تقرير: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
شهد إقليم كوردستان العراق، على مدى العقدين الماضيين، تحولًا تدريجيًا لكنه جوهريًا في موقعه على خارطة العلاقات الإقليمية والدولية. فبعد أن كان الفاعل الكوردي محصورًا ضمن حدود الداخل العراقي، ومرتبطًا أساسًا بقضية قومية ذات طابع دفاعي ومطلبي، بدأت دبلوماسية الإقليم تتشكل بوصفها أداة استراتيجية لتعزيز الاستقرار، وجذب الاستثمارات، وتأمين الحضور في الأطر الدولية، وهو ما ساهم في إعادة تعريف دور الإقليم ككيان سياسي دون دولتي يتمتع بمرونة كبيرة في التفاعل مع بيئات متعددة ومتغيرة.
إن هذا التطور لا يمكن فصله عن السياق السياسي العراقي بعد 2003، حيث شكّل سقوط نظام صدام حسين نقطة تحول جذرية في تموضع الكورد داخل الدولة العراقية، وفي علاقاتهم مع العالم الخارجي. فقد أتاح الدستور العراقي لعام 2005 للإقليم صلاحيات واسعة في إدارة ملفاته الخارجية والاقتصادية، ضمن سقف السيادة الاتحادية، الأمر الذي فُسّر من قبل أربيل بوصفه غطاءً قانونيًا لتأسيس سياسة خارجية "شبه مستقلة"، تسعى إلى تعزيز صورة الإقليم كشريك موثوق ومعتدل في منطقة مضطربة.
أولًا: البنية المؤسسية للدبلوماسية الكوردية
اعتمدت حكومة إقليم كوردستان على بناء بنية دبلوماسية مؤسسية، تمثلت في تأسيس دائرة العلاقات الخارجية التي أدت دور "وزارة خارجية مصغّرة"، حيث تولّت مهام التواصل مع الحكومات والسفارات والمنظمات الدولية، واستضافت ممثليات أجنبية في أربيل، مع فتح ممثليات دبلوماسية للإقليم في عواصم كبرى مثل واشنطن، لندن، باريس، وبرلين. لم يكن هذا التحرك مجرد رغبة في التمثيل الرمزي، بل اندرج ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تأطير الإقليم كفاعل شرعي يمتلك عناصر الحكم الرشيد، الاستقرار الأمني، والانفتاح الاقتصادي.
وقد أظهرت هذه المؤسسات قدرة لافتة على إدارة الملفات المعقدة، كملف اللاجئين والنازحين، ومكافحة الإرهاب، وجذب الاستثمارات، ما جعل الإقليم مركز ثقل نسبي في شمال العراق، وحوله إلى نقطة التقاء بين المصالح الدولية والإقليمية.
ثانيًا: تنويع الشركاء الدوليين وتوسيع نطاق العلاقات
أبرز ما ميز تطور الدبلوماسية الكوردية هو السعي المنهجي إلى تنويع الشركاء الدوليين، وعدم حصر العلاقة بالقوى التقليدية الداعمة كأميركا وبريطانيا. فقد سعت أربيل إلى بناء علاقات مستقلة مع الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين، ودول الخليج، كما ركزت على الانفتاح على دول الجوار مثل تركيا، إيران، والأردن، مع محاولة دبلوماسية حذرة للتوازن بين هذه القوى المتنافسة.
وقد مثّلت العلاقة مع تركيا نموذجًا فريدًا لتحول دبلوماسي من القطيعة والريبة التاريخية إلى شراكة استراتيجية، تكللت بفتح بوابات اقتصادية عملاقة مثل خط أنابيب تصدير النفط الكوردي إلى ميناء جيهان، ما عزز من قدرة الإقليم على استخدام أدوات الاقتصاد كوسيلة لتعزيز نفوذه السياسي.
في المقابل، حافظت أربيل على علاقة مع إيران رغم تناقض الأجندات الإقليمية، واستثمرت في العلاقات الثقافية والتجارية لتجنّب التصعيد مع جار يمتلك نفوذًا واسعًا داخل العراق. أما من ناحية الغرب، فقد شكّلت الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد داعش لحظة مفصلية في بلورة صورة الإقليم كمركز مقاومة ضد التطرف، ما أكسبه احترامًا دوليًا وتعاطفًا شعبيًا في عدد من العواصم الغربية.
ثالثًا: الدبلوماسية الإنسانية والثقافية كأدوات قوة ناعمة
إضافة إلى المسار السياسي والاقتصادي، برزت أدوات القوة الناعمة الكوردية كجزء من استراتيجية الدبلوماسية الجديدة. فقد استثمر الإقليم في الملف الإنساني، لا سيما من خلال استضافة أكثر من مليون نازح ولاجئ منذ عام 2014، في ظروف أُشيد بها دوليًا. كما دعم الإقليم حوارات ثقافية وأكاديمية، وشارك في المنتديات العالمية، وحاول إعادة إنتاج صورته كمنطقة آمنة ومتعددة الثقافات، توفر نموذجًا مغايرًا عن المحيط العراقي والسوري المضطرب.
هذا التوجه كان هدفه المزدوج تحسين صورة الإقليم دوليًا، وفتح أبواب الدعم والتعاون، خصوصًا من قبل المؤسسات الأوروبية والدول المانحة، الأمر الذي عزز من استقلالية القرار السياسي الكوردي ضمن العراق الاتحادي.
رابعًا: التحديات والحدود البنيوية للدبلوماسية الكوردية
رغم النجاحات النسبية، تواجه دبلوماسية الإقليم عدة تحديات بنيوية وسياسية. أولها أن الإقليم لا يزال جزءًا من دولة ذات سيادة، ما يقيّد حركته رسميًا، ويجعله عرضة لتقلبات المزاج السياسي في بغداد. وثانيها هشاشة الوضع السياسي الداخلي، والتنافس بين الأحزاب الكوردية، ما ينعكس أحيانًا سلبًا على وحدة الخطاب الخارجي ويضعف الرسائل الدبلوماسية الموحدة.
كما أن محاولة الموازنة بين القوى الإقليمية المتنافسة، وخاصة بين تركيا وإيران، تضع الإقليم في موقع دقيق للغاية، يجبره على ممارسة دبلوماسية "الخط الرفيع"، دون القدرة على لعب أدوار أكبر في الملفات الإقليمية.
ولا يمكن تجاهل أن استفتاء الاستقلال عام 2017 مثّل نقطة ارتباك كبرى في المسار الدبلوماسي، حيث أدى إلى تراجع نسبي في شبكة العلاقات الدولية، خاصة بعد الموقف الحاسم لتركيا وإيران وحتى بعض الدول الغربية التي اعتبرت الخطوة غير مدروسة. إلا أن الإقليم استطاع لاحقًا احتواء آثار هذا الحدث، واستعاد تدريجيًا حضوره الإقليمي والدولي من خلال لغة براغماتية قائمة على التعاون والمصالح المتبادلة.
خامسًا: آفاق المستقبل: من التمثيل إلى التأثير
إن الموجة الجديدة من الدبلوماسية الكوردية تشير إلى ميل واضح نحو التحول من دبلوماسية تمثيلية إلى دبلوماسية تأثير، خصوصًا مع بروز جيل جديد من الدبلوماسيين والسياسيين المدربين دوليًا، ومع توسّع حضور الإقليم في المنصات الأكاديمية والحقوقية والإعلامية العالمية. كما أن الأزمات الإقليمية المتكررة تُبرز الحاجة إلى فاعلين شبه مستقلين يمتلكون القدرة على الوساطة أو تخفيف حدة التوتر، وهو ما قد يشكل فرصة استراتيجية أمام كوردستان لتقديم نموذجها بوصفه كيانًا يتمتع بالاستقرار النسبي والإرادة السياسية للبقاء ضمن المعادلات الدولية.
كما أن التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والتراجع النسبي للأنظمة المركزية، يعطي للإقليم مجالًا إضافيًا لتعزيز مكانته، شرط الحفاظ على التوازن بين الطموح القومي والواقعية الدبلوماسية، والحرص على بناء شراكات مستدامة تتجاوز اللحظة الراهنة.
النتائج الموضوعية
تُعد دبلوماسية إقليم كوردستان أحد أبرز تجارب الكيانات شبه المستقلة في بناء علاقات دولية دون انفصال سياسي. وبينما لا تزال بغداد تحتفظ بحق السيادة الرسمي، استطاعت أربيل، عبر مقاربة براغماتية ومرنة، أن تخلق شبكة علاقات دولية وإقليمية واسعة ومتعددة الاتجاهات، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي، وقدراتها المؤسسية، وانفتاحها الثقافي. ويبدو أن المستقبل سيشهد تحولًا تدريجيًا في دور الإقليم من هامش التمثيل إلى مركز الفاعلية، بشرط توحيد الخطاب الداخلي، وتحييد الخلافات الحزبية، وتعزيز أدوات القوة الناعمة والصلبة ضمن رؤية دبلوماسية متكاملة.