قراءة جيوسياسية لـ إبراهيم كابان
في العقود الأخيرة، كانت العلاقة بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK) محوراً للصراع الداخلي التركي. عبد الله أوجلان، مؤسس وزعيم حزب العمال الكردستاني، كان رمزاً لهذا الصراع منذ عقود. اعتقاله في عام 1999 أدى إلى إنهاء فترة طويلة من العنف المباشر بين الطرفين، لكن الصراع لم ينتهِ. مع ذلك، ومنذ عام 2013، ظهرت مبادرات محدودة نحو الحوار مع أوجلان، بهدف تحقيق السلام. في الوقت الراهن، ومع تصاعد التوترات الداخلية والخارجية التي تواجه الحكومة التركية بزعامة رجب طيب أردوغان، يطرح تساؤل جدي حول ما إذا كانت الحكومة قد تلجأ مجدداً إلى أوجلان كوسيلة لتحقيق استقرار سياسي وأمني.
إضافة إلى التحديات الداخلية والخارجية، تلعب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة دوراً محورياً في صراع تركيا مع الحركات الكردية في المنطقة. قسد تتألف في غالبيتها من وحدات حماية الشعب (YPG)، التي تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني. بالتالي، يمكن أن يؤثر الحوار مع أوجلان بشكل مباشر على المواجهة القائمة بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، ويُثار تساؤل حول إمكانية أن يلعب أوجلان دوراً مهماً في تحقيق تقارب بين الطرفين.
أهمية عبد الله أوجلان في إجراء الحوار بين الأتراك والكُرد:
1. رمزية أوجلان القيادية في الحركة الكردية:
أوجلان كرمز: يعتبر عبد الله أوجلان شخصية محورية في القضية الكردية، ليس فقط في تركيا، بل في جميع أنحاء المنطقة. لسنوات، مثّل أوجلان الطموحات السياسية والثقافية للكرد، وهو ما جعله رمزاً للنضال الكردي. رغم سجنه في تركيا منذ عام 1999، إلا أن تأثيره الفكري والسياسي ما زال قوياً، حيث يواصل رسائل سياسية من السجن تعكس رؤيته للسلام والمصالحة.
الزعيم الأكثر تأثيراً في الحركة الكردية: يمتلك أوجلان شرعية واسعة داخل أوساط الكرد، بما في ذلك الجماعات المسلحة مثل حزب العمال الكردستاني والكتل السياسية مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). وبالتالي، فإن أي حوار مع الأكراد يحتاج إلى مشاركة مباشرة أو غير مباشرة لأوجلان للحصول على قبول شعبي وسياسي واسع بين الأكراد.
2. وسيط تاريخي في عمليات السلام:
دوره في عملية السلام 2013-2015: أوجلان كان المحرك الرئيسي للمحادثات التي جرت بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني في تلك الفترة. على الرغم من فشل العملية، أثبت أوجلان أنه قادر على التأثير في مواقف القيادة الكردية وتقليل العنف. لذلك، يمكن اعتباره مفتاحاً لأي حوار مستقبلي ناجح بين الأتراك والأكراد.
رؤية "الإيكولوجيا الديمقراطية": منذ اعتقاله، طوّر أوجلان نظرية جديدة تعرف بـ"الإيكولوجيا الديمقراطية"، تدعو إلى الحكم الذاتي الديمقراطي والتعايش السلمي ضمن الدولة التركية. هذه الأفكار قد توفر إطاراً سياسياً جديداً لحل القضية الكردية دون تقسيم تركيا، ما يجعل الحوار معه جذاباً للقيادة التركية.
3. التأثير على استقرار الأوضاع في جنوب شرق تركيا:
تخفيف حدة الصراع المسلح: الحوار مع أوجلان يمكن أن يقلل من أعمال العنف التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني ضد الدولة التركية. دعوته إلى وقف إطلاق النار في الماضي أثبتت قدرتها على تقليل التوتر العسكري، وهذا يمكن أن ينعكس بشكل إيجابي على الأوضاع الأمنية والسياسية في المناطق الكردية.
إعادة الاندماج الاجتماعي والسياسي: الحوار مع أوجلان قد يمهد الطريق لإعادة دمج الكُرد في المشهد السياسي التركي، ويشجعهم على المشاركة في المؤسسات الحكومية بدلاً من المعارضة المسلحة. هذا من شأنه تعزيز الاستقرار الداخلي في تركيا.
انعكاسات الحوار على المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية:
1. إضعاف العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني: إذا نجحت تركيا في فتح حوار مثمر مع عبد الله أوجلان، قد يتأثر نفوذ حزب العمال الكردستاني على الفصائل الكردية في سوريا، وخاصة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). القيادة في قوات قسد تتأثر بشكل كبير بحزب العمال الكردستاني، ولذلك فإن الحوار مع أوجلان قد يؤدي إلى تشتيت القيادة الكردية بين الداخل التركي والخارج السوري.
2. تقليل الدعم العسكري لقسد: الحكومة التركية قد تسعى لتقديم حوافز داخلية لكُرد تركيا من خلال الحوار مع أوجلان مقابل تقديم ضمانات لوقف الدعم أو التنسيق بين قوات قسد وحزب العمال الكردستاني. هذا قد يؤدي إلى تراجع في الدعم العسكري والتنسيق اللوجستي بين قسد والحزب في تركيا.
3. إعادة هيكلة التحالفات الكردية في سوريا: إذا تمكنت أنقرة من التوصل إلى اتفاق مع أوجلان، قد يكون لذلك تأثير في توجيه الأكراد السوريين نحو الحوار مع الحكومة التركية بدلاً من السعي للحصول على الدعم من الولايات المتحدة أو القوى الغربية الأخرى. قد يؤدي ذلك إلى إضعاف النفوذ الأمريكي على قوات سوريا الديمقراطية وتقوية موقف تركيا في شمال سوريا.
4. تقارب محتمل بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية: إذا نجح أوجلان في استخدام نفوذه داخل الأوساط الكردية للتأثير على قوات قسد، فقد يؤدي ذلك إلى فتح قناة تفاوضية بين تركيا وقسد. تركيا تسعى منذ سنوات إلى الحد من نفوذ وحدات حماية الشعب في شمال سوريا، لكنها قد تجد في تقارب تدريجي وسيلة لتجنب مواجهة عسكرية طويلة الأمد مع تلك القوات. أوجلان، بوصفه رمزاً للحركة الكردية، قد يكون المفتاح لتوجيه هذه القوات نحو تسويات مع تركيا.
دور أوجلان المحتمل في التقارب بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية:
1. وسيط ذو نفوذ: عبد الله أوجلان لا يزال يحظى بتأثير كبير داخل الحركة الكردية، سواء في تركيا أو في سوريا. نجاحه في فتح قناة حوار مع الحكومة التركية قد يتيح له التأثير على قيادة قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب. أوجلان يمكنه أن يلعب دور الوسيط بين هذه القوى وتركيا، خاصة إذا تم التوصل إلى اتفاق بينه وبين الحكومة التركية يتضمن تنازلات تخص الكُرد في الداخل والخارج.
2. تحقيق توازن بين المصالح الكردية والتركية: دور أوجلان قد يتوسع ليشمل التوسط بين مصالح الأكراد في سوريا ومصالح تركيا. الحوار معه قد يفتح الباب أمام تفاهمات تضمن عدم تهديد الأمن القومي التركي، وفي الوقت نفسه، تُحقق مكاسب الكًرد في سوريا، مثل الإدارة الذاتية الموسعة تحت رعاية تركية، بدلاً من السيطرة الأمريكية أو التحالفات مع النظام السوري.
3. تخفيف الضغوط الأمريكية على تركيا: الولايات المتحدة تعتبر قوات سوريا الديمقراطية حليفاً رئيسياً في الحرب ضد داعش، ولكن التوتر بين واشنطن وأنقرة بسبب الدعم العسكري لهذه القوات يعقد العلاقة بينهما. إذا تمكن أوجلان من دفع الكرد السوريين نحو اتفاق مع تركيا، فقد يؤدي ذلك إلى تقليل الضغط الأمريكي على تركيا فيما يتعلق بقضية دعم قوات قسد. هذا من شأنه أن يعزز موقف أنقرة على الساحة الدولية والإقليمية.
العقبات أمام دور أوجلان كوسيط:
1. رفض قوات سوريا الديمقراطية: قد تواجه قسد أي محاولة لتقريبهم من أنقرة بحذر، خاصة إذا رأت أن الحوار مع تركيا يأتي على حساب استقلاليتها العسكرية أو السياسية. هناك مكونات غير كردية داخل قوات سوريا الديمقراطية، مثل العرب والمسيحيين، قد تعارض أي تدخل من قبل أوجلان أو أنقرة في شؤونهم الداخلية.
2. الموقف الأمريكي: الولايات المتحدة تعتمد على قوات سوريا الديمقراطية كقوة أساسية في مكافحة داعش، وقد تعارض أي تقارب تركي مع هذه القوات إذا اعتبرته تهديداً لاستراتيجيتها في المنطقة. في هذا السياق، قد يكون دور أوجلان محدوداً إذا لم يحصل على دعم واشنطن أو إذا شعرت قوات قسد أن تقاربها مع تركيا قد يعرضها للضعف أمام تهديدات داعش أو النظام السوري.
المحصلة:
إن لجوء تركيا إلى الحوار مع عبد الله أوجلان قد يفتح الباب أمام تطورات جيوسياسية مهمة في العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية. من الممكن أن يلعب أوجلان دوراً محورياً في تقريب الكُرد السوريين من تركيا، وتخفيف حدة الصراع المستمر بين الجانبين. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تحركات سياسية ودبلوماسية حذرة من قبل أنقرة، تتضمن بناء الثقة بين جميع الأطراف وضمان مصالحها الأمنية والاستراتيجية. دور أوجلان قد يكون المفتاح لتحقيق هذا التوازن، لكنه لن يكون دون عقبات.
- خاصة/ شبكة الجيوستراتيجي للدراسات