الكُرد والسباق المؤجل: حين تسبقهم تركيا بخطوات استراتيجية طويلة

Site management
0
خاص/ هيئة تحرير الجيوستراتيجي للدراسات
في كل خطوة يخطّط لها الكرد، تكون تركيا قد تجاوزتها بعشرات الأميال. ليست هذه مبالغة ولا جلدًا للذات، بل توصيف دقيق لاختلال التوازن بين مشروعين متضادين: مشروع كردي مشتّت ومحدود الموارد، أمام آلة تركية مركزية تمتلك قدرات هائلة، وتتحرك برؤية قومية متماسكة تخدم استراتيجيتها الإقليمية منذ عقود.
النتيجة المتكررة: يخرج الكرد من أغلب المعادلات الإقليمية بلا مكاسب تُذكر، وربما بأسوأ من ذلك، بعد أن يُستهلكوا في مشاريع غيرهم أو يخطئوا في حساباتهم. هذه المعضلة لا تعود فقط إلى قوة الطرف الآخر، بل إلى هشاشة البنية الذاتية الكردية، واعتمادها على تصورات غير واقعية أو على استراتيجيات مستعارة لا تنبع من داخل المجتمع الكردي السوري.
ولذلك، فإن أي محاولة لتعديل الكفّة، تبدأ من الداخل الكردي السوري نفسه. من التفكير الهادئ، والتخطيط العقلاني، وبناء استراتيجية لا تُشبه سوى نفسها.

العقل الكردي السوري: منبع الاستراتيجية لا أداة تنفيذ

إن أول ما يجب الاعتراف به هو أن العقل الكردي السوري، وليس أي عقل خارجي، هو الوحيد القادر على فهم طبيعة الأزمة وتركيب المجتمع وحدود الممكن. لا يمكن الاستمرار في الاعتماد على "عقول مستوردة" تفرض قوالبها الجاهزة على واقع مغاير. كل جزء من كردستان له خصوصياته، والتجربة السورية تختلف جذريًا عن التجربة التركية أو العراقية أو الإيرانية.
المطلوب هو تحرير القرار الكردي السوري من أي وصاية فكرية أو تنظيمية، والانطلاق من قاعدة تقول: نحن أدرى بشعابنا. التضحيات الكردية في سوريا لا تقل شأنًا عن أي مكان آخر، لكنها بحاجة إلى عقل سياسي ينبع من ذاتها، لا من خارطة خارجية.

القومية المشروعة بدل الأممية الموهومة

النقطة الثانية التي لا تقل أهمية، هي إعادة الاعتبار للفكر القومي الكردي المعتدل والمشروع، الذي ينطلق من كرامة الشعب وحقه في تقرير مصيره، وليس من سرديات أممية تجريدية أثبتت فشلها في التأثير على الشارع الكردي، ولا على القوى الدولية الفاعلة.
لقد تم استهلاك الكثير من الجهد في بناء خطابات أممية طوباوية، لم تنجح في تأمين اعتراف حقيقي، ولا في حشد حاضنة اجتماعية واسعة. في المقابل، فإن خطابًا قوميًا عقلانيًا، متحررًا من التطرف، ومبنيًا على شرعية الحقوق التاريخية والمعاصرة، يملك القدرة على التأثير داخليًا وخارجيًا، لأنه يستخدم لغة مفهومة وملموسة: لغة "الحق"، لا لغة "اليوتوبيا".

السياسة الكردية السورية خارج عباءة حزب العمال الكردستاني

أما النقطة الأشد حساسية، فهي الحاجة إلى رسم سياسات كردية سورية مستقلة عن إملاءات حزب العمال الكردستاني. هذا ليس انتقاصًا من تضحيات الحزب ولا إساءة لتاريخه، بل تفصيل استراتيجي ضروري. حزب العمال نشأ في ظروف مختلفة، وتكوّن في بيئة جيوسياسية لا تشبه البيئة السورية، وله أولويات لا تتطابق بالضرورة مع أولويات الكرد السوريين.
التقدير لا يعني التبعية. الاحترام لا يساوي الذوبان.
إن التماهي الكلي مع مشروع الحزب جعل من القضية الكردية في سوريا تبدو في نظر العالم وكأنها "فرع من أصل"، وليس لها ذاتية مستقلة. وما لم يستقل القرار السياسي الكردي السوري، فإن فرص بناء كيان سياسي مستقر وفاعل ستظل محدودة جداً، مهما عظمت التضحيات.

الساحة الحقيقية: التفكير الاستراتيجي لا السلاح

الصراع اليوم ليس عسكريًا فقط. بل إن الساحة الأخطر والأهم هي ساحة التفكير الاستراتيجي. وهنا، تُهزم الأمم قبل أن تبدأ المعارك. تركيا لا تتقدم فقط لأنها أقوى، بل لأنها تمتلك رؤية قومية واضحة، ومؤسسات مستقرة، ونخبة سياسية لا تعاني من عقدة الأيديولوجيا المستوردة.
أما الكرد، فإن استمرارهم في الاعتماد على "عقول وافدة"، أو انشغالهم بخطابات غير واقعية، أو خضوعهم لتجاذبات حزبية خارجية، سيؤدي دائماً إلى النتيجة نفسها: الخروج من المعادلة دون مقابل.
إنه الوقت المناسب لنفكر كأمة، ونعمل كأمة، ونتصرف كأمة.
لا خيار لنا إلا ببناء عقل كردي سوري مستقل، يتقن لغة التوازن، ويعرف من أين تبدأ الطريق، ومتى يجب أن تُقال كلمة "كفى".

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!