خاص/ هيئة تحرير الجيوستراتيجي للدراسات
جميعنا نتفق إن الضربة التي تلقاها حزب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية التركية في إنتخابات البلدية الأخيرة ساهم فيها الأحزاب الكردية سواء داخل المناطق الكردية أو في المدن التركية الكبرى، لا سيما توجيه أنصارها في أستنبول وإزمر وأنقرة وغيرها من المدن المؤثرة، التصويت لصالح حزب الشعب الجمهوري، الذي طور خطابه وغير بعض مواقفه إتجاه الكرد بغية تقوية المعارضة في وجه النظام.
فقدان الرئيس التركي رجب طيب أرودوغان للغالبية الشعبية شكل هاجساً حقيقياً لمستقبل سياسات تركيا وفق منظور حزب العدالة والتنمية، بحكم الحركة القومية وإن كانت متحالفة معه إلا أن حجم شعبية هذه الحركة لا تتعدى ٥% من الجمهور التركي، وهذا يعني الخسارة التي مني بها العدالة والتنمية لن تعوض بالتحالف مع أي طرف آخر، لأن الأحزاب الكردية لن تتحالف معه في ظل وجود الحركة القومية إلى جانبه وكذلك سياسات أردوغان المعادية للكرد، فيما الحزب الشعب الجمهوري يقود العملية السياسية لإنهاء سلطة الإسلام السياسي في تركيا لصالح النهج القومي الذي تتبعه منذ عقود طويلة.
الطريق نحو الهاوية
يدرك أردوغان إن المزاج العام الدولي لم يعد يساعد على السياسات التي يبديه ضد الكرد من طرف، وعملية التضييق على الحريات والديمقراطية، وإن الحركة القومية ورطت نظامه في مشاريع ضيقة على المستوى الدولي والإقليمية إلى جانب الداخلي، حيث تشير الإستطلاعات الرأي إلى التراجع الكبير في العلاقات التركية خلال السنوات الثمانية الماضية، وإثارة تركيا لعدد من الإشكاليات العميقة مع بعض الدول العربية المحورية وكذلك الصدام الغير مباشر مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في قضايا تتعلق بأمن أوروبا، سواء في القضية القبرصية - اليونانية أو ما يتعلق بالأطماع التركية في الثروات الأحفورية في الشرق المتوسط، وكذلك القضية الليبية والتدخل العسكري التركي، بالتزامن مع الإحتلالات على شمال سوريا، والدخول في أزمات مع الخليج العربي من بوابة قطر وزعزعة أمن وإستقرار درع الخليج والحياة السياسية في مصر ، والمساهمة في تمكين الحركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، مقابل تهديد أمن وإستقرار أوروبا.
هذه المسائل الحساسة التي ساهمت حكومة أردوغان في إثارتها دفعت بالمحيط إلى شبه قطيعة، على الأقل التراجع عن العلاقات الإستراتيجية مع تركيا. هذا وإن الولايات المتحدة الأمريكية أخذت مواقف سلبية من التصرفات التركية، بل ساهم ذلك بتراجع كبير في العلاقات الأمريكية- التركية، بعد عقود طويلة من قيام الدولة التركية بمهمة شرطي الحدود لحلف الناتو.
الظروف الداخلية وبيضة القبان
قد يستغرب الكثيرون إن الكرد يشكلون صمام السياسات التركية أو بيقضة القبان في عملية فك وربط بين الأطراف السياسية التركية، وأية قوة سياسية تركية إذا ما حالفت مع الأحزاب الكردية داخل تركيا فإنها تستطيع الوصول إلى حكم تركيا. وقد أتخذ أردوغان هذا المسار سابقاً من خلال التوظيف الديني وإستمالة الشارع الكردي في تمكين وجوده وحكمه، إلا أن التراجع الكبير الذي أبداه في السنوات العشرة الأخيرة تسبب بنفور كردي من سياساته المعادية للكردي.
وفي الوقت الذي أدرك حزب الشعب الجمهوري المعارض وزعيمها إمام أوغلو إن طريق الوصول لحكم تركيا يمر من الكرد، كان أردوغان يبني مجسمات الكره والخلافات مع الكرد، حيث ضرب مشروع المصالحة التركية عرض الحائط وزج بقادة الكرد ورؤساء البلديات وكذلك برلمانيين وأكاديميين وحقوقيين .. الخ في غياهب المعتقلات، مما تسبب ذلك في تراجع كبير بشعبية حزب العدالة والتنمية.
وإن فاز أردوغان في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة إلا أن مسار إسقاطه شعبياً يكمن في سحب البساط من تحت قدميه عبر إنتخابات البلدية، حيث غيرت التطورات الوجه الكردية نحو التصويت لأحزابه داخل المنطقة الكردية مقابل التصويت للحزب الجمهوري والمعارضة ضد أردوغان في المدن التركية الكبرى التي تعج بملايين الكرد.
بداية التفكيك
لم تساعد الحركة القومية التركية أطماع أردوغان خلال الإنتخابات الأخيرة، وشعبية هذه الحركة في تراجع كبير داخل الشارع التركي، وأظهرت الانتخابات الأخيرة طبيعة المزاج العام للشارع التركي-الكردي حيال سياسات هذه الحركة الشريكة الرسمية لحكومة أردوغان.
فيما أثرت المجموعات السياسية المنشقة عن أردوغان في شعبية حزبه، وباتت شرائح واسعة كانت تصوت له سابقاً، تعارضه حالياً وتلتف حول الأحزاب الجديدة ( المستقبل بقيادة داوود أوغلو القيادي المنشق عن أردوغان، وحزب الديمقراطية والتقدم بقيادة علي بابا جان المنشق عن أردوغان)، كما إن معظم أعضاء ومناصري الحزبين من أصول حزب العدالة والتنمية.
وبذلك العناصر الأساسية في تكوينة العدالة والتنمية وأردوغان باتت خارج سيطرته، ومن المؤكد لن تتصاعد شعبية الحركة القومية في الوقت الذي تتجذر شعبية أردوغان بين المستاء لسياساته الإقتصادية، والرافض لأساليبه القمعية.
العودة إلى البوابة الكردية
لم يبقى أمام أردوغان وحزبه العدالة والتنمية سوى إعادة بناء خريطة شعبتيه من البوابة الكردية، إذ كانت لهذه الشعبية التأثير الكبير على الإنتخابات، فأكثر من ٣٠% من الأصوات كان يحصل عليها من المناطق الكردية، وقيادته للخطاب الإسلام السياسي وخديعة الأخوة التركية- الكردية، وهذه الشعبية في الوقت الحالي تراجعت تماماً. وفي حال عمل على إعادة هذه الأصوات فهو يحتاج العودة إلى الحوار مع الكرد.
إلا أن ذلك لن يتحقق بسهولة بعد فقدان الشارع الكردي الثقة بسياسات أردوغان، وحجم المعاداة التي شكله في المنطقة ضد القضية الكردية، ولن يكون سهلاً حتى الحوار مع الكرد، وقد يحتاج إلى الكثير من الأفعال العملية حتى يعيد ثقة الكرد من جديد، وأول تلك الخطوات إعادة الحوار الجدي مع الكرد، وإطلاق صراح المعتقلين، وإنهاء إحتلاله لبعض المناطق الكردية في سوريا.
حتى يستطيع المضي قدماً في بناء الثقة لا بد أن يلتقي مع الكرد، وقد تأتي زياته إلى إقليم كردستان العراق لتمهيد الطريق مع الكرد في تهدأة الأجواء، لا سيما وإن التصريحات الأخيرة التي صدرت من الإقليم كانت مبشرة لبناء سبل التقارب مع حزب العمال الكردستاني، حيث صرح وزير داخلية إقليم كردستان إن منظمة حزب العمال الكردستاني ليست على قائمة الإرهاب، وإن نظرة إقليم كردستان لهذه المنظمة على إنها تحررية وتناضل في سبيل تحقيق المطالب الكردية في تركيا. ودون هذا الخيار سيترنح أردوغان وحزبه بين الإفلاس الداخلي، والضغوطات الخارجية. إذا سلمنا بموقف الأحزاب الكردية داخل تركيا، والتي لن تثق بسهولة في سياسات أردوغان، وهذا يعني لن تتحاور معه بسهول دون ضمانات حقيقية، لأن المعارضة التركية في تصاعد، ومصير أردوغان وحزبه غير مضمون، كما إن خطابات المعارضة وتقارباته أفضل بكثير من أردوغان.