بين أنقرة وتل أبيب: من يملك مفاتيح النفوذ المستقبلي في سوريا؟

Site management
0
بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، أصبحت الساحة السورية مسرحًا لتنافس قوى إقليمية ودولية تسعى كل منها لتثبيت موطئ قدم في بلد تلاشى مركزه السيادي لصالح مشاريع النفوذ. وفي حين تهيمن روسيا وإيران على المشهد العسكري والسياسي في دمشق، تبرز تركيا وإسرائيل كقوتين تتصارعان على مناطق النفوذ "غير الرسمية"، إحداهما عبر الاحتلال العسكري والتمدد الشعبي، والأخرى من خلال الضربات الجوية والعمليات الاستخباراتية. والسؤال المطروح اليوم: من يملك الحظ الأوفر في فرض واقع طويل الأمد؟ إسرائيل ذات القوة الأمنية والاستخباراتية؟ أم تركيا ذات الامتداد الثقافي والديني في المجتمع السوري؟

النفوذ التركي في سوريا: مشروع ممتد متعدد الأبعاد

منذ عام 2016، ومع انطلاق عملية "درع الفرات"، بدأت تركيا بفرض واقع ميداني في الشمال السوري، توسع لاحقًا إلى عفرين وتل أبيض ورأس العين. التغلغل التركي لم يقتصر على الجانب العسكري، بل اتخذ طابعًا مدنيًا وثقافيًا متكاملًا: إنشاء مجالس محلية، ربط الخدمات بالبلديات التركية، دعم التعليم باللغة التركية، واستخدام الليرة التركية.
سياسيًا، سعت تركيا لتقديم نفسها كحامية للأغلبية السنّية، وخصوصًا للفصائل المعارضة، بما فيها تلك المصنّفة دوليًا (كهيئة تحرير الشام)، والتي أبدت براغماتية واضحة في التعامل مع أنقرة. العلاقة بين تركيا والشارع السنّي تُبنى على إرث ديني عثماني، وشعور بالتقارب الثقافي واللغوي، جعلها أكثر قبولًا من أي قوة أجنبية أخرى.

النفوذ الإسرائيلي: قوة ظل أمنية دون عمق شعبي

في المقابل، اتخذت إسرائيل سياسة أكثر تحفظًا ولكنها فعّالة في حماية أمنها القومي عبر سوريا. عشرات الضربات الجوية الإسرائيلية استهدفت مواقع إيرانية وأخرى تابعة لحزب الله في محيط دمشق، القنيطرة، وحتى حلب. إسرائيل تسعى لخلق "منطقة عازلة" غير معلنة جنوب سوريا، عبر تفاهمات مع روسيا وبعض الفصائل المحلية، دون أي طموح ببناء نفوذ مدني أو سياسي.
لكن يظل النفوذ الإسرائيلي محصورًا ضمن إطار أمني–عسكري، في ظل انعدام القبول الشعبي الواسع، خصوصًا بين الأغلبية السنية، التي لا تزال تنظر إلى إسرائيل كعدو تاريخي. ورغم ذلك، هناك مؤشرات على تواصل محدود مع بعض الأقليات والمكونات المحلية، خاصة في الجنوب السوري، في إطار تبادل مصالح مؤقت.

الشارع السنّي: تقارب فطري مع تركيا

يشكل السنّة غالبية سكان سوريا، وتاريخيًا ينظر قسم كبير منهم إلى تركيا كامتداد طبيعي ثقافي وديني، رغم التفاوت في الرؤى السياسية بين الإسلاميين والقوميين والليبراليين. ومع دعم تركيا للفصائل المعارضة، وتبنيها خطابًا إسلاميًا ناعمًا، نشأ نوع من القبول الشعبي في مناطق مثل إدلب، حلب، وريف حماة.
في المقابل، إسرائيل لا تملك أي خطاب قادر على اختراق هذا المجتمع، ولا تقدم مشاريع تنموية أو ثقافية، بل يقتصر تفاعلها مع الملف السوري على الضربات الجوية والعمليات الاستخباراتية.

الكُرد: بين عداء أنقرة وتنسيق غير مباشر مع تل أبيب

يختلف موقف الكُرد تمامًا عن السنّة. فتركيا تُعتبر خصمًا مباشرًا لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وذراعه العسكري "قسد"، وتصفهم بأنهم امتداد لحزب العمال الكردستاني. بالتالي، تعتبر تركيا طرفًا معاديًا في المخيال السياسي الكردي.
على الجانب الآخر، تنظر إسرائيل إلى الكُرد كحليف غير مباشر يمكن أن يُستخدم لتقويض النفوذ الإيراني والتركي، خصوصًا في شرق الفرات. وهناك تقارير عن دعم إسرائيلي سياسي ودبلوماسي، وربما استخباراتي، للمشروع الكردي في شمال شرق سوريا، في ظل الغطاء الأمريكي المستمر له.

العلويون والدروز: الأقلّيات وتناغمها مع القوى الدولية

العلويون، الذين يشكلون العمود الفقري للنظام السوري، ينظرون إلى تركيا كتهديد وجودي نظرًا لخلفيتها السنية ودعمها للثورة. في المقابل، رغم عدائهم التقليدي لإسرائيل، إلا أنهم يفضلون "عدوًا واضحًا" لا يسعى لتغيير نظام الحكم، على "حليفٍ سنّي" يهدد بنيتهم السياسية.
الدروز، خاصة في السويداء والجولان، يتخذون موقفًا أكثر براغماتية. فقد حافظوا على قنوات تواصل تاريخية هادئة مع إسرائيل، مستفيدين من علاقتهم بالمجتمع الدرزي في الأراضي المحتلة، دون أن يعني ذلك اصطفافًا مباشرًا. تركيا، في المقابل، لا تملك أي رصيد داخل البيئة الدرزية، بل ربما تُقابل بالريبة.

القوى الكبرى: واشنطن وموسكو ترسمان حدود النفوذ

لا تتحرك تركيا ولا إسرائيل في فراغ، بل ضمن مساحات تضبطها الولايات المتحدة وروسيا:
الولايات المتحدة تمثل الغطاء الاستراتيجي لكل من إسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية، وتحاول الحفاظ على توازن هشّ يمنع هيمنة روسيا أو إيران. رغم توتر العلاقة مع تركيا، تبقى واشنطن مضطرة للتعامل معها كشريك في الناتو.
روسيا، الضامن الأكبر لبقاء النظام، تتعامل مع إسرائيل ضمن تفاهمات أمنية لتفادي التصادم، وتحتفظ بعلاقات ضرورية مع تركيا عبر مسارات أستانا وسوتشي، رغم تناقض الأهداف.
هذا التوازن المعقّد يجعل من أي تمدد تركي أو إسرائيلي رهينة لتفاهمات دولية قد تتغير في أي لحظة.

خاتمة: من يملك مفاتيح المستقبل؟

رغم تفوق إسرائيل من حيث القدرات الاستخباراتية والغطاء الدولي، إلا أن غيابها عن المشهد الشعبي والمدني يجعلها قوة محدودة التأثير على المدى الطويل داخل سوريا. في المقابل، تركيا نجحت في فرض حضور متعدّد الأوجه، مدنيًا وعسكريًا، رغم التحديات الكردية والضغوط الروسية.
المكونات السورية نفسها تلعب دورًا حاسمًا: فالسنّة يميلون نحو تركيا، الأكراد يتمسكون بأمريكا ويرحب بعضهم بإسرائيل كعامل توازن، الدروز يتأرجحون، والعلويون يلتزمون بتحالفهم مع روسيا وإيران.
وفي النهاية، يبقى النفوذ التركي الأقرب للتجذر في الأرض، بينما تظل إسرائيل لاعب ظل ماهر، يتحرك في العتمة دون أن يسعى لاحتلال المساحة كلها.

إعداد المادة: فريق الجيوستراتيجي للدراسات/ قسم "إستشراف الأحداث المستقبلية"

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!