أزمة الحضور الكوردي على تويتر(X) وتيك توك: بين المثقف الجاهل والجاهل المدّعي

آدمن الموقع
0

إعداد المبحث: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
يشهد الفضاء الرقمي الكوردي، خلال السنوات الأخيرة، طفرةً غير مسبوقة في النشاط على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا تويتر (X) وتيك توك، إذ تحوّلت هذه المنصات إلى ميادين رمزية للصراع السياسي والثقافي والهووي. غير أنّ هذا الحضور المكثّف لم يترافق مع تطوّرٍ في المعايير المعرفية أو الأخلاقية للخطاب، بل كشف عن أزمة عميقة في البنية الثقافية والسوسيولوجية للمجتمع الكوردي في المجال الافتراضي، حيث تتبدّى ظاهرة «المثقف الجاهل» و«الجاهل المدّعي» بوصفهما وجهين متناقضين لآفة واحدة: الانفصال بين الوعي الحقيقي والممارسة العامة. 
يهدف هذا البحث التحليلي إلى تفكيك ملامح هذه الأزمة، عبر مقاربة معرفية وسوسيولوجية تستند إلى مفهوم “العقل الجماعي الشبكي، وإلى تحليل الدور الذي تلعبه الخوارزميات في تشكيل الخطاب العام، كما يستحضر مقاربات في علم الاجتماع الرقمي ودراسات الإعلام الجديدة. 
 
أولًا: المشهد الرقمي الكوردي — ما بين التعبئة والسيولة

منذ العام 2014، ومع تصاعد الدور الكوردي في الحرب ضد تنظيم داعش، وبدء تشكّل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، تحوّل الفضاء الإلكتروني إلى ساحةٍ موازية للنقاشات السياسية والثقافية. أظهرت دراسات متفرقة أن عدد الحسابات الكوردية النشطة على تويتر ازداد بنسبة تفوق 200% بين عامي 2016 و2022، في حين شهد تيك توك ارتفاعًا أكبر في عدد المستخدمين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عامًا وفق (Statista, 2023). 
لكن هذه الكثافة الكمية لم تقابلها جودة نوعية في المحتوى، إذ انتشر خطاب عاطفي مفعم بالانفعال القومي، والتهكم، والمبالغة في السرديات، مع غياب شبه كامل للتحقق من المصادر أو التوثيق العلمي. هذه السمات تعبّر عن تسييل الوعي الجمعي، أي فقدان الثبات المعرفي أمام فيضان من الآراء السطحية. 
 
ثانيًا: المثقف الجاهل والجاهل المدّعي — حدود الوعي الزائف

في المشهد الكوردي، يمكن تمييز نموذجين متكررين:

المثقف الجاهل: وهو صاحب معرفة مجتزأة، يستعمل اللغة الأكاديمية أو القومية بنبرة تعالٍ، دون امتلاك أدوات المنهج العلمي أو الإحاطة التاريخية بالموضوعات التي يناقشها. يعتمد هذا النموذج على “ثقافة القصاصة”، أي اقتباس جمل من مقالات ومراجع دون قراءة السياق. وفقًا لتحليل المفكر الألماني يورغن هابرماس، فإنّ هذا النمط يؤدي إلى انحطاط المجال العمومي من فضاء نقاش عقلاني إلى ساحة استعراض رمزي. 
الجاهل المدّعي: على النقيض من الأول، لا يمتلك أي خلفية فكرية لكنه يوظّف أدوات التواصل (الفيديو القصير، السخرية، المبالغة) كتابة منشورات قصيرة لبناء تأثير كاذب، مدعوم بثقة لفظية وعدوانية كلامية. هذا ما يصفه بيير بورديو بـ«العنف الرمزي»، أي فرض سلطة خطابية على المتلقي عبر القوة التعبيرية لا عبر الحقيقة. 
كلا النموذجين يستمدان قوتهما من بنية المنصات ذاتها: الخوارزمية تكافئ من يُحدث صدمة أو استقطابًا، لا من ينتج معرفة دقيقة. 
 
ثالثًا: خوارزميات التفاعل وصناعة الجهل

تقوم خوارزميات تويتر وتيك توك على مبدأ “الانخراط” كمؤشر رئيسي للانتشار. هذا يعني أن أي محتوى يثير الجدل، حتى لو كان مضللًا، يُكافأ بالظهور الأوسع. هذه الخاصية تعيد إنتاج ما يسميه نيل بوستمان “الترفيه حتى الموت”، حيث يتحول الخطاب العام إلى عرض ترفيهي قائم على الإثارة لا المعلومة. 
في السياق الكوردي، تنتج هذه المنظومة فقاعات رأي مغلقة، تُغذيها الحسابات المتشابهة أيديولوجيًا، فتتحول إلى مساحات لتأكيد الذات لا لاكتساب المعرفة. أظهر بحث نشرته جامعة أمستردام عام 2021 أن المحتوى السياسي في المجتمعات المنقسمة إثنيًا (ومنها الكوردية والتركية) يميل بنسبة 70% إلى إعادة إنتاج السرديات المسبقة لا نقضها. 
النتيجة: تراجع ثقافة النقاش الجدلي، وارتفاع معدلات “التحشيد العاطفي”، وتنامي نمط “الفضيحة” كأداة للتعبئة الرقمية. 
 
رابعًا: الشعبوية الرقمية الكوردية — من الخطاب إلى الأداء

التيك توك تحديدًا شكّل الحاضنة الأوضح للشعبوية الرقمية الكوردية. المحتوى الأكثر تداولًا ليس هو الذي يقدّم قراءة سياسية معمقة، بل ذاك الذي يستثمر في العاطفة القومية الفورية عبر الموسيقى، الرقص، أو السخرية من الخصوم.
هذا الأداء البصري ـ كما تشير دراسات الإعلام المرئي ـ يُعيد إنتاج “الذات الجماعية المتخيَّلة” بوصفها عرضًا مستمرًا للانفعال، لا مشروعًا عقلانيًا للهوية. 
وبينما تتيح هذه الأدوات تعبيرًا رمزيًا عن الفخر والانتماء، إلا أنها تُنتج ما يسميه أنطونيو غرامشي “الهيمنة الثقافية المعكوسة”: أي أن الشعبوية تُقنع الجماهير بأنهم أحرار في التعبير، بينما هم في الحقيقة خاضعون لمنطق السوق الرقمي الذي يحدد ما يُقال وكيف يُقال. 
 
خامسًا: تفكك المجال النقدي الكوردي في الفضاء الإلكتروني

في ظل هذا المناخ، فقدت الصفحات الكوردية المستقلة قدرتها على إنتاج نقاش نقدي جاد. باتت اللغة الجدلية مهددة بالإلغاء لصالح لغة التهكم والاختزال. يمكن ملاحظة أن أغلب النقاشات حول قضايا مصيرية (كالعلاقات مع أنقرة، أو مستقبل الإدارة الذاتية، أو الموقف من المعارضة السورية) تُختزل في تغريدات انفعالية من 200 حرف، أو مقاطع فيديو من 30 ثانية، محكومة بمنطق “من معنا ومن ضدنا”. 
هذه الثنائية، كما يحذر نعوم تشومسكي، تُنتج بيئة إعلامية خاضعة لتوجيه غير مباشر، لأنّ تبسيط الواقع يخدم من يمتلك السيطرة على رواية “الخير والشر”. النتيجة النهائية هي إفقار الوعي العام وتحويل القضايا السياسية إلى مادة ترفيهية. 
 
سادسًا: مقاربات تفسيرية — بين البنية الثقافية والبنية التقنية

يمكن تفسير الأزمة عبر مستويين متداخلين:

المستوى الثقافي البنيوي:
 
المجتمع الكوردي ما زال في مرحلة انتقال بين الثقافة الشفاهية والثقافة الرقمية الحديثة. فغياب المؤسسات الأكاديمية والإعلامية القوية، وضعف التعليم النقدي، يؤدي إلى إعادة إنتاج أشكال من «الخطاب الغرائزي» الذي يعتمد على التفاعل الفوري لا على البناء المعرفي.

المستوى التقني البنيوي:
 
المنصات الرقمية لا تكتفي بعرض المحتوى بل تعيد تشكيله وفق خوارزميات التفاعل. كما يوضح Shoshana Zuboff في كتابها The Age of Surveillance Capitalism (2019)، فإن المستخدمين أنفسهم يصبحون مادة خام في نظام اقتصادي يقوم على استثمار البيانات والانفعالات. أي أنّ الخطاب الكوردي على هذه المنصات هو جزء من لعبة أكبر، تهمّش العمق لصالح الانتشار. 
 
سابعًا: النتائج الاجتماعية والسياسية

تعميق الانقسام الداخلي: ازدياد الهجمات الرقمية بين التيارات الكوردية المختلفة يعمّق الشرخ السياسي ويقضي على فرص الحوار. 
تآكل الثقة بالمثقفين الحقيقيين: حين يختلط الصوت المدروس بالصوت الصاخب، يفقد الجمهور القدرة على التمييز. 
تحويل الوعي إلى استهلاك: الجمهور يتحول إلى مستهلك للمشاعر بدلاً من أن يكون فاعلًا سياسيًا. 
فقدان الرأسمال الرمزي: حسب بورديو، المثقف يفقد سلطته حين يتنازل عن المعايير المعرفية لصالح الإثارة. 
 
ثامنًا: نحو بديل معرفي ومسؤول

لا يمكن معالجة هذه الأزمة إلا عبر مشروع طويل المدى يقوم على إعادة بناء البنية المعرفية الرقمية الكوردية، ويتضمن: 
إنشاء منصات مستقلة للتحليل والتدقيق، تعتمد منهجًا بحثيًا موثقًا بدل الخطاب العاطفي. 
تدريب النشطاء والصحفيين على أدوات التحقق الرقمي (Fact-Checking) وفهم الخوارزميات. 
تشجيع التعاون بين الأكاديميين والمحتوى الرقمي، بحيث تنتقل المعرفة من الجامعة إلى الفضاء العام. 
تبنّي “أخلاقيات النشر الكوردي”، كمدونة سلوك رقمي تحمي اللغة والهوية من التلاعب والابتذال. 
هذه الخطوات تمثل ما يسميه الفيلسوف الألماني أولريش بيك “الحداثة التأملية” (Beck, 1992): أي الوعي بالذات في ظل المخاطر الرقمية. 
 
الخلاصة

إنّ أزمة الحضور الكوردي على تويتر وتيك توك ليست مسألة تقنية فحسب، بل تعكس هشاشة البنية الثقافية والسياسية للمجتمع الكوردي في مرحلة التحوّل الرقمي. فحين تتحول المنصات إلى مرآةٍ للانفعالات أكثر من كونها فضاءً للنقاش، وحين تتقدّم “الهوية العاطفية” على “المعرفة العقلانية”، يصبح المثقف الحقيقي غريبًا، وتتحول الجماهير إلى صدى لصوت الخوارزمية. 
من هنا، فإنّ الخروج من هذه الأزمة يقتضي ثورة معرفية هادئة، تعيد الاعتبار للبحث والتوثيق والنقد، وتحوّل الحضور الكوردي الرقمي من مشهد صاخب إلى مشروع وعي جماعي. فالهوية التي لا تُبنى على معرفة، لا يمكنها أن تُدافع عن ذاتها أمام من يملك أدوات السرد والسيطرة. 
 
المراجع العامة: 

Bauman, Z. (2000). Liquid Modernity. Polity Press. 
Beck, U. (1992). Risk Society: Towards a New Modernity. Sage. 
Bourdieu, P. (1991). Language and Symbolic Power. Harvard University Press. 
boyd, d. (2014). It's Complicated: The Social Lives of Networked Teens. Yale University Press. 
Castells, M. (2012). The Network Society: A Cross-Cultural Perspective. Edward Elgar. 
Chouliaraki, L. (2015). The Ironic Spectator: Solidarity in the Age of Post-Humanitarianism. Polity. 
Habermas, J. (1989). The Structural Transformation of the Public Sphere. MIT Press. 
Jenkins, H. (2018). Participatory Culture in a Networked Era. Polity Press. 
Pariser, E. (2011). The Filter Bubble: What the Internet Is Hiding from You. Penguin. 
Postman, N. (1985). Amusing Ourselves to Death. Penguin Books. 
Zuboff, S. (2019). The Age of Surveillance Capitalism. PublicAffairs. 
Chomsky, N. & Herman, E. (1988). Manufacturing Consent. Pantheon Books.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!