إعداد وتحليل: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
تُعد تركيا من أبرز اللاعبين الإقليميين في الصراع السوري، وقد شنت العديد من العمليات العسكرية في شمال سوريا مستهدفة بشكل أساسي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تتكون في معظمها من وحدات حماية الشعب الكردية (YPG). تعتبر أنقرة تلك القوات امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا. وعلى الرغم من رغبة تركيا في شن المزيد من العمليات العسكرية في شمال سوريا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، إلا أن هناك عدة عوامل تمنعها، أبرزها الدور الذي تلعبه كل من الولايات المتحدة وروسيا في هذا السياق.
أولاً: دور الولايات المتحدة
1. الشراكة الأمريكية مع قوات قسد: الولايات المتحدة دعمت قوات قسد منذ عام 2014 في محاربة تنظيم داعش الإرهابي، حيث لعبت وحدات حماية الشعب الكردية دورًا حاسمًا في هزيمة داعش في عدة مناطق من سوريا. لذلك، الولايات المتحدة تعتبر هذه القوات شريكًا مهمًا في المنطقة، وهي تحافظ على وجود عسكري محدود في شمال شرق سوريا لدعمهم.
2. الضغط الأمريكي على تركيا: بالرغم من التوترات المستمرة بين الولايات المتحدة وتركيا، فإن واشنطن غالبًا ما تفرض ضغوطًا دبلوماسية على أنقرة لمنعها من شن عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد الأكراد. أمريكا تخشى أن تؤدي مثل هذه العمليات إلى زعزعة استقرار المنطقة وتضعف القوات الكردية التي لا تزال تقوم بعمليات ضد فلول تنظيم داعش. كما أن النزاعات المتكررة قد تدفع الأكراد نحو التحالف مع النظام السوري أو حتى روسيا، ما يزيد تعقيد المشهد في المنطقة ويضر بالمصالح الأمريكية.
3. الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة: الولايات المتحدة تسعى إلى تجنب أي تصعيد في سوريا قد يؤدي إلى عودة ظهور الجماعات المتطرفة أو دفع الأكراد للتخلي عن التعاون الأمني. ولذا تعمل واشنطن على تحقيق توازن دقيق بين احتواء تركيا ومنع حدوث توتر عسكري يؤدي إلى تفاقم الأوضاع.
ثانياً: دور روسيا
1. الدور العسكري والدبلوماسي الروسي في سوريا: منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، أصبحت روسيا اللاعب الرئيسي في هذا الصراع. موسكو تسعى إلى الحفاظ على توازن القوى بين جميع الأطراف، بما في ذلك الأكراد وتركيا والنظام السوري. من جهة، تتعاون روسيا مع النظام السوري وحليفه الإيراني، ومن جهة أخرى تحاول تهدئة تركيا التي تُعد شريكًا تجاريًا واستراتيجيًا مهمًا لموسكو.
2. الاتفاقات بين روسيا وتركيا: تتواجد اتفاقات دبلوماسية وأمنية بين روسيا وتركيا حول شمال سوريا، أبرزها اتفاق سوتشي في 2019، الذي يقضي بإبعاد القوات الكردية عن الحدود التركية مقابل وقف العمليات العسكرية التركية. موسكو تعمل كوسيط لضمان عدم حدوث أي تصعيد عسكري كبير يمكن أن يؤدي إلى انهيار هذه التفاهمات. ولذا فإن أي عملية عسكرية جديدة من قبل تركيا قد تؤدي إلى توتر العلاقات الروسية التركية، وهو ما لا ترغب فيه موسكو في ظل تعقيد الأوضاع الدولية الراهنة.
3. الحسابات الروسية في إدلب: روسيا قد تضغط على تركيا لمنعها من شن أي هجمات جديدة على الأكراد مقابل تقديم تسهيلات لتركيا في مناطق أخرى مثل إدلب، حيث تواجه أنقرة تحديات مع قوى المعارضة والنظام السوري. وهذا الضغط الروسي يسهم في كبح أي نوايا تركية لشن عملية عسكرية واسعة.
ثالثاً: العوامل الداخلية في تركيا
1. التحديات الاقتصادية: تعاني تركيا من أزمات اقتصادية متفاقمة، بما في ذلك التضخم وانخفاض قيمة الليرة التركية، ما يجعل من الصعب على الحكومة التركية تبرير الدخول في عمليات عسكرية جديدة، قد تكون مكلفة جدًا. أي عملية عسكرية جديدة ستزيد من الأعباء المالية على أنقرة، وخاصة في ظل الضغوط الاقتصادية الدولية.
2. التوازن السياسي الداخلي: رغم الدعم الشعبي الكبير للعمليات العسكرية السابقة ضد الأكراد في سوريا، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يواجه ضغوطًا داخلية من المعارضة التي تنتقد سياسته الخارجية وتدعوه إلى التركيز على القضايا الداخلية. وقد يكون توقيت العملية العسكرية غير مناسب من الناحية السياسية، حيث من المحتمل أن يتأثر الدعم الشعبي لأردوغان إذا استمرت التوترات الاقتصادية دون حلول.
رابعاً: العوامل الإقليمية والدولية
1. توازنات القوى الإقليمية: أي عملية عسكرية جديدة قد تؤثر على توازن القوى في الشرق الأوسط، خاصة في ظل تعقيد العلاقات التركية مع دول عربية مثل السعودية والإمارات. تدخل تركيا في سوريا قد يُفسر بأنه توسع إقليمي يزيد من التوترات مع بعض الدول العربية التي تدعم قوى معارضة للأكراد.
2. تأثيرات العلاقات التركية الأوروبية: أوروبا، وخاصة ألمانيا وفرنسا، تعارض بشدة أي عمليات عسكرية تركية جديدة في سوريا. الاتحاد الأوروبي يخشى من تدفق مزيد من اللاجئين السوريين نحو حدوده في حال حدوث تصعيد عسكري جديد. بالإضافة إلى ذلك، أي عملية عسكرية تركية قد تزيد من تعقيد العلاقات المتوترة بالفعل بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
الإستنتاج:
بالرغم من رغبة تركيا المستمرة في تعزيز نفوذها في شمال سوريا واحتواء التهديد الكردي وفق منظورها الأمني، إلا أن مجموعة من العوامل تمنعها من القيام بعمليات عسكرية جديدة. أبرز تلك العوامل هو الضغط الأمريكي والرغبة الروسية في الحفاظ على توازن القوى في سوريا، إلى جانب تحديات داخلية اقتصادية وسياسية تواجهها أنقرة. في النهاية، تظل تركيا تسعى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، لكن في ظل التعقيدات الدولية والإقليمية، فإن أي عملية عسكرية جديدة ستحتاج إلى حسابات دقيقة من جانب القيادة التركية.