تقدير موقف: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
منذ أشهر قليلة، برزت ملامح تحوّل واضح في السياسة السعودية تجاه دمشق، إذ شهدنا ما يشبه الانفتاح الإعلامي والدبلوماسي على حكومة أحمد الشرع التي تشكّلت بعد انهيار منظومة بشار الأسد وسقوط نظامه قبل أحد عشر شهرًا. هذا التحول اللافت يثير تساؤلات جوهرية حول دوافع الرياض ومصالحها في سوريا الجديدة، خاصة بعد عقدٍ من القطيعة والخصومة مع النظام السابق، وموقفها المتحفظ طوال سنوات الحرب السورية.
السعودية وسوريا الجديدة – واقعية سياسية أم إعادة تموضع؟
من الواضح أن المملكة تبنّت في الآونة الأخيرة مقاربة أكثر براغماتية في تعاملها مع الملفات الإقليمية، لا سيما بعد إعادة تشكيل التوازنات في المنطقة إثر تراجع النفوذ الإيراني في دمشق وصعود حكومة تكنوقراطية يقودها الشرع بدعم من طيف واسع من القوى المحلية.
السعودية ترى في الحكومة الجديدة فرصة لتقليص المساحة الإيرانية التاريخية في سوريا، واستبدالها بعلاقات قائمة على المصالح الاقتصادية والأمنية، وهو ما يتناغم مع رؤيتها الجديدة في “الشرق الأوسط الكبير” الذي تسعى فيه إلى لعب دور الوسيط والموازن الإقليمي لا القائد الأيديولوجي.
الإعلام السعودي كواجهة للتبدّل الإستراتيجي
التغيّر في الخطاب الإعلامي السعودي تجاه دمشق ليس تفصيلاً ثانويًا، بل يعكس قرارًا سياسيًا مؤسساتيًا مدروسًا. فالقنوات والصحف السعودية التي كانت تصف النظام السوري سابقًا بالدموي والاستبدادي، بدأت اليوم تتحدث عن “الاستقرار في سوريا” و”الفرصة الاقتصادية في إعادة الإعمار”، في محاولة لتشكيل رأي عام يمهّد للتطبيع الكامل مع الحكومة الجديدة.
من منظور استراتيجي، تعمل الرياض على إعادة رسم سردية المنطقة بما يتوافق مع مصالحها الجديدة: سوريا كدولة عربية يمكن استعادتها إلى الفضاء العربي بعد أن كانت مسرحًا للنفوذ الإيراني والتركي.
هاجس إيران وتوازنات ما بعد الأسد
لا يمكن قراءة الانفتاح السعودي على حكومة أحمد الشرع دون وضعه في إطار التنافس مع إيران. فالسعودية تسعى لملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الإيراني من المشهد السوري بعد انهيار النظام السابق، وتبحث عن شراكات سياسية واقتصادية تضمن لها نفوذًا آمنًا على الضفة الغربية من المشرق العربي.
حكومة الشرع – التي توصف بأنها أكثر انفتاحًا وتكنوقراطية – تشكل بالنسبة للرياض بوابة يمكن من خلالها بناء شراكة جديدة بعيدًا عن الاستقطاب المذهبي الذي ميّز العقد الماضي.
الاقتصاد والدبلوماسية الناعمة
تتحرك السعودية وفق رؤية استثمارية طويلة الأمد، ترى في إعادة إعمار سوريا فرصة استراتيجية لمشاريعها الكبرى في الطاقة والاتصالات والبنى التحتية، خاصة وأن حكومة الشرع تبدي استعدادًا واضحًا لفتح السوق السورية أمام رؤوس الأموال العربية.
هذا التوجه ينسجم مع سياسة “النفوذ الهادئ” التي تتبعها السعودية منذ سنوات، عبر الدبلوماسية الاقتصادية بدلًا من التدخلات العسكرية أو التمويل الفصائلي.
التسرّع السعودي وتجاهل القوى الفاعلة الأخرى
رغم وجاهة المقاربة السعودية الجديدة من حيث المصالح الإقليمية، إلا أن التسارع في دعم حكومة دمشق دون بناء مقاربة شاملة تُراعي تعقيدات الداخل السوري – وعلى رأسها دور قوات سوريا الديمقراطية (قسد) – يبدو اختزالًا مخلًا لمعادلة السلطة الجديدة.
فقسد اليوم تمثل قوة سياسية وعسكرية منظمة، تدير مناطق مستقرة نسبيًا وتملك علاقات دولية متينة مع التحالف الغربي، وتُعد طرفًا لا يمكن تجاوزه في أي تسوية وطنية سورية شاملة. تجاهل السعودية لهذه الحقيقة أو تقليلها من وزن تلك القوى الكردية والعربية في شمال وشرق سوريا، قد ينعكس سلبًا على رؤيتها بعيدة المدى، ويُظهر سياستها كتحرك فوقي محدود الأفق، لا كاستراتيجية مدروسة لإعادة التوازن داخل سوريا الجديدة.
هذا التسرّع في إعادة التموضع السعودي يُظهر أحيانًا نزعة استعجال نحو "إعادة سوريا إلى الحضن العربي" دون إدراك أن سوريا الجديدة لم تعد دولة مركزية واحدة كما كانت، بل فسيفساء من القوى والمجتمعات والمشاريع السياسية المتباينة التي تتطلب مقاربة أكثر واقعية وشمولًا.
الرهان على “الاستقرار بدل الثورة”
ربما يعكس الموقف السعودي الحالي إدراكًا متأخرًا بأن زمن إسقاط الأنظمة قد ولّى، وأن مرحلة ما بعد الفوضى تفرض دعم “الاستقرار”، حتى لو جاء على حساب الخطاب الأخلاقي السابق. فالمملكة اليوم تراهن على حكومة الشرع باعتبارها نموذجًا “مقبولاً” يوازن بين بقايا الدولة السورية وبين التحولات السياسية المفروضة من الواقع الجديد في المنطقة.
المحصلة
إن “التفاهم السعودي” مع حكومة أحمد الشرع ليس تناقضًا بقدر ما هو إعادة تموضع إستراتيجي يهدف إلى تثبيت الدور السعودي في المشرق العربي، بعد أن خسرت لسنوات أوراقها في العراق ولبنان وسوريا لصالح المحور الإيراني.
لكن النقد الأبرز هنا يتمثل في أن الرياض تبدو وكأنها تحاول القفز فوق تعقيدات المشهد السوري، عبر التعامل مع دمشق ككيان سياسي واحد في حين أن الواقع الميداني والسياسي يشي بعكس ذلك.
ولعلّ تجاهلها لقوى فاعلة مثل قسد، التي تملك مشروعًا إداريًا وسياسيًا متماسكًا في شمال وشرق البلاد، سيجعل من الانفتاح السعودي خطوة ناقصة، أقرب إلى المبادرة الرمزية منها إلى الاستراتيجية المتكاملة.
تنويه: المواد التي تنشر على الجيوستراتيجي يسمح بنشرها من قبل الوكالات والمواقع والجرائد والمجلات ومراجع للكتب والأبحاث والدراسات. شريطة أن يتم ذكر المصدر الرسمي (شبكة الجيوستراتيجي للدراسات)

