خلال العام 1420، عرفت فرنسا واحدة من أتعس فتراتها التاريخية أصبح خلالها وجودها على الخارطة مهدداً، حيث أقدم الملك الفرنسي شارل السادس (Charles VI) وزوجته إيزابو البافارية (Isabeau of Bavaria) على تجريد ابنهما شارل، الذي عرف لاحقاً بشارل السابع (Charles VII)، من حقه في تولي عرش البلاد لصالح ملك إنجلترا هنري الخامس (Henri V).
في حدود سنة 1424، أقدم ملك إنجلترا الجديد هنري السادس (Henry VI)، ابن هنري الخامس، بمساعدة حليفه الفرنسي دوق بورغوني (duke of Burgundy) فيليب الثالث، المعروف بفيليب الطيب (Philip the Good)، على غزو الأراضي الفرنسية ليهيمن على مناطق عديدة منها قبل أن يضرب الحصار على مدينة أورليان (Orléans) التي اعتبرت مفتاح عبور نهر اللوار (Loire). وحال سقوط هذه المدينة في قبضته، كان هنري السادس قادراً على إخضاع بقية الأراضي الفرنسية بسهولة تامة. وفي الأثناء، لم يكن للملك الإنجليزي ما يريد حيث اصطدمت طموحاته بتضحية فتاة ريفية أنقذت عرش فرنسا.
صورة لملك إنكلترا هنري السادس
صورة ملك أنكلترا هنري الخامس
ولدت جان دارك (Jeanne d’Arc) في حدود العام 1412 بقرية دومريمي (Domrémy) بالشمال الشرقي لفرنسا لعائلة ريفية امتهنت الفلاحة. وخلال طفولتها، لم تتعلم جان دارك القراءة والكتابة وفي المقابل تميزت الأخيرة بتمسكها الشديد بالكاثوليكية ويعود الفضل في ذلك لوالدتها المتدينة التي زرعت فيها حب المذهب الكاثوليكي منذ الطفولة.
في 13 من عمرها، أعلنت جان دارك عن سماعها لأصوات غريبة سرعان ما اعتبرتها أصوات إلهية، كما أعلنت عن اختيارها لقيادة مهمة مقدّسة لتنصيب الملك شارل السابع على عرش فرنسا وطرد الإنجليز.
خلال شهر أيار/مايو سنة 1428، اتجهت جان دارك لمنطقة فوكلور (Vaucouleurs) للقاء عدد من المقربين والأوفياء للملك شارل السابع لإخبارهم عن رؤيتها ومهمتها الإلهية التي تقتضي بإعادة الملك وتنصيبه على عرش فرنسا. وبادئ الأمر، رفض المسؤول المحلي روبرت دي بودريكورت (Robert de Baudricourt) تصديق أقوال جان دارك التي اتهمت بالجنون والتعامل مع الشياطين. لكن لاحقاً، رضخ دي بودريكورت وصدّق أقوال جان دارك ليوافق على إرسالها مع عدد من الأوفياء للقاء الملك وإقناعه بمنحها جيشاً.
صورة للملك الفرنسي شارل السابع
صورة لملك فرنسا شارل السادس
وعلى مدار 11 يوماً، تنكرت جان دارك مرتدية ثياب الرجال لتسافر برفقة عدد من الأوفياء عبر أراضي العدو قبل أن تتمكن من بلوغ منطقة شينون (Chinon) لتلتقي بالملك. وعلى حسب إحدى الأساطير الفرنسية، تمكنت جان دارك، الملقبة بعذراء أورليان، من التعرف على الملك شارل السابع من بين الحاضرين على الرغم من عدم رؤيتها له سابقاً، وهو الأمر الذي أثار ذهول كثير من وزراء الملك.
وخلافاً لنصائح وزرائه، وافق الملك على طلب جان دارك، والتي وعدته بإعادة تنصيبه على عرش فرنسا، ليقدم على تزويدها بجيش لمواجهة الإنجليز. وخلال شهر آذار/مارس 1429، انطلقت جان دارك مرتدية دروعاً بيضاء على متن حصان أبيض نحو أورليان لفك الحصار عنها. وفي الأثناء، قادت عذراء أورليان العديد من الهجمات لتتمكن في النهاية من إجبار الإنجليز وحلفائهم على التراجع عبر نهر اللوار. وعقب هذا النجاح العسكري المذهل، كسبت جان دارك شعبية هائلة لتقدم لاحقاً على اصطحاب الملك عبر أراضي العدو نحو منطقة ريمس (Reims) لتنصيبه خلال شهر تموز/يوليو 1429 ملكاً على فرنسا.
خلال ربيع سنة 1430، تلقت جان دارك أوامر من الملك بقيادة هجوم عند منطقة كومبيين (Compiégne) لتعزيز مواقع الفرنسيين. وعلى حسب العديد من المؤرخين، سعى الملك للتخلص من عذراء أورليان خلال هذه العملية بسبب تعاظم نفوذها. وأثناء دفاعها عن المدينة وأهاليها، وقعت جان دارك من فوق حصانها لتظل طريحة الأرض خارج أسوار المدينة وليقدم العدو على القبض عليها واصطحابها نحو قصر بوفريل (castle of Bouvreuil).
صورة خيالية ل جان دارك
صورة تخيلية أثناء التحقيق مع جان دارك
أثناء محاكمتها، واجهت جان دارك نحو 70 تهمة كانت أبرزها التعامل مع الشيطان وممارسة السحر الأسود والهرطقة والتشبه بالرجال عن طريق ارتداء ثياب ذكورية. وعلى الرغم من دورها الهام في تنصيبه ملكاً على فرنسا، لم يقم شارل السابع بأية محاولة لتحريرها تاركا إياها في قبضة العدو. وبعد نحو سنة في الأسر، تراجعت جان دارك خلال شهر أيار/مايو 1431 عن كل أقوالها مؤكدة عدم تلقيها لإشارات إلهية لمحاربة الإنجليز. لكن بعد أيام وجيزة، شاهدها الحراس مرتدية ثياب الرجال مرة ثانية ليصدر في حقها على إثر ذلك حكم بالإعدام حرقاً من قبل أسقف بوفيه بيير كوشون (Pierre Cauchon) الذي اتهمها بالهرطقة والارتداد. وعلى حسب العديد من المؤرخين، اتجهت جان دارك لارتداء ثياب الرجال مرة ثانية لتجنب الإهانة عقب تعرضها للضرب والاغتصاب من قبل حراس السجن.
صورة تخيلية لحرق جان دارك
صباح يوم 30 من شهر أيار/مايو 1431، تم تنفيذ حكم الإعدام حرقاً بحق جان دارك لتفارق الأخيرة الحياة عن عمر يناهز 19 سنة.
بعد نحو 20 عاما، أعيد النظر في قضية جان دارك بناء على طلب من شارل السابع لتتم تبرئتها مما اتهمت به كما أقرت الكنيسة الكاثوليكية بذلك سنة 1456 واعتبرتها شهيدة. وخلال القرون التالية، تحوّلت جان دارك إلى شخصية مركزية وقومية بفرنسا خاصة مع إقدام نابليون بونابرت على منحها مرتبة رمز وطني سنة 1803. وخلال العام 1909، تمت عملية تطويب جان دارك والتي تحولت لقديسة لدى الكنيسة الكاثوليكية بحلول عام 1920.
المصدر: طه عبد الناصر رمضان والعربية نت.