ضياع سوريا بين شبيحة الأسد ومطبلجية الشرع (الماضي والحاضر)

آدمن الموقع
0
قراءة سياسية لـ: إبراهيم مصطفى (كابان)
بعد مرور أكثر من عام على سقوط نظام بشار الأسد، كان يُفترض أن تدخل سوريا مرحلة جديدة من التاريخ السياسي والاجتماعي، تُنهي عقودًا من القمع والدم، وتفتح الباب أمام بناء دولة مدنية ديمقراطية تعبّر عن التنوّع والكرامة والعدالة. لكن ما حدث في الواقع، هو انتقال الخراب من شكلٍ إلى آخر، واستبدال الطغيان بوجه جديد يرتدي عباءة “التحرير”. فقد حلّ أحمد الشرع، المعروف باسم “الجولاني”، ومنظومته الأمنية والعقائدية محل النظام السابق، ليعيد إنتاج البنية ذاتها التي أسقطها الشعب السوري بدمائه وتضحياته. 
في هذا المشهد، تتجلى المأساة السورية في صورتين متعاقبتين: شبيحة الأسد الذين مثّلوا العنف العاري والاستبداد البعثي الطائفي، ومطبلجية الشرع (الجولاني) الذين يقدّمون الوجه الأيديولوجي الجديد للطغيان، متدثرين بخطاب ديني أو ثوري زائف، بينما يعيدون ترميم الهياكل الأمنية والاقتصادية القديمة بأسلوب مختلف. وهكذا لم تتحرر سوريا، بل استُبدلت فيها أدوات القمع القديمة بأخرى أشدّ مكرًا وأعمق تغلغلاً في المجتمع.

النظام الأسدي الذي انهار عسكريًا، لم ينهَر فكريًا وثقافيًا بالكامل، بل ترك وراءه إرثًا من الخوف والطاعة والزبائنية السياسية، وجاءت سلطة الجولاني لتستثمر في هذا الإرث، لا لتقوّضه. فـ “مطبلجية الشرع” الذين يملؤون المنصّات الإعلامية والثقافية اليوم هم الامتداد الطبيعي لأولئك المثقفين والناشطين الذين كانوا يبررون للنظام السابق جرائمه تحت مسميات “الواقعية السياسية” أو “المصالح العليا للوطن”. الفرق الوحيد هو تغيّر الشعار والمرجعية، أما البنية الذهنية والسلوكية فباقية على حالها: عبادة الزعيم، قمع المختلف، تقديس الخطاب الواحد، وتجريم التفكير النقدي. 
لقد رفع الجولاني شعار “تحرير دمشق من الاستبداد”، لكنه سرعان ما جعل من العاصمة رمزًا لاستبداد جديد. ألغى الهياكل المدنية الحقيقية، واحتكر القرار السياسي والاقتصادي، وخلق منظومة دينية-أمنية هجينة تسير وفق منطق “الخلافة الأمنية”، حيث تُدار البلاد بعقلية المخابرات، وتُكمّم الأفواه باسم الدين والثورة معًا. أما أولئك الذين يصفقون له – مطبلجية الشرع – فقد أعادوا إنتاج خطاب التبرير الذي استخدمه شبيحة الأسد من قبل، ولكن بلسان “التحرير” لا “الممانعة”.

إنّ دراسة التحوّل من نظام الأسد إلى سلطة الجولاني تبرز حقيقة مرّة في التاريخ السوري الحديث: أن البنية العميقة للاستبداد لم تتفكك بعد، بل تغيّر شكلها فقط. فما جرى ليس ثورة مكتملة، بل استبدال استبداد بآخر. فالأسد دمّر البلاد تحت شعار “محاربة الإرهاب”، والجولاني يواصل تدميرها تحت شعار “محاربة بقايا النظام” أو “إقامة الحكم الرشيد”. وفي الحالتين، الضحية واحدة: الإنسان السوري، الذي يجد نفسه محاصَرًا بين رماد الخراب وأوهام الخلاص.

التحليل البنيوي لهذا الواقع يكشف أنّ السلطة الجديدة لم تقم على عقد اجتماعي أو مشروع وطني، بل على استغلال الفراغ السياسي الذي خلّفه انهيار النظام السابق. فبعد أن تحولت دمشق إلى مدينة منكوبة أخلاقيًا واقتصاديًا، وجد الجولاني في هذا الانهيار فرصة لبناء نظام بديل يعتمد على ثلاث ركائز: 
  • التحكم الأمني عبر ميليشيات محلية وقوى موالية أيديولوجيًا. 
  • الاحتكار الاقتصادي من خلال شبكات تمويل وتجارات غير مشروعة. 
  • الشرعنة الدينية والسياسية عبر مثقفين ومشايخ وإعلاميين يقومون بوظيفة “التطبيع مع الاستبداد الجديد”.
هؤلاء هم ما يمكن تسميتهم “مطبلجية الشرع”، الذين يحتلون اليوم المساحات الإعلامية والثقافية والسياسية، ويتحدثون عن “إعادة الإعمار” و”الحكم الرشيد” بينما يتجاهلون الجرائم والانتهاكات التي تمارسها سلطة الجولاني ضد المدنيين، وضد كل من يجرؤ على نقد المنظومة الجديدة. إنهم يمارسون دور “النخب التابعة”، كما كان يفعل مثقفو السلطة في عهد الأسد، لكن بلباس أكثر حداثة وبلاغة، وأحيانًا بشعارات دينية أو قومية لتضليل الرأي العام. 
لقد تحولت دمشق اليوم إلى مختبرٍ قاسٍ لإعادة إنتاج الاستبداد بأدوات الثورة نفسها. فالمواطن الذي كان يخاف من المخابرات بات يخاف من “الهيئة”، والمثقف الذي كان يتجنب انتقاد الأسد أصبح يتجنب الاقتراب من “الجولاني”، والإعلام الذي كان يسبّح بحمد “القائد المفدّى” صار يسبّح بحمد “الأمير”. هذه ليست حرية، بل إعادة تدوير الطغيان. 
على المستوى الأكاديمي، يمكن النظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها استمرارية بنيوية للدولة السلطوية في الشرق الأوسط، حيث لا تنشأ السلطة من الإرادة الشعبية بل من السيطرة الأمنية والعسكرية، وتُبرر وجودها عبر خطاب أيديولوجي مزدوج: مقاومة العدو الخارجي، أو مواجهة الفوضى. وهكذا يصبح أي استبداد جديد مشروعًا طالما أنه يتغطّى بعباءة “الإنقاذ”. 
لكن الخطير في مرحلة ما بعد الأسد هو تفكيك المعنى الوطني نفسه. فبينما كان النظام السابق يستخدم القومية والعروبة كغطاء أيديولوجي، فإن سلطة الجولاني تستخدم الدين والشرع كأداة جديدة للتعبئة، فتنتقل سوريا من طغيان قومي إلى طغيان عقائدي، ومن دولة بوليسية إلى إمارة أمنية. والنتيجة في الحالتين واحدة: ضياع الدولة والمجتمع معًا.

إنّ مواجهة هذه البنية المزدوجة من الخراب – شبيحة الأمس ومطبلجية اليوم – تتطلب وعيًا نقديًا عميقًا، يتجاوز الانقسامات الشكلية بين النظام السابق والسلطة الجديدة. فلا يمكن بناء سوريا المستقبل إلا عبر قطيعة جذرية مع ثقافة الطاعة، ومع كل خطاب يبرر العنف باسم “الشرعية” أو “الشرع”. المطلوب ليس فقط إسقاط الطغاة، بل إسقاط الذهنية التي تصنع الطغيان. 
سوريا، التي دفعت ثمناً باهظاً من أجل الحرية، لا يمكن أن تُساق من جديد إلى عبودية جديدة مزيّنة بشعارات دينية أو ثورية. وعلى المثقفين والأكاديميين السوريين في الداخل والشتات أن يبلوروا خطاباً جديداً يعرّي “مطبلجية الشرع” كما عرّوا من قبل “شبيحة الأسد”، وأن يؤسسوا لوعيٍ مدنيّ يضع الإنسان فوق الأيديولوجيا، والعدالة فوق الولاء، والكرامة فوق كل الزعامات المؤقتة. 
فالمعركة اليوم ليست بين النظام والمعارضة، بل بين الحرية والاستبداد بأقنعته الجديدة، بين من يريد إعادة بناء الوطن على أساس المواطنة، ومن يريد تحويله إلى إمارة أو معسكر. وبين هؤلاء وأولئك، تقف سوريا الجريحة، تائهة بين الضياع والتدمير، تنتظر من يعيد إليها المعنى والاتجاه.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!