خبراء الجيوستراتيجي يحللون: اللاوضوح في إتفاقية مظلوم عبدي وأحمد الشرع يبعث برسائل الشكوك، واستشرافٌ للتطورات الجيوسياسية القادمة

Site management
0
تقدير موقف: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
في جغرافيا سياسية تتصف بالتداخل الشديد بين القوى المحلية، الإقليمية، والدولية، يظل كل اتفاق، خاصةً ذلك الذي يتم بعيدًا عن عدسات الإعلام، محط تساؤل وريبة. هذا ما ينطبق تمامًا على اللقاءات والاتفاقات الغامضة بين مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وأحمد الشرع المعروف بـ"الجولاني"، زعيم هيئة تحرير الشام. في منطقة تعج بالتناقضات، يصبح الصمت حول مضمون التفاهمات أبلغ من أي تصريح. فما الذي يدفع الطرفين إلى تغليف تحركاتهم بطبقات كثيفة من الغموض؟ وما الذي يمكن أن يُستنتج من صمتهم؟

أولاً: لماذا يتم إخفاء ما تم الاتفاق عليه؟

الغموض في الاتفاق يعود إلى دوافع متعددة، بعضها براغماتي، وبعضها أيديولوجي، وبعضها ببساطة يعود لضرورات التكتيك السياسي:
1. رفض القواعد الشعبية لهذا النوع من التنسيق: من الواضح أن القواعد القومية الكردية من جهة، والقاعدية السلفية لهيئة تحرير الشام من جهة أخرى، ترفض أي تنسيق علني. الكرد يرون في الجولاني خصمًا دينيًا لا يؤمن بالتعددية، فيما ترى الهيئة في قسد امتدادًا لعدو عقائدي وسياسي.
2. ضغوطات القوى الإقليمية والدولية: تركيا، أمريكا، روسيا، وقطر، كلها أطراف لها مصلحة في عزل أو تحييد هذه الفصائل عن بعضها، أو بالعكس، الدفع بها إلى توافقات تخدم أجندات محددة. لذلك، فإن أي إعلان رسمي قد يفتح المجال لضغوط إضافية.
3. مخاوف أمنية وتكتيكية: الإفصاح عن التنسيق قد يعرّض الطرفين لضربات عسكرية تركية أو تمرد داخلي، خصوصًا أن الطرفين يديران أراضٍ واسعة ومنقسمة عرقيًا ومذهبيًا.

ثانيًا: هل اتفق الطرفان على اللامركزية أم المركزية؟

هذا سؤال جوهري، وهو يُخفي خلفه تصورين مختلفين لسوريا ما بعد الحرب:
مظلوم عبدي يُمثل مشروعًا قائمًا على اللامركزية السياسية والإدارية، بما يسمح بإبقاء "الإدارة الذاتية" الكردية كنموذج حكم قائم بذاته ضمن سوريا موحدة اسميًا.
الجولاني على الطرف الآخر، يتبنى مركزية دينية-عسكرية في إدلب وشمال غرب سوريا، ويستخدم "حكومة الإنقاذ" كأداة حكم، دون وضوح في برنامجه السياسي للسوريين غير السنّة أو غير السلفيين.
لكن رغم هذا التناقض الظاهري، قد يكون الاتفاق قائمًا على "لامركزية أمنية وتكتيكية" مؤقتة: أي نوع من تقاسم النفوذ دون أن يُترجم إلى رؤية موحدة. هذه الحالة الرمادية تسمح للطرفين بتحقيق مصالح مرحلية، دون الاصطدام بجوهر الخلافات الأيديولوجية.

ثالثًا: أسرار الغموض... ما الذي يُخفى ولماذا؟

ممرات التهريب والاقتصاد الرمادي: هنالك معلومات متقاطعة عن تفاهمات اقتصادية بين الطرفين تتعلق بمرور البضائع والنفط والسلاح. هذه القنوات غير الرسمية تمثل شريان حياة للطرفين في ظل الحصار الدولي.
التنسيق ضد فصائل عربية أخرى: هنالك احتمالية بأن الطرفين توصلا إلى صيغة غير مباشرة لتحييد أو إضعاف بعض الفصائل العسكرية المدعومة من تركيا والتي تُشكل خطرًا عليهما معًا.
تبادل الأسرى وتأمين الحدود: ملفات إنسانية وأمنية حساسة قد تكون في صلب الاتفاق، لكنها لا تُعلَن كي لا تُعتبر خيانة للمبادئ المعلنة.
تهيئة لتقاسم السلطة مستقبلًا؟ ربما يتفاوض الطرفان، بضغط خارجي (قطري-تركي من جهة، وأمريكي-فرنسي من جهة أخرى)، على خارطة سياسية لمرحلة ما بعد الأسد، ما يتطلب تقاربًا مبكرًا يُبنى عليه لاحقًا.

رابعًا: من القراءة الجيوسياسية... هل يمكن استشراف التطورات القادمة؟

نعم، من خلال متابعة التوازنات الإقليمية والدولية، يمكن رصد عدة احتمالات:
1. انخراط الجولاني في مشروع سياسي أوسع: الدعم القطري له وهيكلة مؤسسات "الإنقاذ" تشير إلى نية لتقديمه كرأس حربة لمشروع سني معتدل في الشمال، وقد يُطلب منه "الاعتدال" أكثر والانفتاح على قوى كـ"قسد".
2. إعادة ترسيم الحدود الإدارية في شمال سوريا: بغطاء تفاهم أمريكي-تركي-روسي غير مباشر، قد يتم الاعتراف الضمني بسيطرة قسد على شرق الفرات، والهيئة على أجزاء من إدلب، شرط تنسيق أمني ضد "داعش" أو "الحرس الثوري الإيراني".
3. إضعاف دور دمشق: التنسيق غير المُعلن بين قسد والجولاني يصب في مصلحة واحدة: تقليص نفوذ النظام السوري تدريجيًا، تمهيدًا لتسوية مستقبلية تُفرض عليه لا يملك فيها قوة ميدانية كبيرة.

المحصلة: 

الغموض بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع ليس نتيجة خلل في التواصل، بل هو تعبير دقيق عن توازنات مضطربة لا تحتمل الوضوح. كل منهما يمشي على حبل مشدود فوق فراغ استراتيجي، يدرك أن أي انكشاف قد يعني السقوط. لكن من خلال هذا الغموض، يمكننا استشراف بوادر تشكل مشهد جديد في الشمال السوري، يقوم لا على الأيديولوجيا، بل على الحذر، والمصالح، وتقاطع الضرورات.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!