عبر القوة، ومن يحاول فرض توازن جديد يستند إلى الندية والسيادة.
  
حرب غزة وإعادة إنتاج مأزق العدالة الدولية

شكّل الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وما تلاه من دمار شامل وقتل واسع النطاق، لحظةً مفصلية في التاريخ الإنساني المعاصر. لم تعد القضية الفلسطينية شأنًا إقليميًا ضيقًا، بل تحوّلت إلى مرآة تكشف الانقسام الأخلاقي في العالم. أدارت إسرائيل حربها وفق مبدأ “الردع بالدمار”، فاستهدفت البنية التحتية والمستشفيات والمدارس، محاولةً فرض واقع جديد يُخضع الفلسطينيين لمنطق القوة. 
لكن النتيجة كانت عكسية: ارتفع منسوب التعاطف العالمي مع الفلسطينيين، وتآكلت شرعية السردية الإسرائيلية في الغرب نفسه، خصوصًا في الجامعات والحركات الشبابية. ومع أن واشنطن وفّرت غطاءً سياسيًا كاملاً لتل أبيب، إلا أن التحولات في الرأي العام الأميركي والغربي أظهرت بداية تصدّع في التحالف غير المشروط. 
على الصعيد العربي، عادت فلسطين إلى مركز الخطاب السياسي بعد أن كانت على هامش الاهتمام الرسمي لسنوات. شعرت الأنظمة بأن تجاهل الكارثة قد يفتح جبهة غضب داخلي يصعب احتواؤها، فبدأت موجة من البيانات والتحركات الدبلوماسية التي وإن بدت شكلية، إلا أنها عبّرت عن عودة الشعور بضرورة حماية الحد الأدنى من الكرامة السياسية العربية. 
  
التحركات التركية – من سياسة الوسيط إلى مشروع التوسع

في خضم الأزمة، صعد الدور التركي بشكلٍ لافت. حاولت أنقرة أن توازن بين موقعها كعضو في الناتو وبين طموحاتها في لعب دور القوة الإقليمية الكبرى. أطلقت خطابًا داعمًا لغزة يلقى صدىً في الشارع العربي والإسلامي، لكنها في الوقت ذاته استغلت انشغال العالم بالحرب لتكثيف عملياتها العسكرية ضد الكُرد في شمال سوريا والعراق. 
الاستراتيجية التركية كانت مزدوجة: من جهة، توظيف المأساة الفلسطينية لإعادة بناء شرعية شعبية داخلية بعد تراجع اقتصادي حاد؛ ومن جهةٍ أخرى، استخدام القوة ضد الكُرد لفرض أمرٍ واقع جغرافي جديد يمتد حتى العمق السوري. هذه الازدواجية بين الخطاب الإنساني والسياسة التوسعية أظهرت حدود النموذج التركي في الجمع بين القومية والإسلام السياسي. 
لم تعد تركيا مجرد قوة عسكرية فاعلة في الشمال السوري، بل تحولت إلى فاعل سياسي يحاول هندسة ترتيبات ما بعد الحرب عبر اتفاقات ميدانية مع روسيا وإيران وقطر. ومع ذلك، تواجه أنقرة مأزقًا استراتيجيًا يتمثل في تناقض مصالحها بين واشنطن وموسكو، وبين طموحها الإقليمي ومحدودية أدواتها الاقتصادية.
ثالثاً: الوضع الكُردي – بين الصمود الجيوسياسي ومحاولة البقاء 
في ظل هذا الاضطراب، وجد الكُرد أنفسهم أمام أكثر المراحل حساسية منذ عام 2014. فالمناطق الكردية في شمال وشرق سوريا أصبحت هدفًا مباشرًا للعمليات التركية الجوية والمدفعية، في وقتٍ خفّضت فيه الولايات المتحدة من حضورها الميداني نتيجة التركيز على جبهات غزة وأوكرانيا.

واجهت الإدارة الذاتية في روجافا ضغطًا ثلاثيًا: 
تركيًا عبر الهجمات المستمرة ومحاولات خنق البنى الإدارية. 
نظاميًا سوريًا عبر محاولات إعادة السيطرة المركزية. 
روسيًا من خلال مبادرات إعادة دمج الكُرد في منظومة دمشق بشروط غير عادلة.

ومع ذلك، أثبتت الحركة الكردية قدرًا ملحوظًا من المرونة السياسية والقدرة على التكيّف. فقد حافظت مؤسساتها المدنية والعسكرية على درجة من التماسك، واستمرت في تطوير إدارةٍ سياسية قائمة على التمثيل والمواطنة المتساوية. كما عملت القوى الكردية على تعزيز حضورها الدبلوماسي في المحافل الأوروبية، في محاولة لتثبيت شرعية تجربتها كجزء من الحل المستقبلي لسوريا لا كملفٍ أمنيٍّ معزول. 
أما في كردستان العراق، فقد واجه الإقليم تحديات مزدوجة: أزمات مالية داخلية وصراعات حزبية، من جهة، وضغوط إيرانية وتركية من جهة أخرى. ومع ذلك، سعت أربيل إلى تبني سياسة توازن دقيق بين التحالف مع واشنطن والحفاظ على المصالح الاقتصادية مع أنقرة وطهران. هذا التموضع البراغماتي أتاح لها النجاة من موجات الاضطراب التي عصفت بالمنطقة، وأكد أن الوعي السياسي الكردي بات يدرك أن البقاء لا يكون في الاصطفاف الأيديولوجي بل في الواقعية الاستراتيجية. 
  
الموقف المصري – استعادة الدور عبر دبلوماسية الاتزان

وسط فوضى الإقليم، برزت مصر كلاعب هادئ لكنه مؤثر. تعاملت القاهرة مع حرب غزة بمنهج يقوم على البراغماتية المتوازنة، حيث جمعت بين التنسيق الأمني مع إسرائيل لحماية حدودها في سيناء، وبين دعمها السياسي والإنساني للفلسطينيين. 
أدركت مصر أن الانزلاق إلى المواجهة المباشرة لن يخدم استقرارها الداخلي، لكنها في الوقت ذاته رفضت تحويل سيناء إلى ساحة تهجير للفلسطينيين. من هنا، اتخذت موقفًا حازمًا في رفض التهجير القسري، ما أكسبها احترامًا إقليميًا ودوليًا. 
سعت القاهرة كذلك إلى إعادة بناء موقعها القيادي من خلال احتضانها الاتصالات الدولية حول إعادة إعمار غزة وتنظيم مؤتمر شرم الشيخ. وبذلك، نجحت في تحويل أزمتها الاقتصادية إلى رافعة دبلوماسية، تثبت أن قوة مصر ليست في سلاحها فقط بل في قدرتها على إدارة التوازنات. 
  
تفكك القوة الهجومية لحزب الله ومقتل نصر الله

في منتصف عام 2025، وصلت المواجهة الإسرائيلية – اللبنانية إلى نقطة انعطاف كبرى، حينما شنّت إسرائيل سلسلة ضربات دقيقة ضد البنية التحتية لحزب الله في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، أدت إلى مقتل عددٍ كبير من القادة العسكريين، وفي مقدمتهم الأمين العام حسن نصر الله. 
هذا الحدث غيّر ميزان القوى في المشرق العربي. فمحور المقاومة الذي كانت إيران تقوده فقد رأسه الأكثر تأثيرًا، ما أدى إلى ارتباك في التواصل بين مكوّناته في العراق واليمن وسوريا. بدا واضحًا أن قدرة الحزب على المبادرة الهجومية قد تلاشت، وأن إسرائيل نجحت مؤقتًا في تفكيك أحد أخطر أذرع طهران. ومع ذلك، خلّف هذا التحول فراغًا خطيرًا في لبنان، حيث انكشفت البلاد أمام احتمالات الفوضى السياسية والأمنية. 
من زاوية أخرى، مثّل اغتيال نصر الله لحظة رمزية لانكشاف حدود الردع الإيراني. فإيران، رغم تهديداتها، لم تقدم على مواجهة مباشرة خشية الانزلاق إلى حرب شاملة، مكتفية بتصعيد إعلامي وتحريك بعض الفصائل في العراق واليمن. هذه المعادلة الجديدة أكدت أن مرحلة ما بعد نصر الله ستكون مختلفة جذريًا في طبيعة التوازن بين طهران وتل أبيب. 
  
مؤتمر شرم الشيخ – محاولة هندسة النظام الإقليمي الجديد

مع نهاية عامين من الاضطراب والحروب بالوكالة، انعقد مؤتمر شرم الشيخ في أكتوبر 2025 ليكون أول محاولة دولية جادة لإعادة صياغة الأمن الإقليمي. اجتمع فيه ممثلو القوى الكبرى والدول الإقليمية، وعلى الطاولة ملفات غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، إضافة إلى قضايا الطاقة واللاجئين وإعادة الإعمار. 
لم يكن المؤتمر مجرّد حدث بروتوكولي، بل محطة لإعادة تعريف مفهوم الأمن في الشرق الأوسط. جرى التوصل إلى توافق مبدئي على ضرورة بناء آليات إقليمية للأمن الجماعي، ومبادرات اقتصادية مشتركة للحد من النفوذ الخارجي. كما طُرحت فكرة "ممر الشرق الأوسط الاقتصادي" الذي يربط الخليج بالمتوسط مرورًا بمصر وإسرائيل، لكن المشروع واجه اعتراضات سياسية وشعبية واسعة بسبب طبيعته التطبيعية. 
الأهم أن المؤتمر أعاد لمصر مركزيتها التاريخية كوسيطٍ متوازن، وأظهر أن الحلول الحقيقية لا تأتي من خارج المنطقة بل من داخلها، عندما تتوفر الإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية لتجاوز منطق القوة نحو منطق العدالة. 
 
خلاصة تحليلية 

بين أكتوبر 2023 وأكتوبر 2025، أعاد الشرق الأوسط تعريف ذاته من جديد. لم تعد القوة العسكرية هي العامل الحاسم الوحيد، بل أصبحت المرونة السياسية والقدرة على التكيف هي السلاح الأهم في عالمٍ تتغير فيه التحالفات كل يوم.
فالمنطقة تسير اليوم نحو نظامٍ إقليميٍ جديد، تتراجع فيه الأيديولوجيات الكبرى لصالح حسابات المصالح، وتبرز فيه قوى غير تقليدية – كالكرد ومصر وتركيا – لتلعب أدوارًا مؤثرة في هندسة المستقبل.
ذلك المستقبل الذي سيُبنى ليس على منطق المنتصر والمنهزم، بل على توازن الضرورات وبناء شراكات متبادلة تحفظ لكل طرفٍ مكانه ومصالحه في عالمٍ ما بعد الحرب.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!