قراءة سياسية لـ إبراهيم مصطفى (كابان)
تُعدّ لحظة طرح أي احتمال لعودة التفاوض بين عبدالله أوجلان والدولة التركية اختباراً حاداً لبنية الوعي السياسي الكردي. ففي كل مرة يُفتح فيها هذا الباب، تتفجّر انفعالات الرفض لدى تيار واسع داخل المجتمع الكردي، ليست بوصفها ردود فعل سياسية آنية، بل باعتبارها بنية ذهنية مكتملة تشتغل وفق منطق ثابت، وتعيد إنتاج نفسها عبر التاريخ وتحوّلات الصراع. ما يبدو موقفاً سياسياً في ظاهره هو في جوهره منظومة تفكير عميقة تشكّلت في ظل المقاربات الصراعية، وتمأسست في الذاكرة الجمعية، وتحوّلت إلى طريقة في النظر إلى الذات والآخر والعالم.
تتأسس هذه الذهنية أوّل الأمر على رؤية تمنح القوى الدولية، وخصوصاً واشنطن والعواصم الغربية، حق المصادقة على أي مسار للسلام. ليست لدى هذه الذهنية ثقة بأن الداخل – بكل فاعليه – قادر على إنتاج تسوية مستقلة أو إرادة سياسية ذاتية، بل تُقاس جدّية السلام وصدقيته بمعيار خارجي: هل أعطى الغرب الضوء الأخضر أم لا؟ وبهذا تُختزَل السياسة إلى تابع، وتتحول القوى المحلية إلى مجرّد عناصر في لعبة دولية أكبر. إن هذا المنظور لا يكتفي بإقصاء دور الداخل، بل يقمع أيضاً إمكانية تطوير نموذج تسوية تتأسس على التفاعل المباشر بين المجتمع الكردي والمجتمع التركي.
إنه وعي مفوّض للخارج، يستمد شرعيته من القوى الكبرى، ويُسقِط القدرة السياسية للشعب على فعل التاريخ، ويُعيد إنتاج صورة الذات بوصفها كياناً لا يتحرك إلا بأوامر القوى العظمى.
ومن الركائز الجوهرية لهذا النسق الفكري الإيمان العميق بأن العلاقة الكردية – التركية محكومة بـ عداء أبدي، يتجاوز الأنظمة السياسية والظروف الزمنية، ويتحوّل إلى قدر تاريخي لا فكاك منه. هنا لا يعود الصراع نتاجاً لسياسات دولة قومية أو لمعادلات قمع وحقوق؛ بل يتحول إلى ثنائية وجودية، يتحدد من خلالها معنى الهوية. ومع مرور الزمن، تنتقل هذه الثنائية من مستوى التحليل السياسي إلى مستوى الإحساس الجمعي؛ أي تتحوّل إلى جزء من المخزون النفسي والرمزي للمجتمع.
فالرفض هنا لا ينطلق من معطيات اللحظة الراهنة أو موازين القوى، بل من اعتقاد متجذّر بأن الصراع هو الأصل، وأن أي تغيير فيه يُعدّ خيانة أو انحرافاً عن “النقاء الأيديولوجي” الذي صيغت على أساسه صورة الذات المقاومة.
ويُستخدم التاريخ في هذا السياق بوظيفة مزدوجة: فهو من جهة محكمة عليا تغلق كل احتمالات المستقبل، ومن جهة أخرى أداة لإنتاج شرعية دائمة لحالة الرفض. يتم استدعاء أحداث إعدام الشيخ سعيد، وسياسات الإنكار، والحملات العسكرية، وصولاً إلى احتلال مناطق روج آفا، ضمن سردية واحدة متصلة، بلا فصل بين الأزمنة، ولا بين السياقات، ولا بين التحولات البنيوية في الدولة التركية نفسها.
إن هذا النمط من استحضار التاريخ لا يهدف إلى الفهم أو المعرفة، بل إلى إعادة تثبيت اليقين بأن الماضي يحكم المستقبل، وأن التجارب السابقة دليل قاطع على استحالة أي تحول. وهكذا يصبح التاريخ قيداً، لا ذاكرة، وتتحوّل الذاكرة إلى جهاز سياسي يمنع التفكير في إمكانيات جديدة.
وتصوغ الذهنية الرافضة موقفها عبر آلية أخرى تقوم على طرح شروط سلام مثالية لا يمكن تحقيقها إلا في فضاء متخيل. فالسؤال الذي يُطرح دائماً: “إذا كانت الدولة التركية صادقة، فلماذا لا تحلّ القضية فوراً وبشكل كامل؟”. يبدو سؤالاً منطقياً في ظاهره، لكنه في العمق إسقاط لمفهوم طهراني عن السياسة، يفترض أن الحلول تأتي دفعة واحدة، وأن التعقيدات التاريخية والاجتماعية يمكن اختزالها في قرار واحد.
وعندما لا يتحقق هذا الخيال، يتم تحويل الفشل إلى دليل إضافي على استحالة التفاوض. إنها دائرة مغلقة: تُصاغ شروط لا يمكن تحقيقها، ثم يُستخدم عدم تحققها لتثبيت رفض مسبق.
ويتعمّق هذا الرفض عبر نزعة للتشكيك في كل من يناقش مفهوم التسوية أو يطرح أسئلة تتجاوز ثنائية الحرب والخصومة. يُتّهم هؤلاء بالنفاق أو التهاون أو التخلي عن “الخط النضالي”، حتى وإن كانوا تاريخياً من غير المؤمنين بالكفاح المسلح أو المنخرطين فيه. فالذهنية الرافضة لا تُقيّم المواقف وفق تاريخها أو منطقها، بل وفق معيار الولاء للثنائية الصدامية.
إنها آلية دفاعية تفرض التجانس داخل المجتمع، وتحرس السردية من أي تفكيك أو إعادة نظر، وتمنع دخول الأفكار المزعجة التي قد تهدد تماسك الخطاب.
لكن البعد الأعمق والأكثر تأثيراً في هذه الذهنية يتمثل في سوء فهم فكر عبدالله أوجلان نفسه. فغالبيّة التيار الرافض لا تتعامل مع أوجلان بوصفه منظّراً أعاد بناء مشروعه السياسي على أسس فلسفية واجتماعية واسعة، بل تحصره في صورته القديمة: قائد صراع مسلح لا أكثر.
لا تُقرأ نصوصه، ولا يُفهم تحوّلها، ولا يُستوعب انتقاله من خطاب الدولة القومية إلى النقد الجذري لها؛ ومن ثنائية الحرب والعداء إلى بناء مفهوم “الأمة الديمقراطية”.
والسبب هنا لا يرتبط فقط بالعداء السياسي أو الانغلاق الأيديولوجي، بل يرتبط بما يمكن تسميته بـ عقدة الدونية الكردية: ذلك الشعور العميق الذي ينتجه القمع التاريخي، ويؤدي إلى الاعتقاد بأن شعباً مضطهداً لا يمكن أن ينتج مفكراً قادراً على صياغة نظرية كونية أو مشروع فلسفي متكامل.
إنها آلية نفسية ترفض الاعتراف بأن شخصاً خرج من سياق الاضطهاد قادر على إنتاج معرفة، لأن الاعتراف بذلك يهزّ البنية العميقة للوعي المتشكّل على شعور الدونية.
وتقود هذه البنية الذهنية، في مجموعها، إلى إغلاق المخيّلة السياسية الكردية. فغياب الثقة بالذات، وتحويل العداء إلى قدر، وتسطيح التاريخ، وإسقاط المثالية على السياسة، وإقصاء النقاش، جميعها تؤدي إلى منع المجتمع من تخيّل مستقبل خارج الخيارات الثنائية التقليدية.
ويصبح الرفض ليس دفاعاً عن الحقوق ولا استجابة للخطر، بل منظومة دفاعية كُوِّنت عبر عقود من الصراع، وتحوّلت إلى عقل جمعي يرى في التسوية تهديداً لوجوده الرمزي، لا السياسي فقط.
إن تفكيك هذه الذهنية لا يعني تبرئة الدولة التركية من مسؤولياتها التاريخية، ولا تجاهل مظالمها، ولا إنكار حجم الكوارث التي عانى منها الكرد. لكنه يعني إخراج النقاش من أسر الذاكرة المنغلقة، وإعادة بناء رؤية تسمح بالتفكير السياسي الحر، وتمنح المجتمع قدرة على التحرك وإعادة تشكيل علاقته بالآخر بعيداً عن الثنائيات القاتلة.
فالسلام، بهذا المعنى، ليس خياراً سياسياً فحسب، بل تحدٍّ معرفي ونفسي يواجه مجتمعاً تعود على سرديات الصراع، ويحتاج إلى إعادة بناء مخيلته ليكون قادراً على صياغة مستقبل يوازن بين الذاكرة والواقع والمصلحة.
تُعدّ لحظة طرح أي احتمال لعودة التفاوض بين عبدالله أوجلان والدولة التركية اختباراً حاداً لبنية الوعي السياسي الكردي. ففي كل مرة يُفتح فيها هذا الباب، تتفجّر انفعالات الرفض لدى تيار واسع داخل المجتمع الكردي، ليست بوصفها ردود فعل سياسية آنية، بل باعتبارها بنية ذهنية مكتملة تشتغل وفق منطق ثابت، وتعيد إنتاج نفسها عبر التاريخ وتحوّلات الصراع. ما يبدو موقفاً سياسياً في ظاهره هو في جوهره منظومة تفكير عميقة تشكّلت في ظل المقاربات الصراعية، وتمأسست في الذاكرة الجمعية، وتحوّلت إلى طريقة في النظر إلى الذات والآخر والعالم.
تتأسس هذه الذهنية أوّل الأمر على رؤية تمنح القوى الدولية، وخصوصاً واشنطن والعواصم الغربية، حق المصادقة على أي مسار للسلام. ليست لدى هذه الذهنية ثقة بأن الداخل – بكل فاعليه – قادر على إنتاج تسوية مستقلة أو إرادة سياسية ذاتية، بل تُقاس جدّية السلام وصدقيته بمعيار خارجي: هل أعطى الغرب الضوء الأخضر أم لا؟ وبهذا تُختزَل السياسة إلى تابع، وتتحول القوى المحلية إلى مجرّد عناصر في لعبة دولية أكبر. إن هذا المنظور لا يكتفي بإقصاء دور الداخل، بل يقمع أيضاً إمكانية تطوير نموذج تسوية تتأسس على التفاعل المباشر بين المجتمع الكردي والمجتمع التركي.
إنه وعي مفوّض للخارج، يستمد شرعيته من القوى الكبرى، ويُسقِط القدرة السياسية للشعب على فعل التاريخ، ويُعيد إنتاج صورة الذات بوصفها كياناً لا يتحرك إلا بأوامر القوى العظمى.
ومن الركائز الجوهرية لهذا النسق الفكري الإيمان العميق بأن العلاقة الكردية – التركية محكومة بـ عداء أبدي، يتجاوز الأنظمة السياسية والظروف الزمنية، ويتحوّل إلى قدر تاريخي لا فكاك منه. هنا لا يعود الصراع نتاجاً لسياسات دولة قومية أو لمعادلات قمع وحقوق؛ بل يتحول إلى ثنائية وجودية، يتحدد من خلالها معنى الهوية. ومع مرور الزمن، تنتقل هذه الثنائية من مستوى التحليل السياسي إلى مستوى الإحساس الجمعي؛ أي تتحوّل إلى جزء من المخزون النفسي والرمزي للمجتمع.
فالرفض هنا لا ينطلق من معطيات اللحظة الراهنة أو موازين القوى، بل من اعتقاد متجذّر بأن الصراع هو الأصل، وأن أي تغيير فيه يُعدّ خيانة أو انحرافاً عن “النقاء الأيديولوجي” الذي صيغت على أساسه صورة الذات المقاومة.
ويُستخدم التاريخ في هذا السياق بوظيفة مزدوجة: فهو من جهة محكمة عليا تغلق كل احتمالات المستقبل، ومن جهة أخرى أداة لإنتاج شرعية دائمة لحالة الرفض. يتم استدعاء أحداث إعدام الشيخ سعيد، وسياسات الإنكار، والحملات العسكرية، وصولاً إلى احتلال مناطق روج آفا، ضمن سردية واحدة متصلة، بلا فصل بين الأزمنة، ولا بين السياقات، ولا بين التحولات البنيوية في الدولة التركية نفسها.
إن هذا النمط من استحضار التاريخ لا يهدف إلى الفهم أو المعرفة، بل إلى إعادة تثبيت اليقين بأن الماضي يحكم المستقبل، وأن التجارب السابقة دليل قاطع على استحالة أي تحول. وهكذا يصبح التاريخ قيداً، لا ذاكرة، وتتحوّل الذاكرة إلى جهاز سياسي يمنع التفكير في إمكانيات جديدة.
وتصوغ الذهنية الرافضة موقفها عبر آلية أخرى تقوم على طرح شروط سلام مثالية لا يمكن تحقيقها إلا في فضاء متخيل. فالسؤال الذي يُطرح دائماً: “إذا كانت الدولة التركية صادقة، فلماذا لا تحلّ القضية فوراً وبشكل كامل؟”. يبدو سؤالاً منطقياً في ظاهره، لكنه في العمق إسقاط لمفهوم طهراني عن السياسة، يفترض أن الحلول تأتي دفعة واحدة، وأن التعقيدات التاريخية والاجتماعية يمكن اختزالها في قرار واحد.
وعندما لا يتحقق هذا الخيال، يتم تحويل الفشل إلى دليل إضافي على استحالة التفاوض. إنها دائرة مغلقة: تُصاغ شروط لا يمكن تحقيقها، ثم يُستخدم عدم تحققها لتثبيت رفض مسبق.
ويتعمّق هذا الرفض عبر نزعة للتشكيك في كل من يناقش مفهوم التسوية أو يطرح أسئلة تتجاوز ثنائية الحرب والخصومة. يُتّهم هؤلاء بالنفاق أو التهاون أو التخلي عن “الخط النضالي”، حتى وإن كانوا تاريخياً من غير المؤمنين بالكفاح المسلح أو المنخرطين فيه. فالذهنية الرافضة لا تُقيّم المواقف وفق تاريخها أو منطقها، بل وفق معيار الولاء للثنائية الصدامية.
إنها آلية دفاعية تفرض التجانس داخل المجتمع، وتحرس السردية من أي تفكيك أو إعادة نظر، وتمنع دخول الأفكار المزعجة التي قد تهدد تماسك الخطاب.
لكن البعد الأعمق والأكثر تأثيراً في هذه الذهنية يتمثل في سوء فهم فكر عبدالله أوجلان نفسه. فغالبيّة التيار الرافض لا تتعامل مع أوجلان بوصفه منظّراً أعاد بناء مشروعه السياسي على أسس فلسفية واجتماعية واسعة، بل تحصره في صورته القديمة: قائد صراع مسلح لا أكثر.
لا تُقرأ نصوصه، ولا يُفهم تحوّلها، ولا يُستوعب انتقاله من خطاب الدولة القومية إلى النقد الجذري لها؛ ومن ثنائية الحرب والعداء إلى بناء مفهوم “الأمة الديمقراطية”.
والسبب هنا لا يرتبط فقط بالعداء السياسي أو الانغلاق الأيديولوجي، بل يرتبط بما يمكن تسميته بـ عقدة الدونية الكردية: ذلك الشعور العميق الذي ينتجه القمع التاريخي، ويؤدي إلى الاعتقاد بأن شعباً مضطهداً لا يمكن أن ينتج مفكراً قادراً على صياغة نظرية كونية أو مشروع فلسفي متكامل.
إنها آلية نفسية ترفض الاعتراف بأن شخصاً خرج من سياق الاضطهاد قادر على إنتاج معرفة، لأن الاعتراف بذلك يهزّ البنية العميقة للوعي المتشكّل على شعور الدونية.
وتقود هذه البنية الذهنية، في مجموعها، إلى إغلاق المخيّلة السياسية الكردية. فغياب الثقة بالذات، وتحويل العداء إلى قدر، وتسطيح التاريخ، وإسقاط المثالية على السياسة، وإقصاء النقاش، جميعها تؤدي إلى منع المجتمع من تخيّل مستقبل خارج الخيارات الثنائية التقليدية.
ويصبح الرفض ليس دفاعاً عن الحقوق ولا استجابة للخطر، بل منظومة دفاعية كُوِّنت عبر عقود من الصراع، وتحوّلت إلى عقل جمعي يرى في التسوية تهديداً لوجوده الرمزي، لا السياسي فقط.
إن تفكيك هذه الذهنية لا يعني تبرئة الدولة التركية من مسؤولياتها التاريخية، ولا تجاهل مظالمها، ولا إنكار حجم الكوارث التي عانى منها الكرد. لكنه يعني إخراج النقاش من أسر الذاكرة المنغلقة، وإعادة بناء رؤية تسمح بالتفكير السياسي الحر، وتمنح المجتمع قدرة على التحرك وإعادة تشكيل علاقته بالآخر بعيداً عن الثنائيات القاتلة.
فالسلام، بهذا المعنى، ليس خياراً سياسياً فحسب، بل تحدٍّ معرفي ونفسي يواجه مجتمعاً تعود على سرديات الصراع، ويحتاج إلى إعادة بناء مخيلته ليكون قادراً على صياغة مستقبل يوازن بين الذاكرة والواقع والمصلحة.

