إقليم كوردستان: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
لم يكن فجر السليمانية في تلك الليلة كبقية الليالي. أصوات الرصاص، صفارات سيارات الأمن، وإغلاق بعض الأحياء أمام الناس، رسمت لوحة غير مألوفة في المدينة التي لطالما كانت واحة السياسة الكردية، ومسرح الخلافات والصراعات الحزبية. هذه المرة لم يكن الأمر يتعلق بتظاهرة أو مناوشة بين الأجهزة، بل بخطوة صادمة: اعتقال لاهور شيخ جنكي، الرجل الذي شكّل خلال السنوات الماضية قطباً أساسياً في الاتحاد الوطني الكردستاني، واعتبره كثيرون الوريث الحقيقي لخط جلال طالباني.
من صراع الأخوة إلى الحسم الأمني
الخلاف بين لاهور وبافل لم يولد في لحظة الاعتقال. جذوره تعود إلى مرحلة ما بعد رحيل جلال طالباني، حين بدأ الاتحاد الوطني يعيش حالة "القيادة الثنائية"، حيث تقاسم لاهور وبافل الأضواء والسلطة. لكن ازدواجية القيادة هذه لم تكن مستقرة؛ بافل الذي حمل شرعية عائلية باعتباره نجل الرئيس الراحل، ولاهور الذي امتلك نفوذاً ميدانياً وأمنياً واسعاً وارتباطاً قوياً بالقواعد الشعبية. في البداية جرى التعايش بينهما على قاعدة "شراكة الضرورة"، لكن مع الوقت تحول الأمر إلى صراع مفتوح، خاصة حين بدأ بافل يستقطب الأجهزة الأمنية والعسكرية لصالحه.
تفاقمت الأزمة أكثر عندما اتُّهم لاهور بمحاولات إضعاف سلطة بافل، بل وحتى التخطيط لإقصائه. الإعلام المقرّب من كل طرف لعب دوراً في تعميق الانقسام، وتحولت السليمانية إلى ساحة حرب باردة بين الأخوين – cousins – الذين يرفع كل منهما شعار حماية إرث الاتحاد الوطني.
اعتقال يهزّ البيت الأخضر
اعتقال لاهور جاء بمثابة إعلان واضح أن بافل قرر إنهاء هذه الثنائية إلى الأبد. العملية الأمنية التي رافقتها مداهمات لمقار إعلامية ومواقع مرتبطة بالتيار اللاهوري لم تكن عادية، بل بدت وكأنها خطة شاملة لتفكيك شبكته من جذورها. وبذلك أرسل بافل رسالتين متزامنتين: الأولى إلى الداخل بأن القيادة أصبحت بيده وحده، والثانية إلى الخارج، سواء إلى أربيل أو بغداد أو العواصم الإقليمية، بأن الاتحاد الوطني موحّد ولا يحتمل الانقسام.
لكن هذه الصورة التي حاولت القيادة فرضها لا تُخفي حقيقة أن الاعتقال فتح جرحاً عميقاً داخل الحزب. فجمهور واسع في السليمانية يرى في لاهور ممثلاً للخط الشعبي التقليدي، ويعتبر أن إقصاءه بهذا الشكل ليس مجرد خطوة تنظيمية بل ضربة لهوية الحزب. هذا الغضب قد لا يظهر فوراً في شكل احتجاجات واسعة، لكنه يتراكم ببطء، وقد يتحول في لحظة معينة إلى انفجار يصعب احتواؤه.
السيناريو الأول: تثبيت قبضة بافل
السيناريو الأقرب في المدى القصير هو تثبيت سلطة بافل طالباني. فالرجل يملك اليوم الأجهزة الأمنية والعسكرية، ويسيطر على القرار التنظيمي للحزب. نجاحه في اعتقال لاهور من دون مقاومة كبيرة في الشارع يعزز من موقعه، ويجعله قادراً على تقديم نفسه كشريك قوي للحزب الديمقراطي الكردستاني في إدارة الإقليم. هذا السيناريو يمنح الاتحاد الوطني استقراراً شكلياً، لكنه استقرار هشّ؛ لأن القاعدة الشعبية التي همشت لن تظل صامتة إلى الأبد.
السيناريو الثاني: تسوية سياسية – قضائية
من جهة أخرى، قد تتدخل رئاسة الإقليم أو أطراف دولية لفرض تسوية سياسية، تقوم على محاكمة علنية أو إقامة جبرية، وربما حتى إخراج لاهور من المشهد مقابل وقف التصعيد. مثل هذه التسوية تبدو مقبولة إذا ما خشيت القيادة الكردية من أن يؤدي استمرار الأزمة إلى إضعاف موقع كوردستان في مواجهة بغداد، خاصة مع اقتراب الانتخابات العراقية. هذا السيناريو سيضمن تهدئة الشارع، لكنه سيترك الجرح مفتوحاً، وسيبقى احتمال عودة الصراع قائماً عند أي فرصة.
السيناريو الثالث: انفجار الشارع
الخطر الأكبر يكمن في احتمال تحوّل الأزمة إلى صدام أمني أو احتجاجات واسعة في السليمانية. فالمدينة التي تحتفظ بتاريخ من التعددية والانفتاح السياسي ليست سهلة الانضباط. ومع الأوضاع الاقتصادية الصعبة والبطالة المنتشرة، يمكن أن يجد الغضب السياسي منفذاً في الشارع. أي انفجار في السليمانية لن يظل محلياً، بل سينعكس على صورة الإقليم ككل، وسيوفر لبغداد فرصة للقول إن الكرد منقسمون وعاجزون عن إدارة شؤونهم.
تداعيات أبعد من السليمانية
الأزمة داخل الاتحاد الوطني ليست مجرد شأن داخلي. فهي تضرب في قلب معادلة التوازن الكردي. لسنوات طويلة قامت السياسة الكردية على شراكة بين أربيل التي يقودها الحزب الديمقراطي، والسليمانية التي يهيمن عليها الاتحاد الوطني. أي ضعف بنيوي في السليمانية سيعني تعزيز نفوذ أربيل، وربما فقدان الاتحاد الوطني لدوره التاريخي. هذا الخلل سينعكس مباشرة على الموقف الكردي في بغداد، حيث تحتاج الأحزاب الكردية إلى وحدة موقف لمواجهة القوى الشيعية والسنية في التفاوض على شكل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات.
إضافة إلى ذلك، للسليمانية امتدادات إقليمية ودولية حساسة. فهي الأقرب إلى النفوذ الإيراني، وفي الوقت نفسه ترتبط بعلاقات خاصة مع الولايات المتحدة. أي اضطراب داخلي سيفتح الباب لتدخلات خارجية قد تعقد المشهد أكثر. وبذلك يصبح ما يجري في السليمانية ليس مجرد صراع بين بافل ولاهور، بل جزءاً من لعبة إقليمية أكبر تتقاطع فيها مصالح دولية.
مستقبل مفتوح على كل الاحتمالات
في المحصلة، يمكن القول إن اعتقال لاهور شيخ جنكي لم يُنهِ الصراع داخل الاتحاد الوطني، بل نقله إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة. بافل قد يكون ربح الجولة الأولى، لكنه يواجه اليوم تحدياً أكبر: كيف يحافظ على هذا النصر من دون أن يتحول إلى هزيمة استراتيجية إذا انفجر الشارع أو انهار البيت الداخلي. السليمانية تقف اليوم على حافة الاحتمالات: إما أن تنجح القيادة في تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة ترتيب البيت الأخضر، أو أن تتحول إلى شرارة تُضعف ليس فقط الاتحاد الوطني، بل مجمل الموقع الكردي في العراق.
الخلاصة أن ما يجري اليوم ليس مجرد حدث سياسي، بل منعطف تاريخي. فإما أن يكتب بداية مرحلة استقرار جديدة بقيادة بافل طالباني، أو يفتح الباب لفصل طويل من الاضطراب يغيّر ملامح كوردستان لعقد قادم. وفي كلتا الحالتين، ما بعد اعتقال لاهور لن يشبه أبداً ما قبله.