النّزعات الفاشيّة والدّيمقراطيّة في الأزمة السوريّة

آدمن الموقع
1
بقلم: المهندس محمد عيسى
لاتزال الأزمة السُّوريّة، وقد دخلت العقد الثّاني من عمرها، قبلاً من نحو عام ونيّف، لا تزال تُخيِّبُ آمال الباحثين عن ضوء يُبدِّدُ حُلكتها في آخر النَّفق. وﻻ عجب في أن يَنسدَّ الأفق في طريق حَلِّها إلى هذا الحَدِّ. فالسُّوريّون أنفسهم، أو الأطراف السُّوريّة الضالعة في الأزمة، هي من تتحمّل وِزرَ هذا الانغلاق في سُبُلِ الحَلِّ، وهم بأيديهم من أدخلوا الدِّبَبَة إلى كرمهم. الفُرَقاءُ السُّوريّون، إن في جبهة النِّظام، أم في جبهة ما دُعِيَت بالمعارضة، هم من عطَّلَ ويُعطِّلُ خيار التّاريخ حتّى الآن.
فالنِّظام المَسكون بنرجسيّة سياسيّة قَلَّ نظيرها، مازال يُمعِنُ في تجاهل حقائقِ الحياة وقِيَمِ العصر وحاجَةَ البشر للتغيير، ويَستمِرُّ بالاعتقاد بأنَّه وحده من “يَعرف مصلحة السُّوريّين” وما يخدم مصيرهم، ما يفيدهم وما يضرُّهم، وحتّى يعرف الأفضل لهم أثناء اختيار أسماء أبنائهم. وهكذا نموذج، وإن تأخَّر طَيُّ صفحته عشرين عامّاً على الأقَلّ، إلا أنَّه لم يُفسح في مجال العوامل الذّاتيّة لتوفِّرَ أيَّ مقوِّماتٍ لإحداث ذلك التغيير الثَّوريّ المُنتظَر، ولم تتبلور في كَنَفِهِ قوى ديمقراطيّة مدنيّة واعية لمصلحة البلاد تكون على مستوى التحدّيات الوطنيّة؛ بل جاءت معارضته على شكله وتحمل تَشوُّهاً خلقيّاً في الغالب الأعَمِّ.
بل الأسوأ منها بكثير، يتجلّى في معارضته وفي كتلتها الرَّئيسية والحاسمة أصوليّة إسلاميّة، تريد أن تستأصل شعباً بكامله من أرضه، لتُحِّلَ بدلاً عنه شعباً تتخيَّل وجوده قبلاً من نحو أربعة عشر قرناً. معارَضةٌ لا يتحمَّل عقلها وجود أعراقٍ أو أطيافٍ أو مكوّناتٍ أو ثقافاتٍ أو تراثٍ في المنطقة، أو يصلح للدَّولة غيرها، وهي في سبيل ذلك، في طريقها نحو إحياء ما تزعم أنَّها دولة الخلافة لا تمانع في مَدِّ يدها للشَّيطان، وأن تَقترف أفظع الجرائم. في هذا المناخ بالضَّبط، وعلى هذه التُّربة جاء ونما التدخُّل الإقليميّ التُّركيّ ثُمَّ الإيرانيّ، وهو نفسه مَنْ وفَّرَ البيئة للانخراط الدّوليّ، ولتُصبح سوريّا بعد ذلك مربَطَ فرسٍ للصّراعات الدّوليّة ومَكَبَّ نفايات تنفُسُ فيه احتقاناتها.
نظام ومعارضة تبادلا الأدوار في تعتيم المشهد وإعطاء الذَّرائع للتدخُّلِ الخارجيّ الذي صارت لحساباته وبيده الكلمة الفصل. ولأنْ كان هذا التدخُّل الدّوليّ قد جاء تالياً أو استتباعاً للتورُّط الإقليميّ في الأزمة؛ فلأنَّ الأزمة السُّوريّة استغلَّت كجِسرٍ عبورٍ لمشاريع الدّوَل الإقليميّة نحو العالميّة، وتستوي في ذلك النَّظرة إلى الحالة الإيرانيّة مع التُّركيّة، إلى حَدٍّ كبيرٍ، والتي تندرج في إطار المشاريع الإسلاميّة العابرة والمقلقة، أو التي يمكن توظيفها لكسر ستاتيك الوضع العالميّ، المشاريع التي أثارت مخاِوفَ عميقة في إسرائيل هي الأخرى، باعتبارها شمّاعة المشاريع أو غطاءً، لمن يسعى إلى تبييض أمواله.
في هذا الطقس المشحون بالمخاوف الدّوليّة؛ كانت تجري تدخّلات الدّوَل الكبرى بصمتٍ متَّفَق عليه. فلم نسمع أيَّ نَبرة احتجاج من الجانب الأمريكيّ على التدخُّل الرّوسيّ، كما لم نسمع من الرّوس استياءً أو كبير اهتمام بتواجد قوّات التَّحالف الدّوليّ التي انشغلت بوقف تغوّل تنظيم “داعش” الإرهابيّ. وهذا إن دَلَّ على شيء إنَّما يَدُلُّ على أنَّ خيطاً من تفاهمٍ دوليٍّ كان يجري في الخفاء يربط بين مواقف الدّوَل الكبرى من الحرب المُندَلِعة على الأرض السُّوريّة، ويدلُّ أيضاً أنَّ القرارات الدّوليّة 2254 وقبله بيان جنيف، وما سبق من فيتوهات روسيّة وما تلاها من اختراعٍ لسكَّةِ أستانا، لم تكن إلا ترتيباتٍ لإدارة الصراع وليست لحسمه. ولم تكن بقصد تنفيذها على المدى المنظور، ولنا في تاريخ المُنظَّمة الدّوَليّة أمثلة عديدة، والقرار 242 و338، قرارات اتُّخذت منذ عقود ولم تجد طريقها إلى التنفيذ حتّى الآن.
أمّا لماذا لم يُبدِ نادي الدّوَل الكبرى الإرادة الكافية لتنفيذ قرار كالقرار 2254 كان قد صدر بإجماع أعضائه؛ فلأنَّ الوضع رُبَّما، بحسب تقديرهم، لم ينضج بعد لتطبيقه، ولأنَّ الإسلام السِّياسيّ بتعبيراته الإرهابيّة ما يزال هو الأكثر ترشيحاً لاستثماره.
وإذا كان ما تقدَّمَ من رصدٍ وتوصيفٍ لخريطة الوقائع والتطوّرات تنحو بالمتتبِّعِ نحو انطباعِ التشاؤم والإحباط؛ فلأنَّها زاوية نَظَرٍ وقطّاع رؤية فعليٌّ بؤسه، لكنّه ليس الوحيد بالمشهد.
نعم ليس هو المشهد الوحيد، وللأزمة من زوايا نظر أخرى تجذيرات وتخلّقات عديدة ﻻ بُدَّ أنَّها تحمل أملاً للسُّوريّين وتستدعي التعويل والاهتمام والتأمّل.
فعلى الجانب الآخر المُتأتّي عن الصَّدعِ السُّوريّ المؤلم وفي النِّطاق الجغرافيّ الذي أخلاه النِّظام بسبب الحرب الدّائرة؛ نلحظ تَولُّدَ وَضعين متناقِضَين متناحرين؛ تحالف (مسد) ذي الهُويّة المدنيّة العلمانيّة والتوجُّهِ الوطنيّ الدّيمقراطيّ، السّاعي إلى إقامة الدَّولة الواحدة العصريّة واللامركزيّة بحدودها الكاملة بما فيها لواء إسكندرون. ووضع أو حَيِّزِ نفوذٍ لجماعاتِ الإسلام السِّياسيّ الإرهابيّة المرتبطة بالعدوِّ التُّركيّ، والمتآمرة معه على حساب الأرض السُّوريّة، وعلى حساب الاستقلال والهُويّة الوطنيّة.
القوَّتان أو المنظومتان الناشئتان لم تهبطا من السَّماء؛ بل كانتا نزعَتين كامِنَتينِ في النِّظام الشّموليّ يوم كان سائداً؛ نَزعةٌ وطنيّةٌ وديمقراطيّةٌ ثوريّةٌ، ونَزعةٌ رجعيّةٌ فاشيّةٌ وﻻ وطنيّة. وعلى هذه القاعدة يجب النَّظر إلى الأزمة السُّوريّة. هي قضيّة صراعٍ حتميٍّ بين قوى صاعدة تريد أن تبنيَ دولة الحداثة الدّيمقراطيّة، وقوى التآمر والتوحُّشِ والظلام، والتي تَشُدُّ مجتمعاتها إلى تكريس البؤس والتخلّف. هذا هو المجتمع السُّوريّ، وهذه هي الحالة السُّوريّة، حالة مُركَّبة من اجتماع متناقضاتٍ عِدَّةٍ، وهي حالة مأزومة، الاستقرار فيها مؤقَّتٌ وعند أيِّ منعطَفٍ حاسِمٍ يحصل التشظّي ويتولَّدُ الصراع.
إلى ذلك نخلص إلى استنتاجات ثلاث:
1 – نَزعة الفاشيّة الإرهابيّة والعقليّة الرَّجعيّة المُستعِدَّة للعمالة، هي إحدى مركَّبات النِّظام الشُّموليّ وجزء من بنيته.
2 – لا يمكن تحقيق تقدُّمٍ جدّيٍّ في حَلِّ المسألة السُّوريّة. ما لم يَتُمّ اقتلاع الإرهاب الرَّجعيّ من الجذور على مستوى البنية التَّحتيّة، ومن مكامنه في البناء الفوقيّ للدَّولة والمجتمع.
3 – كما لا يمكن تحقيق رؤية متكاملة للمسألة الوطنيّة بالنَّأي عن مشاركة فعّالة وحاسمة لـ(مسد)، وسيندرج أيُّ تقاعسٍ عن دعم تجربة الإدارة الذّاتيّة، كضرب من ضروب الغفلة التّاريخيّة، يجب ألا يقع فيه أيٌّ من عشّاق الحُرّيّة والتحضُّرِ والعدالة.

إرسال تعليق

1تعليقات

  1. الحل الوحيد امام السوريين هم القطيعة التامة مع الفكر الاقصائي سواء كان دينيا او طائفيا او سياسيا. احببنا ذلك ام لا فخلاصنا يكمن باتباع انظمة الجكم الاوربية والابتعاد كل البعد عن اي انظمة دينية-طائفية او سياسية شمولية.

    ردحذف
إرسال تعليق

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!