نحو تسوية تاريخية عادلة: متطلبات واقعية لإنجاح عملية السلام الكردية في تركيا

Site management
0
تركيا تحت المجهر: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
منذ أكثر من عقدين والملف الكردي في تركيا يشكّل حجر عثرة أمام مسار الديمقراطية والاستقرار في البلاد. وعلى الرغم من الخطابات المتكررة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول نيّته في فتح صفحة جديدة مع الأكراد عبر ما يُسمّى بـ"عملية السلام"، فإن غياب الأسس الجدية والشفافة لهذا المسار، وعدم تحويله إلى مشروع سياسي مؤسسي، جعله يتعثر مرارًا ويفشل في التأسيس لأي اتفاق دائم. وعليه، فإن الحديث عن أي عملية سلام مستقبلية، لا يمكن أن يكون مجرّد ترفٍ خطابي أو محاولة تكتيكية لامتصاص الضغط الداخلي أو الخارجي، بل يتطلب بنية تفاوضية حقيقية، ومقاربة قائمة على الواقعية السياسية، والمأسسة القانونية، والالتزامات الدستورية.

أول المتطلبات الأساسية لإنجاح أي عملية تفاوض هو كسر احتكار المخابرات التركية لمسار التواصل مع الطرف الكردي. فخلال كل المحطات السابقة، جرت الحوارات في غرف مغلقة ووسط هيمنة أمنية واضحة، مما جعلها عرضة للانهيار بمجرد تغيّر المزاج السياسي أو تزايد الضغط القومي داخل الدولة. لذلك، يجب تشكيل فريق تفاوض كردي واضح ومعلن، يملك الشرعية التمثيلية ويُحاسَب أمام الشعب الكردي، ويقابله فريق رسمي من الدولة التركية يفاوض باسم الحكومة، لا أجهزة الدولة العميقة. هذا الشرط هو الذي يؤسس لثقة متبادلة ويمنح العملية طابعها السياسي بدلاً من الأمني.

كما أن غياب جدول المطالب الكردية المحددة والمعلنة أتاح للسلطة التركية التلاعب بمسار التفاوض وتفريغه من مضمونه، لذلك فإن أي فريق تفاوض كردي يجب أن ينطلق من برنامج قومي واضح المعالم، يضع الحقوق الثقافية، والإدارية، والسياسية للشعب الكردي في صلب العملية. هذا البرنامج يجب أن يُبلور ضمن رؤية قومية توافقية تشمل تمثيلاً واسعاً من الداخل والخارج، ويأخذ بعين الاعتبار الديناميكيات الإقليمية المتشابكة.

ولا بد من رسم خارطة طريق للسلام تستند إلى مراحل زمنية وخطوات محددة يتم التدرج فيها ضمن اتفاق مكتوب وموثّق، وبمصادقة برلمانية، ما يمنح العملية طابعاً رسمياً ويُحمّل الأطراف مسؤوليات واضحة أمام الرأي العام. وهذا يشمل تشكيل لجنة برلمانية مختلطة تتولى الإشراف على تنفيذ بنود الاتفاق، وترصد مستوى التقدم أو التعثر في كل مرحلة، وهو ما غاب عن التجارب السابقة.

إن غياب الضمانات الدولية، وعدم إشراك أطراف محايدة في عملية السلام، مكّن الدولة التركية من الالتفاف على التزاماتها بسهولة. لذلك، فإن إشراك الأمم المتحدة أو دول كبرى مثل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة كجهات مراقبة وضامنة، يمكن أن يشكّل عنصر ردع لأي محاولة لخرق الاتفاق، كما يعزز من شرعية العملية ويمنحها بعداً دولياً يحصّنها من الابتزاز المحلي. 

ومن الأهمية بمكان أن تُترجم كل هذه التفاهمات إلى نصوص دستورية في الدستور المقبل الذي يتم التحضير له، لضمان ديمومتها وعدم نسفها بقرار رئاسي أو مزاج حزبي. فطالما بقيت المسألة الكردية خارج الإطار الدستوري، ستبقى عرضة للتقلبات السياسية ولن تصل إلى الاستقرار المنشود.

كذلك، لا يمكن لأي مشروع سلام أن ينجح دون فتح المجال أمام الكرد للمشاركة الفعلية في الحياة السياسية، بعيداً عن الضغوط الأمنية والإقصاء الممنهج. وهذا يتطلب إعادة هيكلة النظام السياسي التركي بما يسمح بتعدديته الثقافية والعرقية، وإزالة كل القيود التي تحول دون تأسيس الأحزاب الكردية أو العمل السياسي الكردي العلني.

مسألة المقاتلين الكرد هي كذلك أحد أكثر الملفات تعقيداً، ولا بد من صياغة آلية قانونية شاملة تعالج وضعهم، وتمنحهم فرصة العودة إلى حياتهم المدنية ضمن تسوية شاملة، تحترم كرامتهم وتقر بمشاركتهم السياسية المستقبلية. فإدماج هؤلاء في المجتمع مجددًا يمثل اختبارًا حاسمًا لجدية الدولة التركية في المضي قدمًا نحو المصالحة الوطنية.

وأخيراً، فإن على تركيا أن تقدم ضمانات حقيقية بأنها لن تجعل من تسوية القضية الكردية في الداخل التركي أداةً للتدخل في قضايا الكرد في الدول المجاورة. فالتجربة أظهرت أن أنقرة كثيرًا ما حاولت توظيف شعار "السلام الداخلي" كغطاء لسياسات توسعية تجاه الكرد في سوريا والعراق، وهو ما يُقوّض الثقة ويحول دون ولادة حل مستقر ودائم.

في المحصلة، فإن أي عملية سلام جدية في تركيا تتطلب مقاربة شجاعة تخرج من الإطار التكتيكي إلى الفضاء الاستراتيجي، وتستند إلى مبادئ القانون، والمحاسبة، والشراكة المتكافئة. فالقضية الكردية في تركيا ليست مجرد ملف أمني أو ثقافي، بل هي مسألة تقرير مصير لشعب يسعى للاعتراف بوجوده، وضمان حقوقه، والمشاركة في بناء الدولة على أسس المواطنة والمساواة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!