لماذا يرفض الجولاني العدالة الانتقالية في سوريا؟

Site management
0
بقلم سگڤان جونسون
في خضم التحولات الكبرى التي شهدتها سوريا، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 واستلام أحمد الشرع (الجولاني) للسلطة، تتجه الأنظار نحو مستقبل العدالة في البلاد. العدالة الانتقالية التي لطالما كانت محوراً رئيسياً للنقاش في أوقات ما بعد النزاعات، تمثل في الحالة السورية وسيلة حاسمة لمعالجة إرث الانتهاكات التي عصفت بالمجتمع السوري على مدار سنوات الحرب. ومع ذلك، يبرز رفض الجولاني لهذا المفهوم كعقبة رئيسية أمام تحقيق المصالحة الوطنية، وهو موقف يرتكز على دوافع واضحة وآثار عميقة تمس سلطته وجماعته.

رفض الجولاني للعدالة الانتقالية ينبع بشكل رئيسي من مخاوفه الشخصية والسياسية. في ظل قيادته لهيئة تحرير الشام لسنوات، ارتُكبت العديد من الانتهاكات التي شملت الاعتقالات التعسفية، الإعدامات الميدانية، وممارسات قمع الحريات في المناطق التي سيطر عليها، لا سيما في محافظة إدلب. العدالة الانتقالية، بمبادئها القائمة على المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، تمثل تهديداً مباشراً للجولاني وقياداته العسكرية. إدراكه أن أي عملية للعدالة الانتقالية قد تطاله شخصياً، سواء على المستوى القانوني أو السياسي، يدفعه إلى رفضها بشكل قاطع، حيث يرى فيها وسيلة قد تُستخدم لتجريده من سلطته وربما تضع نهاية لمسيرته.

لكن مخاوف الجولاني لا تتعلق فقط بالمحاسبة الشخصية. العدالة الانتقالية تعني بالضرورة إشراك أطراف متعددة في صياغة مستقبل سوريا، بما في ذلك القوى السياسية والمدنية التي همشها طوال فترة حكمه. هذا الانفتاح يتعارض مع نموذج حكمه الذي يقوم على المركزية المطلقة والاحتكار الكامل للسلطة. القبول بالعدالة الانتقالية قد يؤدي إلى ظهور أصوات معارضة له داخل وخارج المناطق التي يسيطر عليها، مما يهدد تماسك جماعته التي بنيت على الولاء المطلق له كزعيم.

رفض الجولاني للعدالة الانتقالية يترك أثراً عميقاً على جماعته أيضاً. هيئة تحرير الشام، التي تشكلت في سياق النزاع المسلح، اعتمدت على خطاب ديني وأيديولوجي يبرر ممارساتها ويروج لفكرة الحرب المستمرة كضرورة لحماية "المجتمع الإسلامي". العدالة الانتقالية، بمبادئها التي تدعو إلى السلام والمصالحة، تتناقض جذرياً مع هذا الخطاب، مما يجعل قبولها تهديداً لبنية الجماعة وأسس وجودها. إذا ما دخلت الهيئة في مسار العدالة الانتقالية، فإنها تخاطر بفقدان شرعيتها أمام أتباعها، خاصة أن الكثير منهم يؤمنون بفكرة "الجهاد المستمر" ورفض أي شكل من أشكال المصالحة مع القوى المعارضة أو المجتمع الدولي.

من ناحية أخرى، فإن هذا الرفض يحمل تبعات أوسع على مستقبل سوريا ككل. العدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة لمحاسبة الأفراد والجماعات المتورطة في الانتهاكات، بل هي أداة أساسية لبناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع وضمان استقرار دائم. رفض الجولاني لهذا المسار يعزز حالة الانقسام في البلاد، ويضعف أي جهود لتحقيق سلام شامل. هنا تبرز أهمية القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، الذي ينص بشكل واضح على ضرورة إطلاق عملية سياسية شاملة تقودها أطراف سورية وتمهد الطريق لمرحلة انتقالية تشمل تحقيق العدالة والمساءلة. رفض العدالة الانتقالية، الذي يعد خرقاً لمفرزات هذا القرار، يعيق تقدم أي جهود دولية أو محلية للتوصل إلى تسوية سياسية مستدامة

الجولاني يدرك أيضاً أن القبول بالعدالة الانتقالية قد يعني فتح الباب أمام تدخلات دولية واسعة النطاق، حيث أن المجتمع الدولي يعتبر العدالة الانتقالية جزءاً لا يتجزأ من أي تسوية سياسية في سوريا، وفقاً للقرار 2254. هذا التدخل قد يضعف من هيمنة الهيئة، حيث يُتوقع أن تكون المنظمات الدولية والمجتمع المدني طرفاً رئيسياً في صياغة وتنفيذ هذه العملية. وبالتالي، فإن رفضه للعدالة الانتقالية ليس فقط حماية لنفسه أو جماعته، بل هو أيضاً استراتيجية للحد من التأثيرات الخارجية التي قد تعيد تشكيل المشهد السياسي السوري بطرق لا تتماشى مع مصالحه.

في نهاية المطاف، يمثل رفض الجولاني للعدالة الانتقالية عقبة رئيسية أمام تحقيق الاستقرار والمصالحة في سوريا. لكنه في الوقت نفسه يعكس واقعاً معقداً، حيث تتشابك المصالح الشخصية والسياسية مع الأيديولوجيات والخطابات التي تبنتها هيئة تحرير الشام طوال فترة النزاع. إن تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا يتطلب إرادة سياسية قوية ودعماً دولياً متكاملاً، لكنه أيضاً يتطلب مواجهة صريحة للحقائق على الأرض، بما في ذلك القوى التي ترى في هذه العملية تهديداً لوجودها. بدون معالجة هذه التحديات، ستبقى العدالة في سوريا مجرد حلم بعيد المنال، وسيظل الشعب السوري يعاني من إرث الحرب والانقسامات، في تناقض واضح مع الرؤية التي رسمها القرار 2254 لتحقيق سلام مستدام وعدالة شاملة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!