التحليل: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
شهدت أوروبا تحولات جيوسياسية وأمنية كبيرة بعد الحرب الباردة، حيث سعت دول القارة إلى بناء نظام أمني قائم على الشراكة الاقتصادية والسياسية والأمنية، معتمدة على التعاون ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحت قيادة الولايات المتحدة. غير أن التغيرات العالمية وظهور روسيا كقوة طموحة، خاصة بعد الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم في 2014، دفعت أوروبا إلى إعادة التفكير في استراتيجية الأمن والدفاع.
بعد أن اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، باتت أوروبا أمام تحدٍ أمني حقيقي في مواجهة روسيا التي أظهرت استعدادها لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية. وقد أدى هذا التصعيد إلى تفاقم المخاوف لدى الدول الأوروبية، خاصة تلك التي تقع في شرق أوروبا. وتبلورت هذه المخاوف في توجه القارة نحو إعادة بناء قوة دفاعية ذاتية بعيداً عن الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة. سنحاول في هذا البحث استعراض الدوافع الكامنة وراء هذا التوجه، والتحديات التي تواجهه، وآفاقه المستقبلية.
أولاً: الدوافع وراء توجه أوروبا نحو إعادة التسليح وبناء قوات دفاعية ذاتية
1. التصعيد الروسي والتهديدات الأمنية المباشرة
لعبت روسيا دوراً مركزياً في دفع أوروبا إلى التفكير بإعادة بناء دفاعاتها، حيث استمر الكرملين في تنفيذ سياسات تعزز من قوته العسكرية والنفوذ على الساحة الدولية، كما في سوريا وليبيا وأوكرانيا. وبرزت الحرب الأوكرانية كتهديد مباشر للأمن الأوروبي، خاصة للدول التي تتقاسم الحدود مع روسيا. هذا التهديد دفع قادة أوروبا إلى استشعار الحاجة إلى قوة دفاع أوروبية لمواجهة التهديدات المحتملة.
2. التغيرات في دور الولايات المتحدة واهتماماتها الاستراتيجية
بدأت الولايات المتحدة تحت قيادات مختلفة، خاصة إدارة الرئيس دونالد ترامب، في إعادة تقييم التزاماتها العالمية والتركيز بشكل أكبر على التحديات الاقتصادية والسياسية مع الصين. أثر هذا التحول على دعمها التقليدي لدفاعات أوروبا، مما خلق قلقاً لدى القادة الأوروبيين من الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة. من هنا برزت الدعوات لتأسيس جيش أوروبي مستقل يتيح للقارة حماية مصالحها الأمنية بشكل مباشر.
3. تنامي الرغبة في تعزيز الاستقلال الاستراتيجي
تتزايد في أوروبا الرغبة في الاستقلالية عن حلف الناتو وتحقيق مزيد من السيطرة على الشؤون الأمنية. ورغم أن الناتو ظل ركيزة مهمة لأمن القارة لعقود، فإن بعض الدول، وعلى رأسها فرنسا، ترى أن أوروبا تحتاج إلى استقلالية استراتيجية لتكون قادرة على الرد السريع على التهديدات. ويعزز هذا الطموح وجود تقارب بين دول الاتحاد الأوروبي حول أهمية توسيع التعاون العسكري وتطوير قدرات دفاعية مشتركة.
4. التهديدات المتنوعة والمخاطر المستجدة
إضافة إلى التهديد الروسي، تواجه أوروبا تهديدات أخرى كالإرهاب، وأزمات الهجرة، والتغيرات المناخية. وهذه التحديات تتطلب أحياناً تدخلاً عسكرياً أو تأمين حدود القارة، وهو ما يشير إلى ضرورة بناء بنية عسكرية قادرة على التعامل مع طيف واسع من التهديدات.
ثانياً: جهود أوروبا في بناء منظومة دفاعية ذاتية
1. التوجه نحو تأسيس جيش أوروبي
في السنوات الأخيرة، طرحت فكرة الجيش الأوروبي الموحد بقوة من قبل دول الاتحاد الأوروبي، حيث تهدف هذه الفكرة إلى تكوين قوات قادرة على العمل ضمن إطار موحد تحت إدارة أوروبية. ورغم عدم وجود إجماع كامل حول هذه الفكرة، فإنها تعكس تطلعات بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا لتعزيز القوة الدفاعية للاتحاد الأوروبي بعيداً عن مظلة الناتو.
2. زيادة الميزانيات الدفاعية
بدأت الدول الأوروبية في زيادة إنفاقها على الدفاع نتيجة للتهديدات الروسية، فبحسب تقارير حلف الناتو، ارتفعت الميزانيات الدفاعية في دول الاتحاد الأوروبي بشكل ملحوظ بعد عام 2014 واستمر هذا الارتفاع مع تصاعد الأزمة الأوكرانية. وأصبح الإنفاق العسكري عاملاً أساسياً لتمكين الدول الأوروبية من تحسين قدراتها الدفاعية وتطوير نظم التسليح.
3. التعاون في مجالات البحث والتطوير العسكري
أطلقت الدول الأوروبية برامج مشتركة للبحث والتطوير العسكري، بهدف إنتاج أنظمة تسليح وتقنيات متطورة تقلل من الاعتماد على واردات السلاح من خارج القارة. ومن أبرز المبادرات التي تم إطلاقها في هذا السياق صندوق الدفاع الأوروبي الذي يهدف إلى تمويل مشاريع الدفاع المشتركة وتعزيز التكامل بين الصناعات العسكرية الأوروبية.
4. التكامل مع حلف الناتو
رغم المساعي الأوروبية لتقوية قدراتها الدفاعية، إلا أن الناتو يظل شريكاً أساسياً. ولذلك، تتكامل خطط الدفاع الأوروبية مع قدرات الناتو، حيث تسعى الدول الأوروبية إلى تطوير قدراتها بطريقة تدعم عمليات الحلف وتعزز الاستجابة السريعة لأية تهديدات. هذا التكامل يتجلى في العديد من التدريبات العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات.
ثالثاً: التحديات التي تواجه بناء قوات دفاع أوروبية مستقلة
1. غياب التوافق السياسي الكامل
تواجه فكرة الجيش الأوروبي الموحد معارضة من بعض الدول التي تعتبر الناتو الضمان الأساسي للأمن الأوروبي، وتخشى أن يؤثر تأسيس جيش أوروبي على استقرار التحالف الأطلسي. وتعتبر دول مثل بولندا ودول البلطيق الناتو ركيزة لأمنها، نظراً لوجود الولايات المتحدة كقوة عسكرية داعمة.
2. التفاوت في القدرات العسكرية بين الدول الأوروبية
يوجد تفاوت ملحوظ في مستوى القدرات العسكرية بين دول الاتحاد الأوروبي، حيث تمتلك فرنسا وبريطانيا قدرات عسكرية متقدمة مقارنة بدول أخرى. هذا التفاوت يشكل تحدياً كبيراً أمام إنشاء قوة دفاعية متكاملة وفعالة، ويزيد من تعقيد مسألة التمويل والتسليح.
3. التمويل والدعم اللوجستي
تأسيس قوات دفاعية قوية يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والمعدات والتكنولوجيا. ورغم زيادة الميزانيات الدفاعية، إلا أن بعض الدول لا تزال تواجه صعوبة في تأمين التمويل اللازم لتحديث قواتها. كما أن مسائل الدعم اللوجستي، مثل توفير قواعد عسكرية وتخزين الأسلحة، تعتبر تحديات إضافية.
4. التوازن بين الدفاع والاستقلالية الاستراتيجية
تحقيق استقلالية استراتيجية عن الناتو أمر معقد بسبب الحاجة إلى التنسيق المشترك في مواجهة التهديدات المشتركة، مثل التهديدات الروسية. وفي الوقت ذاته، فإن الحفاظ على تعاون وثيق مع الناتو يثير تساؤلات حول مدى إمكانية استقلالية القرارات الأوروبية في الشؤون الدفاعية.
رابعاً: آفاق التوجه الأوروبي نحو التسليح وبناء قوات دفاعية مستقلة
1. دور الاتحاد الأوروبي كقوة عالمية في المستقبل
إذا نجحت أوروبا في بناء قوة دفاعية متكاملة، فقد تصبح أكثر قدرة على لعب دور مستقل على الساحة الدولية، ما يعزز من موقفها في مواجهة قوى عالمية مثل روسيا والصين. وقد يتيح هذا للاتحاد الأوروبي فرض شروطه والتفاوض من موقع قوة، ليس فقط في الشؤون الأمنية، بل أيضاً في القضايا الاقتصادية والبيئية.
2. إمكانية ظهور تحالفات أمنية جديدة داخل أوروبا
تشكيل قوة دفاع أوروبية مستقلة قد يؤدي إلى ظهور تحالفات جديدة بين الدول الأوروبية تتجاوز الناتو. قد تكون هذه التحالفات موجهة للتعامل مع تهديدات معينة أو للتنسيق في مواجهة أزمات إقليمية، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة هيكلة الأمن الأوروبي بطريقة تتماشى مع المتغيرات العالمية.
3. التعاون مع القوى الصاعدة مثل اليابان وأستراليا
في ظل زيادة المنافسة العالمية، قد تتجه أوروبا إلى توسيع شراكاتها مع قوى آسيوية صاعدة مثل اليابان وأستراليا لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة. يمكن أن يساهم هذا التعاون في تقليل اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة وتعزيز التنوع في التحالفات الاستراتيجية.
الخاتمة
أدى التهديد الروسي المتزايد على حدود أوروبا، خاصةً بعد غزو أوكرانيا، إلى إعادة توجيه السياسات الأوروبية نحو تعزيز القدرات الدفاعية، بهدف تحقيق أمن واستقرار القارة. ويشكل هذا التوجه تحدياً كبيراً بسبب التعقيدات السياسية والمالية، إلا أن الرغبة الأوروبية في تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية قد تخلق منظومة دفاعية جديدة تتجاوز الهيمنة التقليدية للناتو.
ورغم وجود عقبات كبيرة، فإن التحركات نحو بناء قوة دفاعية أوروبية تعكس طموحاً حقيقياً نحو الاستقلال الأمني. ومن الممكن أن يؤدي هذا التوجه إلى تغييرات عميقة في الخريطة الجيوسياسية العالمية، ويعزز من قدرة أوروبا على التصدي للتحديات المستقبلية.