مسارات الأزمة السورية " توطئة "

آدمن الموقع
0

توطئة 

لايمكن قراءة المشهد السوري بمعزل عن الأزمات المتصارعة التي تعصف بالشرق الأوسط، لاسيّما وان هذه المنطقة الحيوية تجذب باستمرار شهية القوى الكبرى للتنافس عليها، لِمّا تحتويه من ثروات أحفورية وأكبر احتياطي النفط في العالم، وتجلب بذلك النزاعات بين هذه القوى وحلفائها المحليين من الدول الإقليمية، والأحزاب والتيارات المحلية داخل كل دولة، وبالتالي تكون المنطقة ساحة للحروب والمواجهات المفتوحة، وسوقاً ثميناً للشركات الناهبة بغية صرف منتجاتها، مقابل الاستحواذ على مقدرات المنطقة.
لقد دأبت القوى الكبرى على إدارة المنطقة وفق سياسة التوازنات والمصالح، والخطط والتكتيكات التي توفر لها الأرضية السياسية والعسكرية والشعبية، مما تحولت جميع المجالات البحرية والبرية والجوية إلى ممرات لتنفيذ أجندتها، واستخدمت في ذلك القوى المحلية " الأنظمة "، التي أحكمت قبضتها على الشعوب، ومن اجل الحفاظ على سيطرتها تحولت إلى آليات تنفيذية للقوى الكبرى، حتى أصبح الشرق الأوسط مجرد ساحة حرب كبيرة يستهلك فيها المقدرات لشراء الاسلحة والأدوات العنفية التي جلبت القتل والدمار والخراب. 
ولعّلَ الأزمة السورية وما نتجَ عن الربيع " الشرق الأوسطي " والشكل الذي استقر عليه كل موقعة أبتداء من تونس ومصر وليبيا وصولاً إلى اليمن وسوريا ولاحقاً الجزائر والعراق وإيران وتركيا ولبنان، أظهرت الواقع الذي عانت منه المنطقة ودفعته الظروف الموضوعية إلى المواجهات، وظهور قوى مختلفة أبعد من أن تكون متطرفة تم استخدامها من قبل الأنظمة الحاكمة، وأخرى انطلقت من المظاليم التي عانتها وحاولت الاستفادة من هذه التطورات، مقابل فوضى كبرى افتعلتها الأحداث وأدوات الانظمة، وكان ذلك كافياً بان تدخل عموم الشرق الأوسط في نفق مظلم زادت من وطأة شرور الأنظمة وأدواتها العنفية التي أصبحت أكثر شراسة في ظل الفوضى وتوفر التغطية الدولية على أعمالها الإجرامية.
إن أهمية تحليل الحدث السوري من بوابة ما تفرع عنه من أزمات وحرب أهلية واشكاليات وصراع دولي وحجم المناقصات التي تمت على حساب السوريين، لهو مفتاح لفهم الأزمات في الشرق الأوسط، وبالتالي المتغيرات والسيناريوهات المتوقعة للوضع السوري. لهذا فإن التفاعلات الدولية التي أنتجت بدورها الخلافات العميقة، والمواقف السياسية المتشنجة، وحالات الصراع المقيت على تضمين المصالح الإستراتيجية لكل طرف من الكعكة السورية، والاصطفافات التي تمت وأبرزت بدورها أهمية الحضور والمشاركة في تحديد مسارات الأزمة السورية، إلى جانب البروباغندا التي تم استخدامها في استمالة الأنظار إلى سوريا كغطاء لجميع القوى المعنية في تغييب الكثير من الاحداث الدولية والقضايا الحساسة، هي في المحصلة مسائل مفروضة على الواقع السوري، وبالتالي أتمت دورتها الطبيعية لاستكمال الاحداث ومفرزاتها. 
فإن توسعة رقعة الحدث السوري وتفاعلاتها أنتجت الكثير من التحولات في المحيط الإقليمي والدولي، ولم تقل وطأتها في الداخل السوري عن المحيط الذي أستمال أيضاً إلى التفاعل سلباً أو إيجاباً مع ما شهدته، حتى أصبحت المسألة السورية دولية بامتياز، وكأننا أمام بوابة تطل على جميع المشاكل الدولية، ويشارك في إدارتها القوى الكبرى التي تحكم بالاقتصاد والجيوش والأسلحة الفتاكة.
ولم تكن ذلك ببعيد عن الدول الإقليمية لسوريا، والتي تدخلت بعضها بجيوشها وعتادها بغية تمكين مصالحها بالقوة عبر بعض القوى المحلية، لاسيّما المجموعات المسلحة التي ساهمت في تثبيت نوعية التعبئة الموجهة من قبل تلك الدول في زيادة وتيرة حالات التنافر والتشرذم، إلى جانب ظهور المنظمات الدولية في صورة سلبية متوحشة لا تقوى على إدارة الحلول بشكل حقيقي دون الإعادة إلى القوى الدولية المتصارعة في سوريا، والتي تسببت بدورها في زيادة الأزمة وتطويرها لتأخذ مجرى آخر نحو رعاية تدمير البنية التحتية لسوريا، وإفصاحها المجال للدول الإقليمية في العبث باقتصادها وأمنها. 
ولعلّنا في ظل هذه المعمعة والأساليب المستخدمة من قبل جميع أطراف الأزمة بـبُعدها المحلي والإقليمي والدولي لصيرورة الاشكاليات، ودون إجراء تشخيص دقيق لنتائج الحرب الأهلية السورية، ودوافعها، والقوى الإقليمية والدولية الراعية لها، لن نحصل على الشكل الصحيح للتحليل والقراءة المستفيضة، وهو ما يستوجب ملامسة الحقائق وتطوراتها، وطبيعة النتائج الفعلية على الأرض ومفرزاتها، والتدرج في المسارات المتعددة والناتجة عن الارتباط الواضح للوضع السوري مع ما تشهده المنطقة ككل، وصولاً إلى عمق الدول الإقليمية ومخططاتها، وضرورة فهمها، وعلاقتها مع الدول الكبرى التي بدورها تنطلق من الدفاع عن مصالحها بالدرجة الأولى، وحماية حلفائها في المنطقة. ويستوجب ذلك قراءة في ذهنية تلك الانظمة والحكومات وطبيعة توجهاتها حول الأزمة السورية، ومدى تأثيرها في سير الأحداث. 
خلال هذه السياقات يمكن الحصول على القراءة العميقة للوضع السوري، وفهم أبعادها الاستراتيجية كما يجب، ومسبباتها المحلية، ومسببيها الإقليميين والدوليين. لأن الحدث السوري أصبح ظاهرة عالمية ونموذج لأسوأ الحروب الأهلية الطويلة التي تشهدها المنطقة.
كيد أن ما نتج من أحداث عنيفة خلال السنوات التي شهدت ضراوة الحرب الأهلية السورية، ربطت بشموليتها بالمشهد الشرق الأوسطي ككل، لِمَ لها من ارتباط بالمصالح الدولية التي جعلت من سوريا بوابة لإظهار خلافاتها وتفاهماتها. 
- لا بدَّ أن زيادة وتيرة الصدام العسكري بين القوى المحلية السورية ناجم عن تعبئة إقليمية ادارتها تركيا وحلفائها مقابل صراع دولي أدارتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي بعد تدخلهما العسكري المباشر في سوريا ، وتسبب ذلك في تعميق هوة الشرخ الثقافي والسياسي داخل المجتمع السوري في ظل عناد النظام لإعادة البلاد إلى ما قبل الأزمة، وإصرار المعارضة في توجيه وتدمير المنظومة الاجتماعية بين مكوناتها الدينية والقومية التي أصبحت هوائية بفعل التناحرات الدولية على سوريا، وبالتالي ليس من السهل التغلب على الكم الهائل من الإشكاليات الناجمة عن هذه الظروف، ولا يمكن بعد ذلك التكهن بحلول مناسبة وسريعة. لذا فإن تجميع الحرب الأهلية السورية خلال مسار واحد مسألة غير منطقية وبعيدة عن الموضوعية في قراءة الأحداث، لأن تعدد مسارات الأزمة السورية وما نتجت عنها من أحداث يومية تستوجب فهم المسببات الرئيسية على المستوى المصالح الدولية والإقليمية قبل التعرج إلى طبيعة علاقة الأطراف المحلية السورية مع القوى الإقليمية والدولية.
إن تسارع الأحداث اليومية أفرزت الكثير من المعطيات السياسية والعسكرية على الأرض، ويتطلب منا ذلك التعمق في فهم الصورة الصحيحة، لأن القوة الكبرى هيمنت على مجريات الأحداث، وبثت عدد كبير من الاحجية التي تحتاج إلى فكها وتحديد مساراتها.

البُعد الأول

شكلت المجموعات المحلية السورية ( النظام وقواته والمنظمات المسلحة الشيعية– المعارضة بشقيه المتطرفين والمظلة السياسية – الإدارة الذاتية وقواتها – سوريا الديمقراطية) أداة حربية بيد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وتركيا وإيران. 
وتشكل معاً دائرة نزاع مستمرة بين الأطراف، وأفرز ذلك واقع جغرافي وسياسي وعسكري، وتم تغيير هذا الواقع بفعل دولي وإقليمي، ولم يملك أي طرف قراره الكامل وإن كان بعضها تبنت الأجندات الكاملة لدول الجوار، والمعارضة السورية كانت مجرد أداة منفذة للمشاريع والمخططات التركية، وقاتلت ضد الكرد بالنيابة عن الأتراك في سبيل حماية الأمن القومي التركي وإقامة حزام عسكري بعد إجراء التغيير الديموغرافي بقوة السلاح التركي. 
تقود المعارضة السورية حركة أخوان المسلمين، وهم الجناح السياسي والعسكري للاستخبارات التركية في سوريا، وتركز أعمال هذه الحركة على تنفيذ المخططات التركية، وبما أن الأهداف التركية تركزت على محاربة الوجود الكردي في الشمال السوري، فإن هذه الحركة دخلت في خدمة الأجندات الإيرانية والنظام السوري والأتراك، وبذلك وجهت دفعت المعارضة السورية بعيداً عن النظام السوري الذي دمرّ 60% من المناطق عرب السنة.

البُعد الثاني

تدخلت معظم الدول الإقليمية في الأزمة السورية سواء من خلال المشاركة في دعم الأطراف أو دعمها من خلال تقديم الأموال أو التغطية على أفعالها، وتركز التدخل التركي في دعم المجموعات المعارضة وتدريبها وتوجييها وفق مصالحها الخاصة، وساهمت في القضاء على المعارضة الداخلية التي كانت نشطة في معظم المدن الكبرى، وخلال عقد صفقات مع النظامين السوري والإيراني برعاية روسية سلمت تركيا معظم المجموعات المسلحة للنظام تحت يافطة التفاهمات والمصالحات، بينما جمعت البقية من المسلحين على الحدود مع سوريا، حيث قامت بتنظيمهم وتدريبهم وتسليحهم بمعرفة النظام السوري وروسيا والإيرانيين لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية. بينما كان لتدخل حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية من العراق وإيران الأثر البليغ على مجريات الاحداث، حيث نجحت في إعادة تنظيم قوات النظام السوري وخوض المعارض الطاحنة في معظم مناطق التماس. فيما اعتمدت قوات سوريا الديمقراطية في بنائها العسكري والإداري على القوات الأمريكية، وتسبب ذلك في دخولها بصراعات كبيرة مع معظم القوى الأخرى" روسيا – إيران – النظام السوري – النظام - تركيا – المعارضة "، واتفقت جميع هذه الأطراف على محاربة قوات سوريا الديمقراطية، وتوحدت أهداف الأطراف، لدرجة أصبحت المجموعات المعارضة السورية تأتمر بأوامر النظام السوري بشكل غير مباشر من خلال غرفة الاستخبارات التركية السورية الإيرانية لمحاربة الكرد.
وكانت التفاهمات حول إجراء التغيير الديمغرافي في سوريا بين الأطراف إحدى المرتكزات التي باشر الجميع بتنفيذه، بحيث يسمح للاتراك في احتلال بعض المناطق الكردية في سوريا وإجراء التغيير الديمغرافي فيه لصالح العرب السنة والتركمان، وبذلك يتم توطين العرب السنة في الشمال السوري بعد تهجير الكرد منها، ويتسنى بذلك الفرصة للنظام في الإبقاء على مناطق سيطرته التي أصبحت فيها المكونات بعدد متساوي، حيث أصبح العلويين والشيعة بحجم عرب السنة، بعد أن نزح ثلث السوريين نحو الخارج، والثلث الآخر سيتم توطينهم في المنطقة الكردية الممتدة بين محافظة إدلب إلى الجزيرة.

البُعد الثالث

حضور الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لم يكن بمحض إرادة الاطراف المحلية، إلا أنهما تحصنا بوجود قوة محلية تحتاجهما، والمصلحة المتبادلة هي كانت نقطة الارتكاز بين الأطراف، إلا أن الوجود الروسي لم يكن لأهداف مؤقتة، وإنما إستراتيجية أتخذتها الادارة الروسية مقابل التدخل الأمريكي التكتيكي. وفي المحصلة تخلت الولايات المتحدة جزئياً عن تغطيتها لقوات سوريا الديمقراطية لصالح الغزو التركي، مقابل استمرار روسيا في تكريس إعادة النظام.
بالنسبة لروسيا المسألة السورية مصيرية بعد فقدانها معظم الدول التي تغولت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بينما تركزت السياسة الخارجة الأمريكية على الوجود المؤقت في سوريا، والتنازل لصالح روسيا مقابل عدم خسارة العلاقات مع تركيا، فيما تعمقت العلاقات التركية مع روسيا على حساب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وكان لذلك التأثير المباشر على الحلف الناتو، الذي أصبح جسماً متهالكاً أمام الرغبات التركية في اختراق مواثيقها. 

البُعد الرابع

التنازل الأمريكي للتمدد الروسي في سوريا من البوابة التركية كانت نتيجة لسياسات سلبية مارستها إدارة ترامب، وأظهرت بذلك السياسات الخارجية الأمريكية في أسوء حالاتها، وإن تدخل الكونغرس وتعالت الأصوات داخل المؤسسة العسكرية والسياسية الأمريكية بوجه تلك السياسيات، إلا أن ذلك جاء متأخراً أمام الخيارات التركية في اتخاذ العلاقة مع الروس أستراتيجية.
الاستغلال الروسي للخلافات الأمريكية زاد من تمترسها داخل المشهد السوري من البوابة التركية، والهدف الروسي كانت توجيه دفة السياسة التركية نحوها بعد زيادة الهواجس التركية حيال التطورات الكردية في شمال سوريا، ومقابل عدم فهم الأمريكيين لهذه التطورات بسبب التدخل المؤقت في سوريا، ركزت روسيا بتعميق العلاقات مع تركيا مقابل إزالة هواجسها المتعلقة بالكرد، فكان تسليم مناطق عفرين ومن ثم توجيه تركيا روسياً إلى الضغط على الأمريكيين في تحديد خيارهم حيال الكرد، وكان الخيار الأمريكي هو الانسحاب الجزئي وترك المناطق التي تطلبها تركيا، لتصبح الاشكالية التركية الروسية حول التدخل في هذه المناطق، فيما يدرك الروس حجم هذا البُعد الأمريكي للمسألة، فكانت الاتفاقية الروسية التركية حول التدخل التركي لمناطق محددة تريدها تركيا.

لتحميل الكتاب مجاناً أضغط على:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!