قراءة استراتيجية معمقة في خفايا العلاقات بين حكومة أحمد الشرع وإسرائيل: الجنوب السوري نموذجًا

آدمن الموقع
0
قضية ساخنة: فريق الجيوستراتيجي للدراسات 
شهدت سوريا بعد ديسمبر 2024 تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق، مع انهيار نظام بشار الأسد وتحول السلطة إلى حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع. هذا التحول لم يكن مجرد تبدّل في الأشخاص الذين يقودون الدولة، بل انقلاب شامل في معادلة القوى المحلية والإقليمية والدولية. فقد أدى خروج إيران شبه الكامل من الأراضي السورية إلى إعادة رسم خطوط النفوذ التقليدية، بينما تراوحت مصالح إسرائيل بين ضمان أمن حدودها الجنوبية وحماية مصالحها في الجولان ومنع أي عودة لنفوذ إيران في عمق الجنوب السوري. 
في هذا السياق، يشكّل صعود أحمد الشرع محورًا حاسمًا في فهم التوازنات الجديدة. ليس فقط لأنه جاء ليحل محل نظام الأسد، بل لأن وصوله كان مدعومًا بشكل غير مباشر من إسرائيل وبعض القوى الإقليمية والدولية التي رأت فيه "الصفقة الممكنة" لإدارة سوريا ما بعد الأسد. هذا الدعم الإسرائيلي لم يكن علنيًا، بل اتخذ شكل تهيئة البيئة السياسية، وضمان قبول دولي وإقليمي لشخصية الشرع، بما يسمح له بتثبيت نفسه على سدة الحكم، بينما يظل الجنوب السوري تحت تأثير إسرائيلي خفي. 
 
خلفية العلاقات السورية – الإسرائيلية

تاريخيًا، شكلت سوريا وإسرائيل محور صراع دائم منذ عام 1948، وتكرّرت الحروب والاشتباكات في الجولان ودرعا والقنيطرة. ومع ذلك، ظهرت منذ عقود خطوط تفاهم غير معلنة، خصوصًا فيما يتعلق بفض الاشتباك على طول الجولان، وكذلك في إدارة الحدود والتهريب والحدود الإنسانية. هذه التفاهمات كانت دائمًا مؤقتة ومرتبطة بالظرف العسكري والسياسي في كل مرحلة. 
مع سقوط الأسد، انتقلت هذه التفاهمات إلى مرحلة جديدة. إسرائيل وجدت أن هناك فرصة تاريخية لتثبيت نفوذها في الجنوب السوري دون الحاجة إلى تحركات عسكرية مباشرة، وأن حكومة الشرع تمثل الطرف القابل للبراغماتية، القادر على إدارة الملفات الأمنية بشكل يُقلّل المخاطر على إسرائيل وفي الوقت نفسه يثبت الشرعية الرمزية للحكومة السورية الجديدة. 
 
دور إسرائيل في وصول أحمد الشرع إلى السلطة

أحد العناصر الجوهرية التي تفسّر المشهد الراهن هو دور إسرائيل في تسهيل وصول الشرع إلى السلطة. إذ يمكن تلخيص هذا الدور في عدة مستويات: 
تهيئة البيئة السياسية: عملت إسرائيل عبر قنوات غير مباشرة على دعم الأطراف السورية التي كانت ترى في الشرع شخصية مقبولة نسبيًا لتولي السلطة، مع تقديم ضمانات بعدم تصعيد النزاع الجنوبي. 
الغطاء الدولي والإقليمي: إسرائيل لعبت دورًا في تنسيق الرؤية مع الوسطاء الدوليين، بما يضمن قبول أطراف عدة بوصول الشرع، مقابل التزامه بعدم إعادة توجيه سوريا نحو محور المقاومة التقليدي أو أي مواجهة مباشرة مع تل أبيب. 
استثمار الجنوب السوري كضمانة: دعم إسرائيل لدروز السويداء وتوسيع نفوذها في القنيطرة ودرعا لم يكن هدفًا محدودًا، بل جزء من آلية لضمان أن تكون حكومة الشرع مُقيدة ضمن أطر تفاهم مع إسرائيل، بحيث يصبح استمرارها في الحكم مرتبطًا بعدم التصعيد في الجنوب. 
بهذه الطريقة، يُنظر إلى الشرع كـ"شخصية قابلة للضبط"، حيث يحقق لإسرائيل أهدافها الأمنية والسياسية، بينما يحصل على شرعية داخلية ودولية تتيح له تثبيت نفسه كرئيس مؤقت. 
 
الجنوب السوري: مختبر النفوذ الإسرائيلي

تشكل المحافظات الثلاث: القنيطرة، درعا، والسويداء، محورًا استراتيجيًا حاسمًا في هذه المعادلة. التحولات الأخيرة تشير إلى أن إسرائيل بدأت بفرض نفوذها هناك بطرق غير مباشرة وهادئة: 
التوسع في القنيطرة ودرعا: عبر شبكات استخباراتية وأمنية تتحكم في المعابر، وإدارة تدفقات تهريب السلاح والمواد الخطرة، بالإضافة إلى خلق تسهيلات اقتصادية لفرض واقع نفوذ فعلي دون مواجهة عسكرية. 
دعم الدروز في السويداء: يأتي على شكل مساعدات اجتماعية، خدمات صحية، ودعم اقتصادي محدود، بهدف بناء شريك محلي قادر على لعب دور حامي للحدود مع إسرائيل، مما يخلق حزامًا أمنيًا واجتماعيًا يعزز النفوذ الإسرائيلي بشكل غير مباشر. 
تقليص الوجود العسكري لحكومة الشرع: يُقرأ كخطوة استراتيجية متفق عليها، حيث يتم إعادة تموضع القوات بعيدًا عن الحدود، وترك الفضاء للنفوذ المحلي والإسرائيلي. 
هذه العناصر مجتمعة تشير إلى أن الجنوب السوري يتحول تدريجيًا إلى منطقة نفوذ إسرائيلية غير معلنة، تُدار من خلال مزيج من الدعم المحلي والخدمات الاقتصادية، وضبط الحدود، وتفعيل شبكات استخباراتية سرية. 
 
التفاهمات تحت الطاولة

ما يجمع كل هذه المؤشرات هو وجود صفقة غير معلنة بين حكومة الشرع وإسرائيل: استمرار الشرع في الحكم مقابل السماح لإسرائيل بفرض قواعد نفوذ في الجنوب. هذه الصفقة لا تتجلى في أي اتفاق رسمي أو إعلان سياسي، لكنها تُمارس عمليًا عبر الضبط الأمني، الدعم الاقتصادي للمكوّنات المحلية، وتقليص الوجود العسكري للسلطة المركزية.
تحت هذا الغطاء، يصبح الجنوب السوري مختبرًا لاستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد، تهدف إلى إعادة هندسة المنطقة دون صدام مباشر، وتحويلها إلى منطقة أمان وخدمة لمصالح تل أبيب، بينما تتجنب الحكومة الجديدة أي مواجهة يمكن أن تهدد وجودها السياسي. 
 
العلاقة بالإقليم والدول الكبرى

هذه الترتيبات لم تنفصل عن التوازنات الإقليمية والدولية: انسحاب إيران ترك فراغًا استخدمته إسرائيل لصالحها، وغياب القوة الروسية عن إدارة الملفات المباشرة أعطاها مساحة أكبر، فيما تقدم بعض القوى الغربية والأمريكية دعمًا غير معلن للشرع لضمان استقرار الوضع ومنع العودة إلى محور المقاومة القديم. كل هذا يُظهر كيف أن الجنوب السوري أصبح محور لعبة معقدة، حيث تتشابك المصالح المحلية والدولية والإقليمية في إطار تفاهمات غير معلنة. 
 
استشراف المستقبل

إذا استمر هذا المسار، فمن المتوقع أن يتحول الجنوب السوري إلى منطقة تحت السيطرة الإسرائيلية بشكل جزئي، مع بقاء الحكومة السورية الجديدة في دمشق ممثلة للشرعية الرمزية. وستظل التفاهمات صامتة لكنها ثابتة، حيث يتم استغلال الدعم المحلي، والأدوات الاقتصادية، والتقليص العسكري لتحقيق أهداف كلا الطرفين. أي محاولة لكسر هذا التوازن قد تؤدي إلى تصعيد غير محسوب، لكن كل المؤشرات الحالية تُظهر أن إسرائيل والشرع يسعيان للحفاظ على هذا الوضع. 

المحصلة

التحليل الاستراتيجي للعلاقات بين حكومة أحمد الشرع وإسرائيل يكشف عن واقع جديد، مختلف عن كل التجارب السابقة. الشرع لم يصل إلى السلطة فحسب، بل كان جزءًا من ترتيب إقليمي ودولي سمح له بالتموضع في دمشق، بينما تتحرك إسرائيل لتعزيز نفوذها في الجنوب السوري بطرق غير مباشرة وهادئة. الدعم للدروز، التوسع في القنيطرة ودرعا، والتقليص العسكري في الجنوب، كلها مؤشرات على بوادر اتفاق تحت الطاولة، يضع الجنوب السوري في إطار نفوذ إسرائيلي ضمن التوازن الجديد في المنطقة. 
هذا المشهد يفتح آفاقًا جديدة لفهم السياسة السورية بعد الأسد، ويُظهر كيف يمكن للمصالح الإقليمية والدولية أن تعيد تشكيل الخريطة السورية بطرق غير معلنة، حيث تصبح إدارة الجنوب السوري نموذجًا للاختبار والاستقرار المشترك بين الأطراف.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!