كركوك في ميزان الانتخابات " قراءة في النتائج والتحولات السياسية والديموغرافية "

آدمن الموقع
0
اعداد: فريق الجيوستراتيجي للدراسات 
تُعدّ محافظة كركوك واحدة من أكثر المناطق العراقية تعقيداً من حيث بنيتها الديموغرافية، وتاريخها السياسي، ورمزيتها القومية في الوعي الكردي. فهي ليست مجرد مدينة غنية بالنفط أو مركز جغرافي استراتيجي، بل تمثل بالنسبة للكرد عمقاً تاريخياً وهوياتياً ضارباً في الجذور، وموقعاً محورياً في مسار نضالهم من أجل الاعتراف بحقوقهم القومية ضمن الدولة العراقية. ومن هنا، فإن أي انتخابات تُجرى في كركوك لا تُقرأ فقط بوصفها منافسة حزبية أو ديمقراطية محلية، بل باعتبارها استفتاءً متجدداً على هوية المدينة وتوازن القوى القومية داخلها.
لقد شكّلت الانتخابات الأخيرة في كركوك (2024–2025) محطة حساسة في مسار إعادة تشكل الخريطة السياسية للمدينة بعد سنوات من التغييرات الديموغرافية، ومحاولات الهيمنة العربية والتركمانية التي جاءت نتيجة سياسات التعريب الممنهجة التي اتبعتها الأنظمة العراقية السابقة، وما تبعها من دعم تركي مباشر للقوى التركمانية ومحاولات إضعاف المكون الكردي.

النتائج الانتخابية – الأرقام ودلالاتها

أظهرت النتائج الأولية للانتخابات المحلية الأخيرة في كركوك استمرار القوى الكردية (ولا سيما الاتحاد الوطني الكردستاني) في الحفاظ على موقعها كـ الكتلة الأكبر داخل المحافظة، رغم كل ما شهده الإقليم من تحديات وانقسامات.
فقد حصل التحالف الكردي الموحّد تقريباً على ما يقارب 41–43% من الأصوات، بينما توزعت النسبة الباقية بين التحالف العربي في كركوك (حوالي 32%) والجبهة التركمانية (قرابة 20%)، مع وجود أصوات محدودة لأحزاب صغيرة ومستقلين. 
وهذه الأرقام، على الرغم من تفاوتها البسيط بحسب المناطق والمراكز الانتخابية، تُبرز أن الناخب الكردي في كركوك ما زال الكتلة التصويتية الأكبر والأكثر استقراراً، وأن سياسات الإقصاء والتعريب التي مورست لعقود لم تنجح في كسر الثقل الكردي المتجذر في المدينة. 
وتُشير القراءة التحليلية إلى أن المناطق ذات الأغلبية الكردية – خصوصاً في الأحياء الشمالية والشرقية من المدينة – قد صوتت بشكل شبه موحد للتحالف الكردي، في حين تركز التصويت العربي في المناطق المستحدثة بفعل سياسات التعريب في عهد حزب البعث، مثل حي العروبة والحرية وبعض القرى الجنوبية. أما الأصوات التركمانية فظلت متركزة في وسط المدينة والمناطق المتاخمة لحي تسعين وطريق بغداد. 
  
الخلفية التاريخية – كركوك الكردية والجغرافيا التي تعرّبت بالقوة 
 
تاريخ كركوك لا يمكن قراءته بمعزل عن جغرافيتها الكردية الأصلية. فالمصادر التاريخية، منذ العهد العثماني وما قبله، تشير بوضوح إلى أن المنطقة كانت موطناً رئيسياً للعشائر الكردية مثل الجاف والطالباني والهموند وغيرهم. وقد شكلت المدينة مركزاً ثقافياً وإدارياً ضمن مناطق كردستان التاريخية. 
غير أن سياسات التعريب التي اتبعتها الحكومات العراقية المتعاقبة، ولا سيما منذ ستينيات القرن الماضي، غيّرت تدريجياً من النسيج الديموغرافي للمدينة. فقد نُفذت عمليات تهجير قسري للكرد واستقدام عشائر عربية من الجنوب، وتم تغيير أسماء الأحياء والقرى الكردية، إلى جانب سحب الجنسية من عشرات الآلاف من السكان الكرد الأصليين. 
هذه العمليات لم تكن مجرد سياسات داخلية بل مشروعاً سياسياً ممنهجاً يهدف إلى سلخ كركوك عن كردستان، وخلق واقعٍ ديموغرافي مصطنع يمكن توظيفه لاحقاً في الانتخابات والتمثيل السياسي. ورغم ذلك، حافظ الكرد على حضورهم الاجتماعي والثقافي والسياسي داخل المدينة، مستندين إلى جذورهم التاريخية التي تعود إلى قرون طويلة قبل تشكل الدولة العراقية الحديثة. 
  
المستوطنين العرب والتركمان في المشهد الكركوكي – تحالف المصالح وضغط الخارج

من الواضح أن القوى العربية والتركمانية في كركوك تتحرك ضمن توازن دقيق مدعوم من أطراف خارجية. فالعرب الذين استقروا في كركوك بفعل سياسات البعث يعتمدون اليوم على إرث الدولة المركزية العراقية ومؤسساتها، بينما يجد التركمان في أنقرة داعماً مباشراً لهم سياسياً وإعلامياً وحتى لوجستياً. 
الدور التركي في كركوك لا يمكن تجاهله، إذ تُعامل أنقرة المدينة كمنطقة نفوذ ثقافي وتاريخي، وتدعم بشكل مباشر الأحزاب التركمانية التي تسعى لتقليص الدور الكردي. هذه القوى التركمانية – رغم محدودية حجمها العددي الحقيقي – تحاول عبر التحالفات المرحلية مع القوى العربية أن تفرض نفسها كلاعب رئيسي يفوق وزنها الديموغرافي. 
إلا أن الواقع الانتخابي الأخير كشف أن محاولات بناء تحالف عربي–تركماني ضد الكرد لم تنجح بالكامل، إذ بقيت الكتلة الكردية هي الأكثر تماسكاً وتنظيماً، ما يعكس عمق الوعي القومي والسياسي لدى الشارع الكردي في المدينة.  
 
قراءة في دلالات استمرار التفوق الكردي

إن استمرار تفوق الكرد في كركوك رغم الظروف الأمنية والسياسية المعقدة، يدل على أن الهوية الكردية للمدينة لم تُمحَ، بل ازدادت تجذراً. كما أن تصويت الناخبين الكرد لصالح قواهم السياسية يُعد رسالة سياسية واضحة إلى بغداد بأن كركوك لا يمكن أن تُختزل في معادلات التعريب أو المساومات الإقليمية. 
الكرد في كركوك يعبّرون في كل انتخابات عن تمسكهم بانتماء مدينتهم إلى جغرافية كردستان، وفي الوقت نفسه يؤكدون على ضرورة الحل السلمي والدستوري لقضية كركوك عبر تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، التي ظلت مجمدة عمداً منذ سنوات طويلة. 
  
أبعاد المشهد المستقبلي

النتائج الأخيرة تفتح الباب أمام مرحلة تفاوض جديدة بين القوى الكردية والعربية والتركمانية حول إدارة المحافظة ومجلسها المحلي. وفي هذا السياق، يمتلك الكرد أوراق قوة حقيقية، أهمها: 
  • ثقلهم السكاني والتاريخي. 
  • وحدة موقفهم السياسي النسبي. 
  • الدعم الشعبي المستمر رغم الانقسام بين الأحزاب.
لكن التحدي الأكبر يتمثل في ضرورة توحيد الموقف الكردي بالكامل بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني)، وتفادي أي صراع داخلي يمكن أن يُستغل من قبل الخصوم الإقليميين. 
أما على المدى البعيد، فإن كركوك ستبقى مفتاح التوازن القومي في العراق، وأي تسوية نهائية بين بغداد وأربيل لن تكون ممكنة من دون حل عادل لقضية المدينة يضمن الاعتراف بهويتها الكردية وحقوق سكانها الأصليين.

المحصلة:

كركوك ليست مجرد محافظة متنازع عليها، بل رمزٌ قوميٌّ لكردستان التاريخية، وامتحانٌ دائم لإرادة الشعوب في مواجهة سياسات الإقصاء والتعريب والتدخل الإقليمي. لقد أكدت نتائج الانتخابات الأخيرة أن الهوية لا تُمحى بالصناديق المزيفة ولا تُغيَّب بالخرائط السياسية، وأن الشعب الكردي في كركوك – رغم كل المعاناة – لا يزال يحتفظ بحقّه التاريخي والسياسي في مدينته.
إن الحفاظ على هذا الوجود وتطويره يتطلب رؤية إستراتيجية كردية موحدة، تقوم على مبدأ الديمقراطية المحلية والتمسك بالحقوق الدستورية، وتوظيف كل الأدوات السياسية والمدنية لتثبيت هوية كركوك الكردية وحمايتها من مشاريع التعريب الجديدة أو الوصاية التركية والعربية.
 
- يسمح بنشر المادة أو الإقتباس منها شريطة ذكر المصدر (شبكة الجيوستراتيجي للدراسات) 

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!