من يحكم دمشق؟ التوازنات الغامضة بين السلطة والظل في سوريا الجديدة

Site management
0
قراءة سياسية لـ: إبراهيم كابان
لا يمكن الإجابة عن سؤال "من يحكم دمشق؟" بطريقة تقليدية تستند إلى وجود هرم سلطوي واضح يتصدره مسؤول بعينه أو مؤسسة محددة. المشهد السياسي والأمني في العاصمة السورية وما حولها بات معقدًا إلى حد يستعصي على التوصيف المباشر، حيث تشكلت شبكة متداخلة من القوى التي تتنافس على النفوذ في ظل انهيار الدولة المركزية وتحول سوريا إلى ساحة لتقاطع أجندات محلية وإقليمية ودولية. وإذا كانت وجوه مثل أحمد الشرع تظهر في الواجهة، فإن من يقبض فعليًا على مفاصل القرار هم فاعلون من "الظل"، تُدار تحركاتهم وتُنسق أهدافهم عبر غرف استخبارات إقليمية، وعلى رأسها الاستخبارات التركية.

هشاشة القيادة الظاهرة: أحمد الشرع نموذجًا

أحمد الشرع، الذي يُروج له في بعض الأوساط باعتباره وجهًا سياسيًا "توافقيًا"، لا يبدو أنه يملك زمام القرار الفعلي. فمواقفه تتسم بالتردد، وغالبًا ما يتم نقضها أو محو آثارها عبر تدخلات مباشرة من جهات مسلحة ذات طابع أيديولوجي متطرف. هذه التيارات، التي تتلفع بغطاء "الشرعية الدينية"، لا تكتفي بإقصاء الخصوم، بل تفرض منطقها الخاص على شركاء المرحلة، وتتعامل مع أي محاولة للتفاهم أو التسوية باعتبارها خيانة للمقدس العقائدي.
في هذا السياق، برزت تصريحات أحمد الشرع الأخيرة التي تراجع فيها عن تفاهماته مع قوات سوريا الديمقراطية، وخاصة فيما يتعلق بمخرجات المؤتمر الكردي، كمؤشر على ضعف موقعه ضمن منظومة القرار. فهذه التفاهمات، التي اعتُبرت خطوة نادرة نحو إعادة بناء جسور الثقة بين الأطراف السورية المتنازعة، قُوبلت برفض صريح من التيارات السلفية المتشددة، التي رأت فيها تقويضًا لهيمنة "الطائفة الصحيحة" على القرار العسكري والسياسي.

تيارات دينية بثوب ناعم... وحضور أمني صلب

الوجه الأخطر لهذه المرحلة لا يتمثل فقط في الخطاب الإقصائي العلني، بل في التطور الجديد الذي طرأ على التيارات المتطرفة: نعومة الخطاب، وصلابة السيطرة. فبعض الجماعات التي كانت تلوّح بالسيف والنار، باتت اليوم تتحدث بلغة مدنية، وتتبنى أدبيات أقرب إلى "المرونة السياسية"، لكنها في الواقع تحتفظ بنفس الهياكل السلطوية التي ترفض الآخر وتُقصيه.
هذه المجموعات – التي تمظهرت في تجارب مثل "هيئة تحرير الشام" أو في صيغ محلية أقل شهرة – لا تزال تمسك بقبضة حديدية على الواقع الأمني والعسكري، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبعضها يتم توجيهه بدقة من قبل الاستخبارات التركية التي باتت تشكل سلطة فوق السلطة في تلك البقاع.
الاعتماد التركي على هذه التنظيمات لا يهدف فقط إلى تقويض مشاريع الخصوم (وخاصة المشروع الكردي)، بل إلى إعادة تشكيل المشهد السوري بما يتلاءم مع الطموحات التوسعية لأنقرة في الشمال والشرق السوري. وهكذا، فإن الخطاب المعتدل لا يُترجم فعليًا إلى ممارسات ديمقراطية، بل يُستخدم كأداة لطمس الحقيقة وتمرير الهيمنة.

كاراكوزات المرحلة: السلطة الشكلية في ظل الدولة العميقة

الواقع أن من يظهرون على الواجهة السياسية – من أحمد الشرع إلى غيره من الشخصيات التي يتم تلميعها إعلاميًا – هم أقرب إلى "كاراكوزات" في مسرح عرائس تحركه قوى الظل. يتم دفع هؤلاء إلى الساحة لتجميل وجه السلطة، أو لإيهام الداخل والخارج بوجود عملية سياسية، بينما يتم تفريغ كل القرارات من مضمونها عبر شبكات موازية من الضبط الأمني والعقائدي.
السلطة الفعلية باتت في يد تنظيمات غير خاضعة لأي إطار وطني موحد، بل تتبع شبكات مصالح إقليمية، وتستخدم أدوات العنف والخطاب الطائفي لإبقاء المجتمع في حالة من الانقسام الدائم. وهذا ما يفسر الهجوم المنهجي على أي محاولة حوار بين المكونات السورية، وخصوصًا حين تشمل الأكراد أو القوى المدنية الديمقراطية.

التطور الخطر: ذهنية الحكم المتطرف

التوقع المنطقي لمسار هذه الحالة أن الذهنية المتطرفة لن تكتفي بالهيمنة على الحقل العسكري، بل ستسعى للتمدد إلى البنى السياسية والاجتماعية، وذلك عبر تهميش أي صوت وسطي أو عقلاني. وفي حال لم يتم ضبط هذا المسار، فإن ما تبقى من هوامش الحرية أو الفاعلية السياسية سيُغلق تمامًا، ما ينذر بولادة نظام جديد لا يقل استبدادًا عن النظام البعثي، لكنه يرتدي عباءة العقيدة و"الشرعية الدينية".
ولعل أخطر ما في هذا السيناريو هو أن كثيرًا من المراقبين الدوليين لا يزالون يتعاملون مع هذه الشخصيات والمجموعات كأطراف سياسية يمكن التفاوض معها، دون إدراك أنها لا تملك قراراتها، بل تنفذ أجندات تُرسم خارج الحدود.

دمشق بوصفها مركزًا للفراغ السلطوي

إذا كانت دمشق اليوم لا تُحكم من قبل النظام وحده، ولا من قبل المعارضة بمعناها التقليدي، فإن من يحكمها فعليًا هو "الفراغ السلطوي" المملوء بقوى متطرفة تتنازع النفوذ باسم العقيدة. وأحمد الشرع، في هذا المشهد، ليس سوى مثال حي على تناقضات السلطة الظاهرة ومحدودية أثرها.
إن استعادة القرار السوري لا يمكن أن تتم إلا بكسر هذا الاحتكار العقائدي للشرعية، وفك الارتباط بين التنظيمات العسكرية وبين الاستخبارات الإقليمية، وخلق فضاء سياسي جديد يعترف بكل المكونات السورية، دون إقصاء أو تمييز. غير أن هذا المسار لا يزال بعيد المنال، ما لم تتغير قواعد اللعبة جذريًا، وما لم يُسأل السؤال الصعب بجرأة: من يحكمنا؟ ولماذا؟

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!