التحولات الاستراتيجية في المشهد السوري
قراءة معمقة للعلاقة الأمريكية مع حكومة أحمد الشرع وانعكاساتها على دمشق والتوازنات الإقليمية
تحليل إستراتيجي لـ إبراهيم مصطفى (كابان)
شهد الملف السوري خلال الفترة الأخيرة تحولات استثنائية في البنية الاستراتيجية للعلاقات الدولية والإقليمية، تجلت أبرز ملامحها في اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأحمد الشرع، رئيس الحكومة السورية المؤقتة. هذه الخطوة، التي قد تبدو للبعض مجرد إجراء بروتوكولي، تحمل في جوهرها إشارات عميقة تتجاوز حدود التفاعل بين شخصية سياسية سورية وأميركا، لتؤسس لمشهد جديد يعيد رسم خريطة النفوذ في سوريا، ويعيد ترتيب أولويات واشنطن، ويعيد تعريف مفهوم الشرعية السياسية على المستويين الداخلي والدولي.
إن زيارة الشرع إلى واشنطن تمثل انعطافة نوعية في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، إذ تشير إلى انتقال من مرحلة دعم القوى العسكرية المؤثرة على الأرض، مثل قوات سوريا الديمقراطية، إلى مرحلة استكشاف شراكات سياسية جديدة قادرة على فرض معادلات نفوذ متوازنة. هذه الشراكة المقترحة مع حكومة الشرع ليست مجرد تعامل تكتيكي، بل تعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى استثمار قدرة هذه الحكومة على التأسيس المؤسسي والسياسي، بما يمكنها من إيجاد توازن بين البيئة الدولية التي تنخرط في مكافحة الإرهاب، وبين القوى الإسلامية المعتدلة المحلية.
التحولات في العقل الاستراتيجي الأمريكي: من إدارة الصراع إلى إعادة هندسة التوازنات
السياسة الأمريكية تجاه سوريا، التي اعتمدت في سنواتها السابقة على استراتيجية "إدارة الصراع"، تقوم على دعم فصائل محلية وأخرى كردية في مناطق محددة، لم تعد قادرة على ضمان نفوذ طويل الأمد أو منع خصوم واشنطن الإقليميين، من روسيا وإيران وتركيا، من ملء الفراغ الاستراتيجي. الزيارة الأخيرة تعكس إدراكًا أمريكيًا جوهريًا بأن دعم القوى المسلحة وحده لا يكفي، بل لا بد من تطوير شراكات سياسية قابلة للاعتراف الدولي وذات قدرة على إدارة مؤسسات وحكم محلي فعال.
واشنطن، من خلال لقاء ترامب مع الشرع، أرادت إرسال رسالة مفادها أن التحدي لم يعد محصورًا في السيطرة العسكرية على الأرض، بل يتصل بقدرة القوى المحلية على التحول إلى كيانات سياسية مؤسسية، تمتلك القدرة على إدارة الموارد، بناء الأجهزة الإدارية، وفرض الأمن ضمن بيئة معقدة ومتعددة اللاعبين. هذا التوجه يتيح لأميركا خلق موازنة جديدة ضد النفوذ الروسي والإيراني، دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر، مع الحفاظ على القدرة على التأثير في مستقبل التسوية السورية عبر شريك محلي مرن.
الأطراف الإقليمية: تركيا وقطر والسعودية بين التفاعل والتحفظ
على مستوى القوى الإقليمية، أثار التحول الأمريكي تجاه حكومة الشرع ردود فعل متباينة تعكس حسابات كل دولة على صعيد مصالحها القومية والإقليمية. تركيا، التي لطالما اعتبرت السيطرة على الشمال السوري محورًا أساسيًا لأمنها القومي، تراهن على إمكانية توظيف الشرع لإضعاف النفوذ الكردي، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن الاعتراف الأمريكي به قد يمنحه استقلالية سياسية قد تتجاوز القدرة التركية على التحكم المباشر في تطوراته.
أما قطر، فتعتبر الشرع جسراً للتفاعل بين الإسلام السياسي والإدارة الأمريكية، وتسعى لاستثمار هذا التحول لتعزيز نفوذها الإقليمي عبر بوابة المعارضة السورية. بينما السعودية، بنهج أكثر براغماتية، ترى في أي مشروع يحد من النفوذ الإيراني في سوريا فرصة استراتيجية، وتفتح آفاقًا محتملة لدعم حكومة الشرع في حال حظيت بغطاء أمريكي واضح. هذا التفاعل الإقليمي يجعل من الشرع لاعبًا سياسيًا متناميًا، يمتلك القدرة على التأثير في موازين القوى الإقليمية، ويعيد تعريف دور الفاعلين المحليين ضمن السياق الدولي.
دمشق وقسد: مواجهة منافس سياسي جديد وتحديات الشرعية
تواجه دمشق تحديًا استراتيجيًا غير مسبوق مع بروز حكومة الشرع كفاعل سياسي دولي. فبينما اعتادت دمشق على أن تكون المنافسة محصورة في إدارة النزاع المسلح والسيطرة الميدانية، بات عليها اليوم التعامل مع منافس يمتلك شرعية دولية غير مباشرة، مبنية على الإدارة، المؤسسات، والاعتراف التدريجي من الفاعلين الإقليميين والدوليين. هذا المشهد يشكل تهديدًا لمفهوم السيادة السورية التقليدي، ويضع النظام أمام خيار التكيف مع واقع سياسي جديد يتجاوز نطاق السلطة المركزية في المناطق الخارجة عن سيطرته.
على صعيد آخر، تواجه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تغيرًا في حساباتها الاستراتيجية، إذ يشكل ظهور حكومة الشرع وتلقيها اهتمامًا أمريكيًا تهديدًا مباشرًا لمشروع الإدارة الذاتية. هذا التحول يقلل من اعتماد قسد على الحماية الأمريكية الحصرية، ويطرح سيناريوهات جديدة تتعلق بإعادة ترتيب التحالفات، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع دمشق وروسيا لمواجهة تحولات النفوذ المحتملة، ومحاولة الحفاظ على مكاسبها السياسية والعسكرية في مناطق سيطرتها.
إعادة رسم خريطة النفوذ وإعادة تعريف الشرعية
زيارة الشرع للولايات المتحدة، بلقاء ترامب، تمثل نقطة تحول جوهرية في مسار الأزمة السورية. فهي تعكس التحول من دور فاعل ميداني إلى لاعب سياسي قادر على فرض نفسه على المسرح الدولي. واشنطن، التي تبحث عن شريك قادر على فرض الاستقرار دون تكاليف عسكرية مباشرة، وجدت في حكومة الشرع نموذجًا مرنًا يمكن تطويره، فيما تسعى تركيا وقطر والسعودية لاستثمار هذا التحول بما يتماشى مع مصالحها الإقليمية.
بذلك، يتضح أن هذه الزيارة لم تعد مجرد حدث عابر، بل بداية مرحلة جديدة من إعادة تعريف الشرعية في سوريا، من شرعية القوة الميدانية إلى شرعية المؤسسات، وصولاً إلى شرعية الاعتراف الدولي. وما بعد هذه التحولات لن يكون كما قبله، فالأحداث الراهنة تشير إلى أن المشهد السوري على مشارف مرحلة جديدة من إعادة ترتيب القوى، معقدة ومتشابكة، حيث تصبح السياسة الدولية والإقليمية أكثر اعتمادًا على قدرة اللاعبين المحليين على الانتقال من القوة العسكرية إلى السياسة المؤسسية وإدارة الموارد.
شهد الملف السوري خلال الفترة الأخيرة تحولات استثنائية في البنية الاستراتيجية للعلاقات الدولية والإقليمية، تجلت أبرز ملامحها في اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأحمد الشرع، رئيس الحكومة السورية المؤقتة. هذه الخطوة، التي قد تبدو للبعض مجرد إجراء بروتوكولي، تحمل في جوهرها إشارات عميقة تتجاوز حدود التفاعل بين شخصية سياسية سورية وأميركا، لتؤسس لمشهد جديد يعيد رسم خريطة النفوذ في سوريا، ويعيد ترتيب أولويات واشنطن، ويعيد تعريف مفهوم الشرعية السياسية على المستويين الداخلي والدولي.
إن زيارة الشرع إلى واشنطن تمثل انعطافة نوعية في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، إذ تشير إلى انتقال من مرحلة دعم القوى العسكرية المؤثرة على الأرض، مثل قوات سوريا الديمقراطية، إلى مرحلة استكشاف شراكات سياسية جديدة قادرة على فرض معادلات نفوذ متوازنة. هذه الشراكة المقترحة مع حكومة الشرع ليست مجرد تعامل تكتيكي، بل تعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى استثمار قدرة هذه الحكومة على التأسيس المؤسسي والسياسي، بما يمكنها من إيجاد توازن بين البيئة الدولية التي تنخرط في مكافحة الإرهاب، وبين القوى الإسلامية المعتدلة المحلية.
التحولات في العقل الاستراتيجي الأمريكي: من إدارة الصراع إلى إعادة هندسة التوازنات
السياسة الأمريكية تجاه سوريا، التي اعتمدت في سنواتها السابقة على استراتيجية "إدارة الصراع"، تقوم على دعم فصائل محلية وأخرى كردية في مناطق محددة، لم تعد قادرة على ضمان نفوذ طويل الأمد أو منع خصوم واشنطن الإقليميين، من روسيا وإيران وتركيا، من ملء الفراغ الاستراتيجي. الزيارة الأخيرة تعكس إدراكًا أمريكيًا جوهريًا بأن دعم القوى المسلحة وحده لا يكفي، بل لا بد من تطوير شراكات سياسية قابلة للاعتراف الدولي وذات قدرة على إدارة مؤسسات وحكم محلي فعال.
واشنطن، من خلال لقاء ترامب مع الشرع، أرادت إرسال رسالة مفادها أن التحدي لم يعد محصورًا في السيطرة العسكرية على الأرض، بل يتصل بقدرة القوى المحلية على التحول إلى كيانات سياسية مؤسسية، تمتلك القدرة على إدارة الموارد، بناء الأجهزة الإدارية، وفرض الأمن ضمن بيئة معقدة ومتعددة اللاعبين. هذا التوجه يتيح لأميركا خلق موازنة جديدة ضد النفوذ الروسي والإيراني، دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر، مع الحفاظ على القدرة على التأثير في مستقبل التسوية السورية عبر شريك محلي مرن.
الأطراف الإقليمية: تركيا وقطر والسعودية بين التفاعل والتحفظ
على مستوى القوى الإقليمية، أثار التحول الأمريكي تجاه حكومة الشرع ردود فعل متباينة تعكس حسابات كل دولة على صعيد مصالحها القومية والإقليمية. تركيا، التي لطالما اعتبرت السيطرة على الشمال السوري محورًا أساسيًا لأمنها القومي، تراهن على إمكانية توظيف الشرع لإضعاف النفوذ الكردي، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن الاعتراف الأمريكي به قد يمنحه استقلالية سياسية قد تتجاوز القدرة التركية على التحكم المباشر في تطوراته.
أما قطر، فتعتبر الشرع جسراً للتفاعل بين الإسلام السياسي والإدارة الأمريكية، وتسعى لاستثمار هذا التحول لتعزيز نفوذها الإقليمي عبر بوابة المعارضة السورية. بينما السعودية، بنهج أكثر براغماتية، ترى في أي مشروع يحد من النفوذ الإيراني في سوريا فرصة استراتيجية، وتفتح آفاقًا محتملة لدعم حكومة الشرع في حال حظيت بغطاء أمريكي واضح. هذا التفاعل الإقليمي يجعل من الشرع لاعبًا سياسيًا متناميًا، يمتلك القدرة على التأثير في موازين القوى الإقليمية، ويعيد تعريف دور الفاعلين المحليين ضمن السياق الدولي.
دمشق وقسد: مواجهة منافس سياسي جديد وتحديات الشرعية
تواجه دمشق تحديًا استراتيجيًا غير مسبوق مع بروز حكومة الشرع كفاعل سياسي دولي. فبينما اعتادت دمشق على أن تكون المنافسة محصورة في إدارة النزاع المسلح والسيطرة الميدانية، بات عليها اليوم التعامل مع منافس يمتلك شرعية دولية غير مباشرة، مبنية على الإدارة، المؤسسات، والاعتراف التدريجي من الفاعلين الإقليميين والدوليين. هذا المشهد يشكل تهديدًا لمفهوم السيادة السورية التقليدي، ويضع النظام أمام خيار التكيف مع واقع سياسي جديد يتجاوز نطاق السلطة المركزية في المناطق الخارجة عن سيطرته.
على صعيد آخر، تواجه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تغيرًا في حساباتها الاستراتيجية، إذ يشكل ظهور حكومة الشرع وتلقيها اهتمامًا أمريكيًا تهديدًا مباشرًا لمشروع الإدارة الذاتية. هذا التحول يقلل من اعتماد قسد على الحماية الأمريكية الحصرية، ويطرح سيناريوهات جديدة تتعلق بإعادة ترتيب التحالفات، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع دمشق وروسيا لمواجهة تحولات النفوذ المحتملة، ومحاولة الحفاظ على مكاسبها السياسية والعسكرية في مناطق سيطرتها.
إعادة رسم خريطة النفوذ وإعادة تعريف الشرعية
زيارة الشرع للولايات المتحدة، بلقاء ترامب، تمثل نقطة تحول جوهرية في مسار الأزمة السورية. فهي تعكس التحول من دور فاعل ميداني إلى لاعب سياسي قادر على فرض نفسه على المسرح الدولي. واشنطن، التي تبحث عن شريك قادر على فرض الاستقرار دون تكاليف عسكرية مباشرة، وجدت في حكومة الشرع نموذجًا مرنًا يمكن تطويره، فيما تسعى تركيا وقطر والسعودية لاستثمار هذا التحول بما يتماشى مع مصالحها الإقليمية.
بذلك، يتضح أن هذه الزيارة لم تعد مجرد حدث عابر، بل بداية مرحلة جديدة من إعادة تعريف الشرعية في سوريا، من شرعية القوة الميدانية إلى شرعية المؤسسات، وصولاً إلى شرعية الاعتراف الدولي. وما بعد هذه التحولات لن يكون كما قبله، فالأحداث الراهنة تشير إلى أن المشهد السوري على مشارف مرحلة جديدة من إعادة ترتيب القوى، معقدة ومتشابكة، حيث تصبح السياسة الدولية والإقليمية أكثر اعتمادًا على قدرة اللاعبين المحليين على الانتقال من القوة العسكرية إلى السياسة المؤسسية وإدارة الموارد.
- مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات

