نقطة نظام: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
لم يعد الحديث عن عودة التطرّف في سوريا مجرّد توصيف أمني لظاهرة عابرة، بل أصبح مدخلًا لفهم أزمة أعمق تضرب بنية الدولة والمجتمع معًا. فما يجري اليوم لا يشبه مرحلة صعود تنظيم داعش في العقد الماضي، ولا يمكن اختزاله في تحركات خلايا نائمة أو نشاطات معزولة، بل يعكس تحوّلًا نوعيًا في طبيعة الصراع السوري، حيث بات التطرف جزءًا من المشهد العام، وأداة ضمن توازنات القوة، لا مجرد عدو خارجي.
سوريا اليوم تقف أمام مفارقة خطيرة: التنظيمات المتطرفة هُزمت عسكريًا، لكن البيئة التي أنجبتها لم تُعالج، بل ازدادت هشاشة. وبينما تراجعت المعارك الكبرى، تمدد الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، وبرز فراغ سياسي عميق، سمح بعودة أنماط جديدة من الراديكالية، أقل صخبًا، وأكثر اختراقًا للنسيج المجتمعي.
لم يعد الحديث عن عودة التطرّف في سوريا مجرّد توصيف أمني لظاهرة عابرة، بل أصبح مدخلًا لفهم أزمة أعمق تضرب بنية الدولة والمجتمع معًا. فما يجري اليوم لا يشبه مرحلة صعود تنظيم داعش في العقد الماضي، ولا يمكن اختزاله في تحركات خلايا نائمة أو نشاطات معزولة، بل يعكس تحوّلًا نوعيًا في طبيعة الصراع السوري، حيث بات التطرف جزءًا من المشهد العام، وأداة ضمن توازنات القوة، لا مجرد عدو خارجي.
سوريا اليوم تقف أمام مفارقة خطيرة: التنظيمات المتطرفة هُزمت عسكريًا، لكن البيئة التي أنجبتها لم تُعالج، بل ازدادت هشاشة. وبينما تراجعت المعارك الكبرى، تمدد الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، وبرز فراغ سياسي عميق، سمح بعودة أنماط جديدة من الراديكالية، أقل صخبًا، وأكثر اختراقًا للنسيج المجتمعي.
من “دولة الخلافة” إلى “اقتصاد الفوضى”
انتهى تنظيم داعش ككيان جغرافي، لكن فكرته لم تُهزم. بل أعادت إنتاج نفسها ضمن ما يمكن تسميته “اقتصاد الفوضى”. في هذا النموذج، لا يحتاج التطرف إلى السيطرة على مدن أو إدارة مؤسسات، بل يكتفي بإدامة حالة اللااستقرار، واستثمار هشاشة الدولة، وتحويل العنف إلى أداة ضغط سياسي وأمني.
هذا التحول جعل التطرف أكثر مرونة وأقل قابلية للرصد. فلم يعد هناك مركز قيادة واضح، ولا بنية تنظيمية هرمية، بل شبكات صغيرة، متفرقة، تتحرك وفق الفرصة، وتستفيد من أي فراغ أمني أو اجتماعي. وهنا تكمن خطورته: إذ يتحول من عدو يمكن استهدافه إلى ظاهرة يصعب اقتلاعها.
البيئة السورية: كيف تُنتَج الراديكالية؟
لا يمكن فهم عودة مظاهر التطرف دون تفكيك البيئة السورية الراهنة. فسنوات الحرب لم تدمّر البنية التحتية فقط، بل أصابت البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع في الصميم.
اقتصاد منهار، بطالة واسعة، فقر مدقع، انهيار التعليم، غياب العدالة، وتلاشي الأفق السياسي… كلها عوامل تصنع ما يشبه “الفراغ الوجودي” لدى فئات واسعة من السوريين، وخصوصًا الشباب. في هذا الفراغ، يصبح الخطاب المتطرف جذابًا لا لقيمه، بل لبساطته، وقدرته على تقديم تفسير سهل لعالم معقّد، وعدو واضح لأزمة غامضة.
التطرف هنا لا يولد من القناعة العقائدية بقدر ما ينشأ من الإحباط، ومن الشعور باللاجدوى، ومن غياب أي مشروع وطني جامع يمكن الالتفاف حوله.
علاقة ملتبسة بين الدولة والتطرف
الجدل حول وجود جماعات متطرفة داخل بنية السلطة يحتاج إلى مقاربة دقيقة. فالمسألة ليست وجود تنظيمات جهادية داخل المؤسسات، بل تحوّل بعض أدوات الدولة نفسها إلى أدوات خشنة، تعمل خارج منطق القانون والمؤسسات.
خلال سنوات الحرب، نشأت شبكات أمنية واقتصادية موازية، بعضها ارتبط بمصالح محلية أو إقليمية، وبعضها تشكّل كأمر واقع فرضته الحرب. هذه الشبكات، وإن لم تكن أيديولوجية بالمعنى الديني، إلا أنها تتقاطع مع منطق التطرف في استخدام العنف، ورفض المساءلة، والنظر إلى المجتمع بوصفه مصدر تهديد لا شريكًا.
الأخطر من ذلك هو القبول الضمني أو الاستخدام الوظيفي لبعض مظاهر التطرف، سواء لتخويف الداخل، أو لتقديم صورة للخارج مفادها أن البديل عن السلطة القائمة هو الفوضى المطلقة. وهنا يتحول التطرف من عدو إلى ورقة سياسية.
مقطع لتدريب الأطفال على التطرف وسط مدينة دمشق
حين ينزل التطرف إلى الشارع
واحدة من أخطر التحولات الراهنة هي انتقال مظاهر التطرف من الهوامش إلى الفضاء العام. فانتشار مقاطع تُظهر شعارات متشددة، أو أطفالًا يتم تلقينهم خطابًا دينيًا متطرفًا، أو مظاهر عسكرة رمزية في الشوارع، لا يمكن التعامل معه كحوادث فردية.
هذه المشاهد تعكس تراجعًا في هيبة الدولة، وتآكلًا في قدرتها على ضبط المجال العام، كما تشير إلى تحوّل الشارع نفسه إلى مساحة صراع أيديولوجي. الأخطر من ذلك أن هذه المظاهر، حين تتكرر دون ردع، تتحول إلى “طبيعي جديد”، ما يعني تطبيع العنف في الوعي الجمعي، وتشكيل أجيال ترى في التشدد أمرًا مألوفًا.
وهنا تكمن المعضلة الحقيقية: فالتطرف حين يصبح ثقافة يومية، لا يعود بحاجة إلى تنظيم أو قيادة.
واحدة من أخطر التحولات الراهنة هي انتقال مظاهر التطرف من الهوامش إلى الفضاء العام. فانتشار مقاطع تُظهر شعارات متشددة، أو أطفالًا يتم تلقينهم خطابًا دينيًا متطرفًا، أو مظاهر عسكرة رمزية في الشوارع، لا يمكن التعامل معه كحوادث فردية.
هذه المشاهد تعكس تراجعًا في هيبة الدولة، وتآكلًا في قدرتها على ضبط المجال العام، كما تشير إلى تحوّل الشارع نفسه إلى مساحة صراع أيديولوجي. الأخطر من ذلك أن هذه المظاهر، حين تتكرر دون ردع، تتحول إلى “طبيعي جديد”، ما يعني تطبيع العنف في الوعي الجمعي، وتشكيل أجيال ترى في التشدد أمرًا مألوفًا.
وهنا تكمن المعضلة الحقيقية: فالتطرف حين يصبح ثقافة يومية، لا يعود بحاجة إلى تنظيم أو قيادة.
التطرف كأداة إقليمية
لا يمكن فصل المشهد السوري عن صراعات الإقليم. فبقاء مستوى معين من الفوضى يخدم مصالح قوى متعددة، سواء لتبرير وجودها العسكري، أو لإبقاء سوريا خارج معادلات الاستقرار، أو لاستخدامها كورقة تفاوض.
في هذا السياق، يتحول التطرف إلى عنصر من عناصر اللعبة السياسية، يُسمح له بالظهور حينًا، ويُقمع حينًا آخر، وفق ميزان المصالح لا وفق منطق حماية المجتمع.
جهات في المملكة العربية السعودية ترسل 30 طون من الكتب التي تدعوا للتطرف والتكفير إلى دمشق
لنشر الفكر المتطرف في ظل حكومة أحمد الشرع (الجولاني)
إلى أين تتجه سوريا؟
الخطر الحقيقي لا يكمن في عودة داعش بصيغته القديمة، بل في تحوّل التطرف إلى حالة دائمة، جزء من المشهد، لا صدمة استثنائية. وهذا ما يجعل المواجهة الأمنية وحدها غير كافية، بل وربما عديمة الجدوى.
المعالجة الحقيقية تبدأ بإعادة بناء العقد الاجتماعي، وفتح المجال السياسي، واستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، ومعالجة جذور الفقر والتهميش، وإعادة الاعتبار للتعليم والثقافة بوصفهما خط الدفاع الأول ضد التطرف.
من دون ذلك، ستبقى سوريا عالقة في دائرة مفرغة، حيث يُنتج العنف عنفًا، وتُعاد صياغة التطرف بأشكال جديدة، فيما يبقى الاستقرار مؤجلًا إلى أجل غير مسمى.
الخطر الحقيقي لا يكمن في عودة داعش بصيغته القديمة، بل في تحوّل التطرف إلى حالة دائمة، جزء من المشهد، لا صدمة استثنائية. وهذا ما يجعل المواجهة الأمنية وحدها غير كافية، بل وربما عديمة الجدوى.
المعالجة الحقيقية تبدأ بإعادة بناء العقد الاجتماعي، وفتح المجال السياسي، واستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، ومعالجة جذور الفقر والتهميش، وإعادة الاعتبار للتعليم والثقافة بوصفهما خط الدفاع الأول ضد التطرف.
من دون ذلك، ستبقى سوريا عالقة في دائرة مفرغة، حيث يُنتج العنف عنفًا، وتُعاد صياغة التطرف بأشكال جديدة، فيما يبقى الاستقرار مؤجلًا إلى أجل غير مسمى.

