عبد الله أوجلان: دبلوماسية الأمة الديمقراطية

آدمن الموقع
0
 

إنّ دبلوماسيةَ الأمةِ الديمقراطيةِ وسيلةٌ لتكريسِ السلمِ والعلاقاتِ المفيدة لا لإشعالِ فتيلِ الحروب ...
يُعَدُّ النشاطُ الدبلوماسيُّ بين الدولِ القوميةِ واحداً من أكثرِ الأنشطةِ التي طوَّرَتها الدولةُ القومية. وتُعَرِّفُه على أنه شكلُ النشاطِ الذي يسبقُ اندلاعَ الحروبِ بين الدول. كما وبالمقدورِ اعتبارُه تَوطئةً للحروبِ الناشبةِ في تاريخِ الدولِ القومية. ثمة شعائرٌ محدودةٌ لأشكالِ التعبيرِ التقليديِّ عن علاقاتِ الجوارِ القائمةِ بين وحداتِ المجموعاتِ على اختلافِها طيلةَ سياقِ التاريخ. وهي طقوسٌ محفوفةٌ بالقيمةِ العليا. أما لجوءُ الدولِ القوميةِ إلى مَأسسةِ تلك العلاقة، فيُعزى إلى نزعةِ الربحِ في الحداثةِ الرأسمالية. فإذا كانت تلك العلاقاتُ تدرُّ مزيداً من الربحِ في وقتِ السلم، فلا داعي إذاً لإشعالِ فتيلِ الحرب. وتُعقَدُ العلاقاتُ المُربحةُ دبلوماسياً. أما إذا كانت ميولُ الربحِ الأعظميِّ متعلقةٌ بالحرب، فلن تستطيعَ كلُّ القوى الدبلوماسيةِ أنْ تقفَ في وجهِ الحربِ المُربحة، حتى لو تعاضدَت جميعاً في سبيلِ ذلك. وعليه، فعملُ الدبلوماسيةُ قد انتهى هنا. وهكذا، فالدبلوماسيةُ المُختَزَلةُ إلى منطقِ الربح، لَم يَعُدْ لها أيةُ صلةٍ مع نمطِ العلاقةِ القَيِّمةِ والثمينةِ فيما بين المجتمعات، والتي طالما رُصِدَت على مدارِ التاريخ. أي أنّ الدبلوماسيةَ قد صُيِّرَت أداةَ تلاعبٍ ومضاربةٍ في ألاعيبِ الحربِ المُربحةِ فيما بين الدولِ القومية. لقد باتت أداةً لتهيئةِ أجواءِ الحروب، وليس لاستتبابِ السلم.
تُعنى الدبلوماسيةُ الصائرةُ مرةً أخرى أداةً لإرساءِ السلمِ والتعاضدِ والتبادلِ الخلاّقِ فيما بين المجتمعاتِ في كنفِ تقاليدِ الأمةِ الديمقراطية، بحلِّ القضايا العالقةِ أساساً. إنّ دبلوماسيةَ الأمةِ الديمقراطيةِ وسيلةٌ لتكريسِ السلمِ والعلاقاتِ المفيدة، لا لإشعالِ فتيلِ الحروب. وهي تُعَبِّرُ عن وظيفةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ نبيلةٍ وثمينةٍ يؤديها الناسُ الحكماء. كما إنها تؤدي دوراً هاماً في تطويرِ وتأمينِ سيرورةِ المراحلِ التي تدرُّ بالنفعِ المتبادلِ وتُعَزِّزُ علاقاتِ الصداقةِ فيما بين الشعوبِ المتجاورةِ ومجموعاتِ الأقاربِ على وجهِ الخصوص. كما تُعتَبَرُ قوةَ إنشاءِ المجتمعياتِ المشتركةِ والتركيباتِ الجديدةِ لمجتمعاتٍ أرقى.
لَطالما تواجدَ عددٌ جمٌّ من سياقاتِ العلاقاتِ الدبلوماسيةِ في التاريخِ الكرديّ، سلبيةً كانت أم إيجابية. فشدةُ الانقسامِ ومنعُ التواصلِ بين المجموعات، قد أدى إلى إيلاءِ أهميةٍ عليا لفعالياتِ الوساطة، مما تمخضَ ذلك عن إسهاماتٍ قَيِّمةٍ في الحياةِ الاجتماعيةِ عندما أُدِّيَت بجدارة. أما عندما نُفِّذَت بنوايا ضامرة، أو باندفاعٍ مشحونٍ بمختلفِ المصالحِ الشخصيةِ أو التكتلية؛ فقد دخلَت في خدمةِ إضرامِ نارِ العداوةِ وتأجيجِ أجواءِ الاشتباك.
يشعرُ الكردُ في حاضرِنا بمسيسِ الحاجةِ إلى دبلوماسيةٍ نفيسة، سواء بينهم وبين جيرانِهم، أم على الصعيدِ العالميّ. حيث للفعالياتِ الدبلوماسيةِ دورٌ عظيمُ الأهميةِ والإيجابيةِ للحفاظِ على وجودِهم ونيلِ حريتِهم. ولَربما كان الكردُ أكثرَ شعبٍ ذهبَ ضحيةً للألاعيبِ الدبلوماسيةِ عالمياً خلال الماضي القريب، أي في عهدِ الحداثةِ الرأسمالية. حيث لعبَ الكردُ دورَ الضحيةِ المُقَدَّمةِ فداءً لتجزيءِ الشرقِ الأوسطِ وإخضاعِه لهيمنةِ النظامِ الرأسماليِّ على مرِّ القرنَين التاسع عشر والعشرين. ونخصُّ بالذِّكرِ أنهم كانوا أكثرَ القرابين مأساويةً خلال الحربَين العالميتَين الأولى والثانية. هذا ولَطالما أُنيطوا بدورِ الورقةِ الرابحةِ ضمن سياقِ دبلوماسياتِ الدولِ القوميةِ في الشرقِ الأوسط، مما نَمَّ عن نتائجَ جدِّ وخيمة. فقد واجَهَ الكردُ مشاهد أليمةٍ وصلَت درجةَ التطهيرِ الثقافيّ. وبقدرِ ما للمتواطئين الكردِ من دورٍ في ذلك، فإنّ افتقارَ المقاوماتِ الكرديةِ للأساليبِ العصريةِ أيضاً كان له نصيبُه الوافرُ فيه.
وإذا وُضِعَ في الحُسبانِ مدى تدني فرصةِ بناءِ دولةٍ قوميةٍ كردية، سواء طبقياً أم من حيث الأجواءِ والظروفِ السائدة؛ فسيُلاحَظُ أنّ حظَّ الحلِّ قَلَّما يحالفُ مثل هذه الدبلوماسياتِ المنصبةِ في بوتقةِ هذا المرمى. ومعلومٌ أنه لَم تُجْنَ ثمارٌ ناجعةٌ من الأنشطةِ المُزاوَلةِ لهذا الغرضِ خلال القرنَين الأخيرَين. فطبيعةُ القضيةِ الكرديةِ لا تساعدُ على إنجاحِ مثلِ تلك الأنشطة. ذلك إنّ دبلوماسيةَ الدولةِ القوميةِ فيما يتعلقُ بالكردِ ليست حَلاّلة، بل كانت شاهدةً على العديدِ من الأدوارِ السلبيةِ التي أسفرَت عن الانسدادِ وتصعيدِ الاشتباكاتِ والنزاعاتِ بين مختلفِ أجزاءِ كردستان، وتثيرُ حفيظةَ الدولِ القوميةِ المعادية. ولهذا السببِ بالتحديد، ثمة حاجةٌ ماسةٌ لدبلوماسيةٍ جديدة. أي، لدبلوماسيةِ الأمةِ الديمقراطية.
يتعينُ على دبلوماسيةِ الأمةِ الديمقراطيةِ أولاً تشكيلُ محفلٍ مشتركٍ بين الكردِ المشتَّتين والمُنقسمين فيما بينهم على اختلافِ مصالحِهم. وعلى هذا المحفل، الذي يشعرُ الكردُّ بأشدِّ وأَمَسِّ الحاجةِ إليه، أنْ يتموقعَ في مركزِ الفعالياتِ الدبلوماسية. ومثلما لوحِظَ حتى الآن، فكافةُ الأنشطةِ الدبلوماسيةِ الأخرى، وبالأخصِّ تلك التي تطَلَّعَ كلُّ تنظيمٍ إلى ممارستِها بمفردِه وفق ما يتماشى ومصالحَه، قد جلبَت الضررَ أكثر من الفائدة، وأفضَت إلى معاناةِ الكردِ من الاشتباكاتِ والانقسامِ والتجزؤِ بدرجةٍ أكبر. بناءً عليه، فتطويرُ دبلوماسيةٍ متكاملةٍ ومتحدةٍ بين الكرد، يُعَدُّ إحدى الوظائفِ الوطنيةِ الأولية. وعليه، فتشكيلُ وتفعيلُ "المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيّ" هو المَهَمّةُ الأكثر حياتيةً في سياقِ الدبلوماسيةِ الكردية، ويجبُ أنْ يَكُونَ الهدفَ الرئيسيَّ لجميعِ التنظيماتِ والشخصياتِ الكردية. ومن جانبٍ آخر، ينبغي صياغةُ دبلوماسيةٍ كرديةٍ متمأسسةٍ لها سياسةٌ واحدةٌ موحَّدة، وناطقٌ واحدٌ باسمِها، بحيث تستندُ بدورِها إلى تكوينِ "المؤتمر الوطنيِّ الديمقراطيِّ" لحظةً قبل أخرى. ولا يحقُّ لأيِّ تنظيمٍ أنْ يُمهِلَ أو يُهمِلَ هذه المهامِّ المصيرية، أياً كانت الذريعة. ومَن يفعلُ ذلك دوماً، يَكُونُ حينها لاهثاً وراء مصالح شخصيةٍ وحزبيةٍ مختلفة. ومن المعروف، أو يجبُ الاطلاعُ جيداً على مدى الأضرارِ والكوارثِ الجسيمةِ التي يتسببُ بها مثلُ هذا النمطِ من العقلياتِ والشخصياتِ ضمن السياقِ التاريخيّ. من طرفٍ آخر، وإلى جانبِ أهميةِ الدبلوماسيةِ المزاوَلةِ على خلفيةِ الدولةِ الفيدراليةِ الكردية، إلا إنها قاصرةٌ عن تغطيةِ احتياجاتِ الكردِ كافة. فلا هي تمتلكُ الكفاءةَ التي تُخَوِّلُها لتلبيتِها، ولا الظروفُ القائمةُ تساعدُها على ذلك. بالتالي، فالدبلوماسيةُ التي ستُشَكِّلُ جواباً لتأمينِ كافةِ جميعِ الكردِ غيرُ ممكنة، إلا اعتماداً على "المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيّ". انطلاقاً من ذلك، فالمهمةُ الأولى تتجسدُ في اجتماعِ "المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيّ"، والإعلانِ عنه تنظيماً ديمقراطياً وطنياً مُوَحِّداً شاملاً ودائمياً.
يمكنُ ترتيبُ الوظائفِ الأساسيةِ لهذا "المؤتمر الوطنيِّ الديمقراطيِّ" المفترَضِ على الشكلِ التالي:
a)يجب أنْ يَكُونَ "المؤتمرُ الوطنيُّ الديمقراطيُّ" تنظيماً دائمياً. وأنْ تَجِدَ كلُّ الشخصياتِ والتنظيماتِ تمثيلَها فيه بِجمعٍ وشَملٍ مناسبٍ يحتضنُ كافةَ الطبقاتِ والشرائحِ الوطنيةِ والديمقراطية. وينبغي هنا عدم إغفالِ التعدادِ السكانيِّ ودورِ أجزاءِ الوطنِ ومدى قوةِ العزيمةِ والثباتِ عن العين.
b)على المؤتمرِ انتخابُ جهازٍ إداريّ، أي هيئةٍ تنفيذيةٍ دائمةٍ تَكُونُ مسؤولةً عن تسييرِ علاقاتِ السياسةِ الميدانيةِ لجميعِ الكردِ والإشرافِ عليها. كما وينبغي تسييرُ الأنشطةِ الدبلوماسيةِ الداخليةِ والخارجية، وكذلك عقدِ العلاقاتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ مؤسساتياً من قِبَلِ هذه الهيئة.
c)على جميعِ التنظيماتِ توحيدُ صفوفِ قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ لديها تحت لواءِ تنظيمٍ مشتركٍ من المقاتلين. ويجبُ تشكيلُ "رئاسة قوات الدفاع الشعبيّ المشتركة". وعلى كلِّ تنظيمٍ التمتعُ بمبادرةٍ محدودةٍ على قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ بما يتناسبُ وقوتَه.
d)على "مكتبِ أو لجنة العلاقاتِ الخارجيةِ" التابعةِ للهيئةِ التنفيذيةِ أنْ تَكُونَ مسؤولةً بمفردِها عن عقدِ العلاقاتِ مع قوى المجتمعِ المدنيِّ وكافةِ الدولِ القوميةِ تتصدرُها الدولُ القوميةُ التي ينضوي الكردُ تحت لوائِها.
ينبغي ترتيبُ علاقةِ كلٍّ من KCK و"الإدارةِ الكرديةِ الإقليميةِ في العراق" مع "المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ" في ظلِّ أجواءٍ مناسبة. حيث بإمكانِ كِلا الجهازَين العملُ بالتنسيقِ والارتباطِ مع "الهيئةِ التنفيذيةِ للمؤتمرِ" بصورةٍ معينة. والعملُ بالاشتراكِ مع كِلا الجهازَين يُعَدُّ مشكلةً هامةً تقتضي التوقفَ عندها بإمعانٍ والبتَّ فيها. إذ من الساطعِ جلياً أنّ العلاقاتِ والتناقضاتِ ستأخذُ وقتاً طويلاً ضمن إطارِ الفوارقِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ الكامنةِ بين إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ في KCK من جهة، وبين نزعةِ إنشاءِ الدولتيةِ القوميةِ لـ"الإدارةِ الفيدراليةِ الكرديةِ في العراقِ" من جهةٍ ثانية. وبمقدورِ "المؤتمرِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ" أنْ يَكُونَ تنظيماً جامعاً وحَلاّلاً في هذا المضمار. هذا وبوسعِ دبلوماسيةِ الأمةِ الديمقراطيةِ أنْ تؤديَ دوراً حَلاّلاً وثابتاً ووطيداً على أرضيةِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ فيما بين شعوبِ الشرقِ الأوسطِ وأممِه، التي زجَّتها دبلوماسيةُ الدولةِ القوميةِ في فوضى عارمة، وأقحمَتها في اشتباكاتٍ طاحنة.

المصدر: pkkonline

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!