تحليل إستراتيجي: إبراهيم كابان
خاص/ مجلة الفكر الحر- العدد الأول 15 نيسان 2020
ما لا يتم ملاحظته إن النظام التركي يعيش حالة تحولات مصيرية في سياساته حيال الوضع السوري، لا سيما وإن الإشكاليات التي وقع به رأس النظام أدخل بتركيا في نفق مظلم من العلاقات الدولية، وبالتالي العبث بمكانة تركيا مع المحيط الإقليمي والدولي.
لو نظرنا بتمعن إلى الخارطة السياسية للعلاقات التركية مع المحيط العربي، سنجد الإفلاس السياسي التركي، وحالات المواجهة مع عدد كبير من الدول النافذة في الشرق الأوسط، وليس فقط الكبرى منها وإنما الدول الإقليمية معظمها أصبحت لا تتعاطى مع النظام التركي ، وهناك حجم العداء والمواجهات بلغت أوجها على الإعلام، وهذا واضح من خلال فهم الموقف المصري - السعودي – الإماراتي، ورؤيتهم حول تركيا التي تشكل خطراً على المنطقة وتدعم المجموعات الإرهابية المتطرفة، وحركة أخوان المسلمين التي بدورها تشكل أعباء على كاهل هذه الدول، والسعي لزعزعة أمن وأستقرارها بدعم علني من الأتراك. وطبعاً اللمسات الاستخباراتية التركية واضحة في إثارة كل هذه الإشكاليات مع تلك الدول. وبنفس المستوى بلغ حجم التمعض من السياسات التركية المعادية لدى دول الإتحاد الأوروبي، وتشكل اليوم معضلة حقيقة وخيبة امل كبيرة في المنطقة، وذلك كنتيجة تحول الجارة تركيا إلى أكبر مثير للإشكاليات، ومهدد أمن وأستقرار الدول الأوروبية. والملاحظ أيضاً مستوى ردود الفعل الشعبي والبرلماني داخل الإتحاد الأوروبي للأستفزازات التركية المستمرة، وإن كانت أوروبا تستخدم النقد الناعم في رفض التصرفات التركية، إلا أن ذلك لن يستمر بالشكل الذي يتمناه النظام التركي، وهذه نتيجةحتمية لمخلفات السياسات التركية الناتجة عن هذه التصرفات وبطبيعة الحال ستكون مكلفة على أوروبا إن بقيا النظام التركي الحالي على رأس الدولة التركية.
ومن الواضح أيضاً إن تركيا الآن مستبعدة تماماً لأن تكون جزء من الاتحاد الأوروبي، وأية تفاهمات معها إنما نتاج ضروري بالنسبة للمصالح الأوروبية، بغية كسب مزيد من الوقت حتى ينهار الحزب التركي الحاكم من الداخل. وحقيقة ما يحصل داخل حزب العدالة والتنمية من تشرذم وإنشقاقات ستكون كفيلة بتحقيق ذلك من الداخل، دون أن تكلف أوروبا بأية تكاليف أمنية وسياسية وإقتصادية. بالإضافة إلى ذلك فإن الشارع الأوروبي أصبح يتزمت حيال سياسات حكماتها، وينظر لتركيا على إنها بؤرة لإنتاج التطرف والإرهاب وتهديداً جدياً للقيم الحريات والعدالة والديمقراطية، وهذه القناعة ناتجة عن تصرفات النظام التركي الحاكم الذي غير الكثير من القوانين تخوله للسيطرة على مقاليد الحكم وإدارة البلاد لأن تكون عى شاكلة الدولة الإستبدادية، وبذلك تكون اكثر قمعية وإرهاباً ما عليها تركيا خلال عقود سواء بيد العسكر وأنقلاباتهم أو الاحزاب القوموية العنصرية، والتي تحجم الحريات العامة وتدمير الحياة السياسية صالح إعادة سلطنة عثمانية أو العنصرية المغطاة بالدموية القوموية الآتتوركية. والخوف الأوروبي تكرس حينما بادر النظام التركي إلى إعادة الدولة لسابق عهدها، وتتعامل مع القضايات الداخلية والخارجية بلغة التطرف والإعتقال والمحاكم الصورية.
بالنظر إلى الداخل التركي من منظور إقتصادي، تشهد حالة انهيار وإفلاس كبيرين للشركات الداعمة لمشاريع النظام التركي على المستوى الداخلي والخارجي، إذ وفرت تلك الشركات أموال طائلة لدعم اليد العاملة والمزارعين والمؤسسات الصغيرة والمعامل التي كانت في مقدمة من وظفتهم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة، وتشكيل الشعبية والحصول على أصواتهم، وبسبب وقف دعم هذه الشركات ستتوقف الجهات المستفيدة من الدعم، وبذلك يفقد النظام هذه الاصوات في الانتخابات القادمة. وحتماً سيؤثر ذلك بالخارطة السياسية داخل تركيا، والمستفيد الأول ستكون المعارضة الكردية والتركية. لهذا طبيعة رفع مستوى آلة القمع من قبل أدوات النظام هو نتاج وتعبير طبيعيين بعد فقدانه للهدء والتنامي ودخل في مرحلة التصرف بعنف مفرط الذي يؤدي في المحصلة إلى طبيعة الأنظمة التركية السابقة في إستخدام لغة العنف والقتل والتصفية، وتعني ذلك فقدانها لكثير من المؤيدين، وبالتالي فقدان قواعد السيطرة على الحكم. ويمكن فهم ذلك من خلال استخدام ادوات الترهيب والتهديد لإبعاد المعارضة عن الشارع التركي، لأن خلق الرعب والتهجم على المعارضة بآليات القتل والتصفية يكرس الخوف لدى الشعب، وهذا يعني محاولة إبعادهم عن المعارضة إذا في حال خسرهم النظام. "في الواقع نحن أمام تصرفات امنية متعمدة للنظام قبيل أية استحقاقات قادمة على مصيرها".
لقد أثرت الانشقاقات داخل الحزب الحاكم كثيراً على صيرورة تحكم النظام بقواعد الهيمنة الشعبية، و تحول أهم مرتكزاته الايديولوجية إلى حالة خصام له في الشارع، مقابل تصاعد نبرة التطرف لدى الحزب وتوجهه إلى حماية استمراريته من خلال تكريس التطرف وتأسيس مجموعات شبه عسكرية مرادفة شُهدت في الشارع التركي وهي تقمع المظاهرات المناوئة للنظام.
البلطجية السياسية المتبعة من قبل النظام التركي تظهر بشكل واضح في تصرفات رأس النظام، وهو ما يتضح من خلال تهديداته للمجتمع الأوروبي، من خلال فتح الباب أمام اللاجئين والمتطرفين للتوجه إليها وخلق أزمة مع القبرص واليونان حول المجال البحري، والتنقيب عن الغاز، ودعم المتطرفين في ليبيا لزعزعة أمن وأستقرار المنطقة، وبنفس الوقت الطلب من الدول الغربية بدفع الأموال له وحمايته من التهديدات الروسية، في الوقت الذي أستخدم فيه العلاقة مع روسيا لتهديد المصالح الغربية في سوريا.
التقلبات المصلحية
- بينما هو عائداً بطائرته من موسكو بعد الاتفاق مع بوتين للقبول بتسليم 60% من محافظة إدلب!. ومحاولة الحصول على بطاريات باتريوت من حلف الناتو وطلب الاسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية وبنفس الوقت الاستمرار بصفقة شراء صواريخ أس 400 الروسية!.
- دعم مجموعات المسلحة للمعارضة السورية المتطرفة وبنفس السياق الاتفاق مع الروس والإيرانيين والنظام السوري في كسر شوكة هذه المجاميع!. التعامل مع إسرائيل ودعم المتطرفين في مصر والمنطقة العربية، بالتزامن مع إدعاء نصرة القضية الفلسطينية!.
- إحتلال أجزاء من سوريا وإلحاق هذه المناطق بالدولة التركية من خلال تغيير معالمها وتتريكها وإجراء التغيير الديمغرافي بحق السكان الاصليين، وبنفس الوقت توجيه تهمة الإنفصال إلى الكرد السوريين!.
هذه التقلبات ستنعكس على نظامه سلباً لا محال، لأن العلاقات الدولية والدبلوماسية الرسينة لا تبنى من خلال هذه التحركات المتناقضة، حتى وإن كانت مصلحية، هذه التصرفات ستنتج في المحصلة عن تدهور كبير في العلاقات مع المجتمع الدولي، وبذلك تركيا مقبلة في ظل هذا النظام على مزيداً من التباعد عن المحيط العربي والأوروبي.
سياسة أستخدام كل الوسائل من أجل الحصول على كل شيء لا تنجح دائماً في العلاقات المصلحية الدولية، لكون تركيا ليست دولة كبرى، ولا تملك الإمكانيات والمقومات التي تساعدها في مصارعة المصالح الدول الكبرى من جهة أو فرض حصولها على حصص من التنافس الدولي في الشرق الأوسط. ويتضح من خلال تصرفات النظام وماهية تحركاتها لخلق بلبلة زعزعة الإستقرار في الشمال السوري والبحر المتوسط والتدخل في تدمير ليبيا، إنما هي عملية خاطئة في التعامل مع القوى الكبرى التي تتقاسم المصالح وتتجددها بحكم المتغيرات في الشرق الأوسط، وهنا ندرك تماماً حجم المستنقع الذي وقع فيه النظام التركي على مستوى الدولي. وتركيا التي كانت مرشحة للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي أصبحت اليوم مكروهة من قبل المجتمع الغربي ككل، وبينما كانت مرشحة لأن تكون من الاقتصاديات المهمة في الشرق الأوسط، فقدت اليوم توازنها بسبب الحروب الدونكيشوتية للنظام، وتعيش تركيا حالياً مأزقاً كبيراً على المستوى الدولي، وبالتالي ستؤثر بشكل كبير على مكانتها ومستقبلها، لتصبح بؤرة مشاكل ونزاعات وتطرف.
الإصرار على إحتلال أجزاء من سوريا وفق إستراتيجية " سوريا للجميع – وحصتنا من الكعكة حقنا المشروع التاريخي "، والتنقل بين القوى الدولية المؤثرة في الحدث السوري، أنتجت بطبيعة الحال نفقاً مظلماً للسياسات التركية المستقبلية، فالعامل الروسي في سوريا لم يكن بمحض الصدفة، وإنما إستراتيجية بعيدة المدى تتخذها إدارة بوتين في مواجهة القوى الغربية المتصاعدة، ولا يمكن لتركيا تجاوزها مهما كانت قربها الجغرافي أو حجم أطماعها في أستخدام بعض الأدوات السورية لتثبيت حصتها. وبنفس المستوى وأكثر يثبت الأمريكيين وجودهم في المناطق الحساسة بين سوريا والعراق، ويسيطرون على منابع الثروة الأحفورية، وقد يكون وجودها ثابت كإستراتيجية ناتجة عن التوافق داخل المؤسسة العسكرية والآستخباراتية والكونغرس، وهذا أيضاً يشكل عبئاً على المصالح التركية الاحتلالية في شمال سوريا. والتحول التركي من محور إلى آخر أنتج بطبيعة الحال إشكالية فقدان الثقة بها لدى الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية، وبالتالي أثرت ذلك على العلاقات التركية مع المحورين، وإن كانت سياسة جذب الأتراك محببة لدى الروس والأمريكيين معاً إلا أن الدخول التركي في الشرخ بين القوة الكبرى أفقدها التوزان الدبلوماسي، وهو ما نشاهده بكل وضوح في خطابات وتصرفات رأس النظام التركي، والتحركات الجيش الجنونية في الشمال السوري وليبيا، وفقدان القوة الداخلية أمام الشعب، الذي بدوره فقد الثقة بالنظام، وبذلك خسر الحزب الحاكم وحليفه الحركة القومية الكثير من الشعبية والإمكانيات الإقتصادية، وإفلاس كبير للشركات، لا سيما بعد تحويل السياسات الاقتصادية التي كانت منفعة عامة إلى الدائرة الضيقة من السياسيين والعسكريين المواليين للنظام.
الآزمة الداخلية تتفاقم وأطراف الحزب الحاكم تتلاشى
كل اخطاء النظام التركي خارج البلاد أنعكست سلباً على الحزب الحاكم في الداخل، وتسببت في التراجع الكبير لشعبية أردوغان، مقابل جني المعارضة ثمار تلاشي النظام جراء السياسات والمغامرات الخارجية، لصالح تقوية أحزاب المعارضة التي توظف الاخفاقات المستمرة للحزب الحاكم. وبطبيعة الحال سوف تستثمر لضرب شعبية النظام، مقابل تصرفات يبديه النظام ستصب أيضاً لصالح خطاب المعارضة خلال الممارسات الجوفاء للنظام حيال القضايا الداخلية العالقة، لا سيما وإن النظام التركي عرض العلمانية في تركيا إلى خطر كبير بعد إقرار الكثير من القوانين لصالح أسلمة النظام، وبنفس السياق تسببت ممارسات السلبية للحلقة الضيقة التي تحيط برأس النظام في المجال السياسي والتنظيمي والمالي داخل الحزب دفع بالحزب إلى التفكك والانشقاقات العديدة، والرجالات التي كانت تدعم أردوغان وتشاركه في قيادة المجتمع تخلوا عنه لصالح إنشاء أحزاب جديدة تطرح حلول شاملة للوضع التركي الداخلي، وتعمل على فضح سياسيات رأس النظام.
شريك حزب الحاكم MHP والتنصل من المسؤولية عند الضرورة
دأبت الحركة القومية التركية على دفع حزب العدالة والتنمية إلى خلق أزمات متتالية مع المحيط العربي والأوروبي من خلال أستخدام الأدوات العنفية وتنمية الفكر المتطرف الذي ينظما هذه الحركة ويديرها بشكل موازي مع حزب العدالة والتنمية. ولعّل الشراكة التي يتمسك بها حزب العدالة والتنمية أفقدها التوزان السياسي من طرف، ودفعها إلى العنف المركز حيال المعارضة الداخلية، والشعب الكردي، والتحرك لإحتلال أجزاء من سوريا، وإقامة حاكميات تركمانية في المنطقة الكردية، وتوسع قواعدها العسكرية داخل إقليم كردستان العراق، وإستخدام آلة المقمع والتنكيل الداخلي بالتزامن مع خلق بلبلة وقلاقل مع المحيط كمحصلة لضرب الداخل من أجل دعم المشاريع الخارجية، وستخدام بروبغندا خارج تركيا لأجل إسكات المعارضة في الداخل. وبطبيعة الحال أجلب لتركيا مزيداً من الخلافات مع المجتمع الدولي.
الكثيرون ربما لا يدركون خطورة ما تتبناها الحركة القومية المتطرفة التي باتت تدفع بالنظام للتصرف بكثير من الحماقة حيال القضاية الاستراتيجية، إلا أن الواقع التركي خلال السنوات الخمسة الماضية أظهرت طبيعة العصبية السياسية ومناهضة الديمقراطية والإنفراجات الحقوقية داخل تركيا. والحركة القومية مشهورة في العزف على هذا المنوال لتغييب اية أواصر الديمقراطية داخل البلاد وإعادتها إلى الإنكماش الأمني، وممارسة الطغيان بحق المكونات الأخرى داخل البلاد، لا سيما بحق الشعب الكردي الذي عان الممارسات الوحشية لهذا النظام في كافة مراحله العلمانية والقوموية والإسلاماوية، فباتت تركيا سجناً مظلماً ينتهك فيها أدوات تحالف النظام (الحركة القومية والعدالة والتنمية).
الحركة القومية لا تجد تركيا إلا بصورة واحدة، وأهدافها الرئيسية تكمن في تكريس محاربة الديمقراطية وحقوق الإنسان، لطالما تتمسك بتركيا قوموية مناهضة للتطورات الحضارية في أوروبا.
وأعتقد إن حالة التزاوج السياسي بين حزب العدالة والتنمية الذي أخذ منحى التطرف الديني مؤخراً، والحركة القومية التي تتخذ آداة العنصرية المتطرفة، أصحبت علاقتهما اكثر تقارباً، وسينتج هذا التقارب بين المتطرفين عن تباعد كبير عما قريب حينما يصل النظام التركي إلى حافة السقوط الحتمي، والحركة القومية لديها مخالب وأدوات عنيفة داخل مؤسسة الجيش والأمن، وكذلك داخل المؤسسات الاقتصادية، والدولة العميقة التي تقود تركيا تكاد رهينة الحركة القومية إذا ما قسنا بقية الأطراف مع الواقع الداخلي التركي، وبذلك سنجد في الفترات القادمة حالة طلاق بين الحليفين " حزب العدالة والتنمية AKPوالحركة القومية MHP "، وستحاول الحركة القومية مد الخطوات مع حزب الشعب الجمهوري CHP إن قويت شوكتها داخل الشارع التركي، وهدف هذه الاستراتيجية بالنسبة للحركة القوموية هو منع تفاهم بين حزب الشعب الجمهوري CHP وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي HDP.
فشل سياسة الابتزاز واللعب على حبلين
أخفق رأس النظام التركي في اللعب على حبل العلاقات المزدوجة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في آنٍ واحد، بعد التنقل من الحاضنة الروسية إلى إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة للمواجهات التي شهدتها محافظة إدلب السورية بين قوات النظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية المسلحة، وقوات الاحتلال التركي التي تدعم المجموعات المرتزقة للمعارضة السورية في مناطق إحتلالها شمال سوريا. ومع تطور الاحداث وإحتمالية إندلاع المواجهات بين الاحتلال التركي والجيش الروسي، التجأ النظام التركي إلى حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، سعياً منها الحصول على دعم في مواجهة تقدم النظام المدعوم من الروس والإيرانيين، إلا أن الأمريكيين امتنعوا بالاضافة إلى حلف الناتو من تقديم مساعدات عسكرية عينية إلى النظام التركي تحت بند الخامس الذي يجبر دول الناتو في الدفاع عن الدول الاعضاء إذا تعرضت للهجوم، وبما إن الخلافات كبيرة بين دول الاتحاد مع النظام التركي بسبب التصرفات التركية في البحر المتوسط، وزعزعة أمن وأستقرار دول الاتحاد، وخلق الاشكاليات مع قبرص واليونان، والتمدد نحو ليبيا ودعم المتطرفين هناك، إلى جانب التدخل العسكري التركي لإحتلال مناطق في الشمال السوري ومواجهة قوات سوريا الديمقراطية التي هي حليف استراتيجي للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة الداعش، بالإضافة إلى الدعم التركي المتواصل للجماعات المتطرفة، وإستخدام ملف اللاجئين السوريين لإبتزاز دول الاتحاد الأوروبي. هذه الملفات كانت كافية لتقاعس الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في التأخر عن تلبية طلب النظام التركي لتقديم المساعدة إلى القوات التركية المحاربة في الشمال السوري، لا سيما بعد تعرض قوات الاحتلال التركي إلى ضربات عنيفة من قبل الطائرات الروسية، وأستحواذ النظام السوري وميليشياته على أجزاء كبيرة من محافظة إدلب، وهو ما تعرض المخططات التركية الرامية إلى إحتلال المنطقة الكردية وأجزاء من سوريا إلى التحجيم.
لقد أظهرت تلك المواجهات حجم العلاقات الهشة بين الروس والأتراك، والتراجع الكبير للعلاقات الأمريكي الأوروبية مع النظام التركي، مقابل الفشل التركي في إجراء إتفاق حقيقي مع الروس حول إدلب، لا سيما بعد عقد اتفاق هش بين اردوغان وبوتين في سيناريو مهين نفذه الرئيس الروسي أثناء أستقبال رأس النظام التركي "أردوغان" والوفد المرافق له في موسكو، وممارسة الضغوطات عليه للتوقيع على ملحق لإتفاقيات سوتشي، والتي بموجبها سيطر النظام السوري على أكبر مساحة ضمن محافظة ادلب بطرقها ومدنها الاستراتيجية. حيث تبين عمق الخلافات بين الطرفين بالرغم من التفاهمات التي تمت في سوريا خلال السنوات الخمسة الماضية ونجم عن تسليم النظام التركي لمعظم مناطق المعارضة إلى النظام السوري مقابل تجميع المرتزقة في محافظة إدلب وإقحامهم في معارك ضد الكُرد في الشمال السوري، وهو ما أنتج عن إحتلال تركي لمناطق شاسعة من روجآفا/ المنطقة الكردية، وكذلك تنفيذ مشروع استيطاني لتوطين العرب السنة والتركمان في المنطقة الكردية الممتدة من عفرين إلى سري كانيه " رأس العين "، مقابل تهجير مئات الالاف من الكُرد إلى خارج مناطقهم.
إذاً في المحصلة ندرك تماماً دوافع الحروب الدونكيشوتية التي يوقدها النظام التركي، وألا مبالاة للمخاطر المحدقة بتركيا قد يكون دافعاً إلى خسارته كل شيء في الداخل، وبوادر ذلك اتضحت مع خسارة النظمام لبلديات كبرى المدن التركية، وبات يفقد السيطرة على الوضع الاقتصادي المتأزم، وسوف يكون لتفشي مرض كورونا الأثر البليغ على تضعيف النظام، ومسألة إستخدام المجموعات والميليشيات في ليبيا سوف لن تستمر، لأن تلك المنطقة جزء من ملعب المصالح الغربية، ولا يمكن لتركيا أن تستفيد من ثروات ليبيا كما تشتهي، وقد نجحت الدول الغربية بعد مؤتمر برلين الذي انعقد بتاريخ 19.01.2020 قص جوانح النظام التركي في البحر المتوسط وليبيا، والحد من تصرفاتها وتوسعها حول قبرص بعد المحاولات منها في خلق ازمة أنعكست سلباً في مضمونها على تركيا، وزادت من نقمة المجتمع الغربي على النظام، وتضخمت وطأة الضغوطات عليها، وتنامي الرفض الشعبي الأوروبي والعربي للسياسات البلطجة التي ينتهجها النظام التركي مثال على تدهور المصالح الإستراتيجية لتركيا في هذه الدول الحيوية في رسم سياسات الإستراتيجية في الشرق الأوسط.