تحليل: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
إعلان حزب العمال الكوردستاني (PKK) عن سحب مقاتليه من المنطقة الكردية في تركيا ونقلهم إلى إقليم كوردستان "شمال العراق" شكل محطة انتقالية في تطور طويل الأمد للصراع الكردي التركي الذي امتد لعقود. قرار السحب جاء بعد سلسلة خطوات تراوحت بين وقف لإطلاق النار، خطوات رمزية لتفكيك السلاح، ونداءات من قيادات مسجونة، وهو يطرح سؤالاً مركزياً عن دور إقليم كوردستان (الحكومة الإقليمية في أربيل) كوسيط وظرف إقليمي حاسم في تسوية قد تكون مستدامة أو مؤقتة بحسب تفاعلات الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين. الإعلان الصحفي الأخير والردود الرسمية توضح أن العملية ليست نتيجة تلقائية بل ثمرة تحالفات، حسابات استراتيجية، وضغوط داخلية وخارجية.
السياسة: مساحات نفوذ جديدة وتحالفات مُعاد تصوّرها
السياسة: مساحات نفوذ جديدة وتحالفات مُعاد تصوّرها
أولاً، الإقليم اكتسب موقع الوسيط الشرعي والعملي بين أنقرة وقيادة PKK بفضل قنوات اتصال غير مباشرة أدت إلى قبول لرسائل من السجن، وطلب وساطة رسمي أو شبه رسمي من قبل جهات متحكمة بالقرار داخل الحركة. هذا الموقع عزز من مكانة قادة الإقليم دولياً، وفتح مساراً دبلوماسياً يستند إلى دور إيجابي في حفظ الاستقرار الإقليمي، بدلاً من الوقوع في فخ الانحياز الأحادي. وجود زعماء الإقليم في محطات الوساطة أتاح توظيف «الهوامش السياسية» لتقصير أمد النزاع المسلح سياسيًا، وهو ما لم تتمكن منه أطراف داخل العراق الاتحادي أو دول إقليمية أخرى بنفس الكفاءة.
ثانياً، هناك مقايضات سياسية: سحب المقاتلين لا يعني إغلاق الملف السياسي. مطلب PKK واضح في بيان الانسحاب؛ وهو الحصول على ضمانات تشريعية وسياسية في تركيا، وتحسين وضع عبدالله أوجلان، والاعتراف بحقوق ثقافية ولغوية للكرد داخل تركيا. هذا يضع ثقل التفاوض على طاولة برلمانية في أنقرة وإجراءات داخل النظام السياسي التركي، ويحوّل دور الإقليم من وسيط تقني إلى شريك سياسي محتمل في مفاوضات أوسع تتطلب ضمانات تنفيذ ومؤشرات ثقة متبادلة.
العسكرية: من الفصل التكتيكي إلى إدارة الانتقال الأمني
أولاً، على مستوى التكتيك، التحرك الميداني لسحب المقاتلين يقلل احتمال الاشتباكات العنيفة داخل البلد ويُقلّص المساحة للعمل العسكري التركي داخل مناطق مدنية، ما يقلل الخسائر البشرية والدمار الاجتماعي. السحب نفسه يتطلب عمليات لوجستية وإدارة قواعد وانسحاب منظّم، وهو ما يدل على قدرة مؤسسية لدى PKK على تنفيذ قرارات مركزية، وقدرة إقليم كوردستان على تسهيل مرور عناصر مسلحة عبر أراضيه أو في نطاق سيطرته أو نفوذه.
ثانياً، تحول طبيعة التهديد: مع انتقال المقاتلين إلى شمال العراق، تتحول المواجهة العسكرية إلى إدارة وجود مسلحين على أطراف إقليمية ذات حساسية سيادية. هذا يفرض على كل من الإقليم والحكومة الاتحادية العراقية موازنة دقيقة بين احترام سيادة العراق، الحفاظ على علاقات مع تركيا، وضمان عدم تحوّل أراضي الإقليم إلى مصدر توتر جديد. احتمال ظهور خلايا مقاومة أو فصائل منشقّة يبقى قائماً إلى أن تُستكمل آليات التسوية السياسية.
الاقتصاد: ربح الاستقرار وتكلفة الانتقال
أولاً، مكاسب اقتصادية مباشرة: تخفيف العنف في جنوب شرق تركيا وإمكانية استقرار حدودية يمكن أن يعيد الثقة للمستثمر المحلي والأجنبي، ويُحسّن من حركة التجارة البرية بين تركيا والعراق وسواها. القطاعات المتأثرة ستكون الزراعة، النقل، والطاقة، حيث يسهم الاستقرار الحدودي في خفض تكاليف الحماية والنقل وتحفيز إعادة الإعمار في المناطق التي كانت مسرحاً للصراع.
ثانياً، تكاليف اقتصادية محتملة للإقليم: استيعاب أو مرور أفراد مسلحين إلى شمال العراق قد يفرض أعباء لوجستية وإنسانية—من تأمين مناطق استقبال إلى إدارة برنامج إعادة إدماج محتمل. إذا لم تُدار هذه العملية عبر برامج تمويل واضح ومساهمة من جهات دولية أو حكومية، فإن الإقليم قد يتحمل تكلفة مؤقتة على البنية التحتية والخدمات. ذلك يضع أولوية أمام أربيل لإقناع شركاء إقليميين ودوليين بتمويل فترات الانتقال وإعادة الإعمار والبرامج الاجتماعية.
المخاطر والقيود: ما الذي قد يفشل السلام؟
أولاً، فشل الاستجابة السياسية في أنقرة. انسحاب سلاحي لا يكتمل إلا بإنصاف مؤسسي—إجراءات تشريعية، ضمانات قضائية، وفتح فضاءات سياسية للأكراد داخل تركيا. تأخر أو رفض أنقرة في تقديم خطوات مقابلة سيؤجج استياء وسيرجّح عودة مسارات عنف أو تفكك في صفوف حزب العمال.
ثانياً، تهديدات الجهات الخارجية والداخلية الناقمة: فصائل متطرفة، أو دول إقليمية ترى في إنهاء العنف خسارة لمنافع استراتيجية، قد تسعى لزعزعة الاستقرار. ظهور حالات استفزازية أو هجمات معزولة قد تضر بمناخ الثقة. ثالثاً، الخلافات داخل الجهاز السياسي العراقي وبين بغداد وأربيل من شأنها أن تعقّد التنسيق الأمني والاقتصادي.
التوصيات التنفيذية والاستراتيجية لإقليم كوردستان
اعتماد نموذج إدارة انتقال: تصميم خطة شاملة لإدارة حركة المقاتلين تشمل سجلّات، نقاط استقبال إنسانية، برامج نفسية واجتماعية، وخريطة زمنية واضحة مع مؤشرات قياس. التنسيق مع الحكومة الاتحادية والمنظمات الدولية ضرورة لا غنى عنها.
تعزيز قنوات التفاوض السياسية: الدفع باتجاه آليات دولية أو أوروبية للمتابعة التي تضمن لحظات التحقق والشفافية بين أنقرة وPKK، مع دور راع محايد من إقليم كوردستان لتجنب اتهامات الانحياز.
بناء حزمة اقتصادية لتعويض الضغوط: التفاوض للحصول على دعم مالي لإعادة تأهيل البنية التحتية المحيطة بمناطق الاستقبال، وبرامج تشغيل فورية لامتصاص صدمات سوق العمل المحلية.
تأمين تفاهمات أمنية مع بغداد وأنقرة: صياغة اتفاقيات مؤقتة تحكم الحركة العسكرية، تضمن احترام سيادة العراق، وتحدد مسؤوليات مراقبة وحدات الانسحاب.
إدارة السرد الإعلامي والسياسي: مراقبة الخطاب العام لمنع تأجيج المشاعر القومية وخلق روايات مضادة للمفاهيم المتطرفة أو التحريضية، مع عرض خطوات ملموسة للتحقق والشفافية.
من الوسيط المؤقت إلى مسهّل تسوية مستدامة
إقليم كوردستان يقف عند مفترق تاريخي: إمكان تحويل دوره من وسيط تقني إلى مسهّل لمرحلة انتقالية سياسية قد تُعيد تشكيل علاقة السلطة والمجتمع في سياق شرق أوسط أقل عنفاً. هذا التحول لن يكون ممكناً بدون آليات التحقق، ضمانات سياسية ملموسة من أنقرة، ودعم إقليمي ودولي لإدارة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية. السيناريو الأفضل يتمثل في تثبيت سحب المقاتلين كخطوة أولى في عملية شاملة للتسوية السياسية والاندماج المدني. السيناريو الأسوأ يظهر في تآكل الثقة وسيناريوهات رد فعل عسكري أو تفكك تنظيمي داخل PKK. حضور الإقليم كوسيط مسؤول يعزّز فرص النجاح، ويجعل من أربيل لاعباً حاسماً في بنية أمنية وسياسية إقليمية معاد تعريفها.

