لايمكن قراءة المشهد السوري بمعزل عن الأزمات المتصارعة التي تعصف بالشرق الأوسط، لاسيّما وان هذه المنطقة الحيوية تجذب باستمرار شهية القوى الكبرى للتنافس عليها، لِمّا تحتويه من ثروات أحفورية وأكبر احتياطي النفط في العالم، وتجلب بذلك النزاعات بين هذه القوى وحلفائها المحليين من الدول الإقليمية، والأحزاب والتيارات المحلية داخل كل دولة، وبالتالي تكون المنطقة ساحة للحروب والمواجهات المفتوحة، وسوقاً ثميناً للشركات الناهبة بغية صرف منتجاتها، مقابل الاستحواذ على مقدرات المنطقة.
لقد دأبت القوى الكبرى على إدارة المنطقة وفق سياسة التوازنات والمصالح، والخطط والتكتيكات التي توفر لها الأرضية السياسية والعسكرية والشعبية، مما تحولت جميع المجالات البحرية والبرية والجوية إلى ممرات لتنفيذ أجندتها، واستخدمت في ذلك القوى المحلية " الأنظمة "، التي أحكمت قبضتها على الشعوب، ومن اجل الحفاظ على سيطرتها تحولت إلى آليات تنفيذية للقوى الكبرى، حتى أصبح الشرق الأوسط مجرد ساحة حرب كبيرة يستهلك فيها المقدرات لشراء الاسلحة والأدوات العنفية التي جلبت القتل والدمار والخراب.
ولعّلَ الأزمة السورية وما نتجَ عن الربيع " الشرق الأوسطي " والشكل الذي استقر عليه كل موقعة أبتداء من تونس ومصر وليبيا وصولاً إلى اليمن وسوريا ولاحقاً الجزائر والعراق وإيران وتركيا ولبنان، أظهرت الواقع الذي عانت منه المنطقة ودفعته الظروف الموضوعية إلى مواجهات متعددة لها أوجه قد تكون في بقع منها عنفية مركزة، وأخرى مرت دون ضحايا. ونجمت بجملها عن ظهور قوى مختلفة أبعد من أن تكون متطرفة تم استخدامها من قبل الأنظمة الحاكمة، وأخرى انطلقت من المظاليم التي عانتها وحاولت الاستفادة من هذه التطورات فثارت على الانظمة الدكتاتورية، مقابل فوضى كبرى افتعلتها الأحداث وأدوات الانظمة، لا سيما المتطرفين. وكان ذلك كافياً بان تدخل عموم الشرق الأوسط في نفق مظلم نتج عن تدهور كبير في الحالة الإقتصادية وتعمق الإختلافات بين المكونات القومية والدينية، مع إنعدام الأمن والأمان لدى مواطني معظم الدول التي دخلت في غياهب الصدامات العسكرية، بالتزامن مع لجوء الأنظمة الدكتاتورية إلى إستخدام آليات القتل والتدمير الممنهجة مع إرتكاب جينوسايد منظمة، لا سيما الأدوات التي تستخدمها هذه الأنظمة في الفتك بالمجتمعات وزيادة الفوضى، وإستمرارية التغطية على تلك الممارسات من قبل بعض الدول الكبرى التي تملك القدرة في التجاوز على القوانين والأعراف الدولية والأممية.
إن أهمية تحليل الحدث السوري من بوابة ما تفرع عنه من أزمات وحرب أهلية واشكاليات وصراع دولي، وظهور حجم الإستخدامات المصلحية على حساب وحدة الجغرافية السياسية والتقارب الديموغرافي بين المكونات والأعراق إلى جانب إجراء مناقصات تخص دول وأطراف، إلى جانب تنفيذ مشاريع تكرس همجية القوى المستفيدة من المقتلة السورية، هذه العوامل كافية لإبراز مفتاح جيوسياسية تشير إلى فهم الأزمات بشكل أوسع داخل منطقة الشرق الأوسط، إنطلاقاً من الحدث السوري، وبالتالي فهم وجهة المتغيرات والسيناريوهات المتوقعة لكافة المسارات وضمنه الظروف التي أنتجتها المقتلة السورية.
لهذا فإن التفاعلات الدولية التي أنتجت بدورها عن خلافات عميقة بين المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، والمواقف السياسية المتشنجة التي أخذت مناحي كثيرة في إدارة الأزمة، وحالات الصراع المقيت على تضمين المصالح الخاصة لكل طرف من الكعكة السورية، وعموم الدول الشرق الأوسطية التي تشهد صراعات بمستوياتها المتعددة، والاصطفافات التي تمت وأبرزت بدورها أهمية الحضور والمشاركة في تحديد مسارات الأزمة السورية، إلى جانب البروباغندا التي تم استخدامها في استمالة الأنظار إلى سوريا كغطاء لجميع القوى المعنية في تغييب الكثير من الاحداث الدولية والقضايا الحساسة، هي في المحصلة مسائل مفروضة على الواقع السوري، وجانب أرتكازي ساهم بسير الدورة الطبيعية للأحداث والتفاعلات والنتائج والمفرزات.
إن توسعة رقعة الحدث السوري وتفاعلاتها أنتجت الكثير من التحولات في المحيط الإقليمي والدولي، ولم تقل وطأتها في الداخل السوري عن العوامل التي أستمالت أيضاً بدورها نحو التفاعل سلباً أو إيجاباً مع ما شهدته حجم المواجهات، حتى أصبحت المسألة السورية دولية بامتياز، وتصلب منها قرارتها، فتحولت معها الأطراف المتصارعة إلى أحجار تحركها الأجندات الدولية والإقليمية على رقعة تتضح إنها تتجه نحو الإنقسام الجغرافي، وليس فقط المكوناتي، لأن حالة الشرخ بات واضحاً من خلال دس بعض الدول الإقليمية لكيميا سلخ الأطراف السورية عن بعضها في عملية قيصرية باتت مكشوفة تماماً للعيان.
في الواقع تحولت الأزمة السورية إلى بوابة دولية يمكن ان نطل من خلالها على جميع القضايات المتعلقة بتكريس مصالح القوى الكبرى من طرف، وإسهامهم في إعطاء الضوء الأخضر للقوى الإقليمية لتحويل سوريا إلى ساحة مفتوحة تجتاحها قوى إقليمية لتنفيذ مشاريعها الخاصة. وإستخدام أسلحتها الفتاكة، وكإننا أمام حقل تجارب لمعامل الاسلحة.
حين تحولت سوريا إلى لقمة على قصعة الدول الإقليمية أستباحت هذه القوى المناطق السورية التي باتت تنقسم وتفصل وفق مصالح هذه الدول. حتى القوى المحلية التي تسيطر على مفاصل الادارة تحولت إلى أدوات تتصارع فيما بينها بالنيابة عن الدول الإقليمية التي تتفق في الافق على إستراتيجية تقسم سوريا بين مصالحها وإلهاء المجموعات السورية المحلية ببعضها. ويمكن فهم ذلك بوضوع في عملية تبادل المصالح بين التدخل التركي والإيراني، وتبينهما لطرفي النظام والمعارضة. لاسيّما المجموعات المسلحة التي ساهمت في تثبيت نوعية التعبئة الموجهة من قبل تلك الدول في زيادة وتيرة حالات التنافر والتشرذم، إلى جانب ظهور المنظمات الدولية في صورة سلبية متوحشة لا تقوى على إدارة الحلول بشكل حقيقي دون الإعادة إلى القوى الدولية المتصارعة في سوريا، والتي تسببت بدورها في زيادة الأزمة وتطويرها لتأخذ مجرى آخر نحو رعاية تدمير البنية التحتية لسوريا، وإفصاحها المجال للدول الإقليمية في العبث باقتصادها وأمنها.
لعلّنا في ظل هذه المعمعة والأساليب المستخدمة من قبل جميع أطراف الأزمة بـبُعدها المحلي والإقليمي والدولي لصيرورة الاشكاليات، ودون إجراء تشخيص دقيق لنتائج الحرب الأهلية السورية، ودوافعها، والقوى الإقليمية والدولية الراعية لها، لن نحصل على الشكل الصحيح للتحليل والقراءة المستفيضة، وهو ما يستوجب ملامسة الحقائق وتطوراتها، وطبيعة النتائج الفعلية على الأرض ومفرزاتها، والتدرج في المسارات المتعددة والناتجة عن الارتباط الواضح للوضع السوري مع ما تشهده المنطقة ككل، وصولاً إلى عمق الدول الإقليمية ومخططاتها، وضرورة فهمها، وعلاقتها مع الدول الكبرى التي بدورها تنطلق من مبدأت الدفاع عن مصالحها وتكريسها على المدى البعيد، وحماية حلفائها في المنطقة.
" يدفعنا نتائج المقتلة السورية إلى قراءة عميقة في ذهنية النظام السوري، والعوامل التي أنتجت الانظمة والحكومات الدكتاتورية، وطبيعة توجهاتها حول الأزمة السورية، ومدى تأثيرها على سير الأحداث المماثلة في عموم الشرق الأوسط.
خلال هذه السياقات يمكن الحصول على القراءة العميقة للوضع السوري، وفهم أبعادها الاستراتيجية كما يجب، ومسبباتها المحلية، ومسببيها الإقليميين والدوليين، لأن هذا الحدث أصبح قضية عالمية ونموذج لأسوأ الحروب الأهلية الطويلة التي تشهدها المنطقة.
كيد أن ما نتج من أحداث عنيفة خلال السنوات التي شهدت ضراوة الحرب الأهلية السورية، ربطت بشموليتها بالمشهد الشرق الأوسطي ككل، لِمَ لها من ارتباط بالمصالح الدولية التي جعلت من سوريا بوابة لإظهار خلافاتها وتفاهماتها.
- لا بدَّ أن زيادة وتيرة الصدام العسكري بين القوى المحلية السورية ناجم عن تعبئة إقليمية ادارتها كلاً من تركيا وإيران وحلفائهما، مقابل صراع دولي تمسكت بزمام مجرياتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي بعد تدخلهما العسكري المباشر في سوريا ، وتسبب ذلك في تعميق هوة الشرخ الثقافي والسياسي داخل المجتمع السوري في ظل عناد النظام لإعادة البلاد إلى ما قبل الأزمة، وإصرار المعارضة في توجيه وتدمير المنظومة الاجتماعية بين مكوناتها الدينية والقومية التي أصبحت هوائية بفعل التناحرات الدولية على سوريا، وبالتالي ليس من السهل التغلب على الكم الهائل من الإشكاليات الناجمة عن هذه الظروف، ولا يمكن بعد ذلك التكهن بحلول مناسبة وسريعة. لذا فإن تجميع الحرب الأهلية السورية خلال مسار واحد مسألة غير منطقية وبعيدة عن الموضوعية في قراءة الأحداث، لأن تعدد مسارات هذه الأزمة وما نتجت عنها من أحداث يومية تستوجب فهم المسببات الرئيسية على المستوى المصالح الدولية والإقليمية قبل التعرج إلى طبيعة علاقة الأطراف المحلية السورية مع القوى الإقليمية والدولية.
إن تسارع الأحداث اليومية أفرزت الكثير من المعطيات السياسية والعسكرية على الأرض، ويتطلب منا ذلك التعمق في فهم الصورة الصحيحة، لأن القوة الكبرى هيمنت على مجريات الأحداث العسكرية في سوريا، وبثت عدد كبير من الاحجية التي تحتاج إلى فكها وتحديد سير مساراتها وأبعادها الإستراتيجية.
المادة القادمة من كتاب " مسارات الازمة السورية "
المسارات الثلاثة والمراحل المفصلية
المادة السابقة من كتاب " مسارات الأزمة السورية "